الأقنعة الأفريقية.. دين وفن وسحرAfrican masks religion,art & witchcraft
الأقنعة الأفريقية.. دين وفن وسحر
2003/08/13
د. مجدي سعيد
رغم أن فن الأقنعة (Masks) كان أحد الفنون التي عرفتها الكثير من الشعوب البسيطة منذ أقدم العصور مثل الإسكيمو والهنود الحمر وغيرها؛ فإنه انتشر بشكل خاص في إفريقيا حتى أصبحت تشكل عنوانا على هذا الفن وركنًا أساسيًا من أركانه إن لم نقل سمة مميزة له بين عامة الفنون التشكيلية.
والأقنعة الأفريقية هي نتاج مزيج من الدين والفن والسحر، وعلى الرغم من تعدادها الهائل في كل مكان فإننا قد لا نجد اثنين منها ينطبقان على بعضهما تمام الانطباق.
لكن قبل أن ندخل في عالم الأقنعة الأفريقية علينا أن نضع ذلك الفن في إطاره الأشمل: إطار الفن البدائي، وفن الأقنعة في العالم عموما.
خصائص الفن في المجتمعات القبلية
هناك خصائص وسمات عامة تجمع الفنون وممارستها في المجتمعات القبلية البسيطة:
– الجماعية في الممارسة والاستمتاع: ففي المجتمع البسيط نجد أن كل الأعضاء يحفظون الأغاني والألحان وخطوات الرقص ويجيدون الفنون التشكيلية.
– الشمولية: في حفلات القبيلة لتنصيب زعيم أو تكريس طبقة عمرية معينة نجد كل الفنون مجتمعة؛ فنرى الفنون التعبيرية كالرقص والغناء وإلقاء الشعر، ونجد الفنون التشكيلية في الأقنعة وأدوات الزينة والآلات الموسيقية، كل الفنون تتضافر لخلق الاستمتاع لأفراد القبيلة.
– التوارث: فمعظم الإنتاج الفني في المجتمع البدائي مجهول النشأة تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل، وحتى ما يضاف للميراث يصبح مع التداول منسوبًا للجماعة.
– الارتباط الوثيق بالكائنات فوق الطبيعية: في المجتمعات البدائية نجد الصلة وثيقة بين كافة أنواع الفنون والأرواح والأشباح والجن كمصدر رئيسي لتلك الفنون في إلهامها للبشر، وأيضًا نلاحظ تلك الصلة بين الطقوس التي تصاحب ممارسة تلك الفنون والهدف منها في إرضاء القوى الروحية.
– تعانق الفن مع النشاط اليومي للإنسان: إذ إن النشاط الفني والجمالي متشابك مع الأنشطة التي يمارسها الإنسان في المجتمع القبلي؛ فهو لا يعي ولا يستطيع التفرقة بين ما هو فن وما هر غير فن؛ فهو يزخرف الأواني التي يتناول فيها الطعام ويزين مسكنه ويجمل جسمه بالوشم والشلوخ والصبغات، ويتحلى بالحلي، ويرقص في أحزانه وأفراحه، ويعزف الموسيقى لإعلان الحرب، ويغني معبرًا عن مشاعره ووجدانه ومغازلا لشريكته، وينحت الأقنعة ليؤدي بها صلواته وطقوسه الدينية.
الأقنعة.. فن له وظيفة
قناع من قبيلة الإيكيت-نيجيريا
القناع هو بمثابة تمثُّل واستحضار لقوى الطبيعة المعظمة أو لأرواح الموتى الطوطمية أو الطواطم (والطوطم هو الرمز الأسطوري للقبيلة) أو للحيوانات المصطادة أو للأشخاص المحترمين أو من هم موضع سخرية. وتهدف الأقنعة إلى إيقاظ بعض العواطف المطلوبة في المجتمع مثل الشجاعة أو الغرور أو غيرهما. وقد تكون تعويذة ضد الأرواح الشريرة في الطقوس التي تقام للعلاج أو عند البلوغ أو للزراعة، وذلك بإخافتهم بأشياء مفزعة وقوية، أو إبقاء للأرواح المطلوبة عن طريق التعرف عليها واسترضائها لتحقيق الصحة أو الصيد أو إنبات المحاصيل أو الأشياء الأخرى الضرورية للحياة. الحفاظ على الوضع الاجتماعي لأعضاء المجتمعات الطوطمية. كذلك تهدف إلى الضبط الاجتماعي بالرعب أو السخرية. كما تهدف إلى التسلية وذلك بتمثيل القصص الدينية والدنيوية أو بالهجاء المؤدي إلى الضحك.
خامات الأقنعة
تصنع الأقنعة من عدد من الخامات، منها المواد الطبيعية مثل رؤوس الحيوانات وجلودها (مدبوغة أو غير مدبوغة) وثمار القرع والأعشاب وليف نخيل الرافيا وأوراق الشجر والريش والأشياء المصنعة من المواد الخام، مثل القماش المصنوع من لحاء الشجر ومواد السلال وقشور القمح المجدولة، والمواد التشكيلية مثل العاج والقواقع والعظام والخشب والسبج (زجاج بركاني أسود عادة) والمرمر واليشب (حجر كريم) والليجنت (نوع من الفحم الحجري) والفيروز، والخزف، والمعادن وهي حديثة الاستعمال نسبيًا في صناعة الأقنعة، ومنها الذهب والفضة والنحاس الأصفر والبرونز والنحاس والقصدير.
أما المواد المساعدة فهي مثل شعر الإنسان والحصان والفرو والريش والخرز والأسنان والبقول والصوف والأزهار وأجزاء من المرايا تستعمل كعيون لامعة وطلاء الوجه والجسم والقناع.
الأقنعة في المناطق الثقافية الأفريقية:
– في إفريقيا الشرقية التي يتركز الاهتمام الثقافي فيها حول الماشية، ويعبر عن مختلف القيم الثقافية بالرجوع إلى هذه الحيوانات، وبعض شعوب هذه المنطقة تنتمي للأقزام الرحل التي تعيش على الرعي، غير أن الأغلبية تؤمن معيشتها عن طريق الفلاحة البسيطة والرعي معًا. والأقنعة في تلك المناطق تصنع من الأعشاب لاستعمالها في المراسيم التي تقام للاحتفال بانتقال الأطفال إلى مرحلة البلوغ، كما أن هناك أقنعة خشبية كانت قبيلة الماكوندي تصنعها لاستعمالها في مناسبات مماثلة.
– أما في منطقة الكونغو وإفريقيا الوسطى فتحل الزراعة والتجارة محل العناية بالمواشي والفلاحة البسيطة؛ حيث كانت الأقنعة والتماثيل الصغيرة خلال العهد السابق للاستعمار تؤلف الأشكال الرئيسية الوحيدة في الإنتاج الفني لشعوب مثل البينا لولوا من البالوبا والبونجوي من الفانج، ويبدو كذلك أن الأقنعة المتعددة الألوان قد اقتبست في وقت لاحق عن جماعات مجاورة.
وتؤلف الأقنعة والتماثيل الصغيرة معظم ما أُنتج من الأشكال الفنية في العهود السابقة للاستعمار، وهي غنية في تعبيرها التشكيلي بقدر ما هي قيمة في حد ذاتها، والأقنعة هناك متعددة الألوان، وتشكل جزءًا من أزياء مفصلة متقنة الصنع لها أهداب كبيرة من الرافيا على غرار الأقنعة التي ترمز إلى وجوه الأسود عند قبيلة الباسونج..
وكان الراقصون يرتدون بعض هذه الأقنعة مع تنانير صنعت كلها من الحشائش، أما أجسام الراقصين فكانت تزين بالطين والرماد والفحم النباتي، وفي جهات أخرى كان الجسم كله يغطي بقماش فضفاض مهلهل أو بألياف الرافيا..
ومع أن معظم الأقنعة المصنوعة في منطقة الكونغو هي من الخشب الملون فقط؛ فإن هناك نماذج قليلة يدخل في صناعتها القماش والمعدن والأصداف والودع والخرز.. وهناك نماذج أخرى صنعت كلها بالصنارة أو بطريقة العقد، وسواء أجريت الطقوس في وضح النهار أم في الليل على ضوء ألسنة اللهب المتصاعدة من النيران، وسواء أكان الرقص فرديًا أم جماعيًا.. فإن هذه الأقنعة مع الحلل الكاملة التي صاحبتها كانت تخلق في المتفرجين شعورًا بالوقار وإحساسًا غريبًا بأسرار القوى الخفية التي تكتنف الآلهة والأسلاف والأرواح المنتشرة في العالم الطبيعي، أو بعبارة بسيطة: كانت تخلق فيهم شعورًا بالخوف من المجهول.
– وفي منطقة إفريقيا الغربية التي شهدت قيام عدد من الممالك الكبيرة وسقوطها نشأت مجتمعات زراعية بسيطة انحصر نشاطها الاقتصادي في تأمين الحاجات الأساسية، واقتصرت منتجاتها الفنية على عدد قليل من الأقنعة التي كانت تستعمل في الطقوس الاجتماعية. وإذا أمعنا النظر في الأقنعة والأشكال والأشغال الفنية التي أنتجت في العهود السابقة للاحتكاك مع الأوروبيين.. أمكننا أن نلمح بينات تشير إلى اقتباس الأفكار من الغير وإلى إعادة تأويل عناصر التصميم ومعالجتها بطريقة ابتكارية، وتشكل هذه كلها جزءًا من العملية الإبداعية..
وعلى وجه الإجمال يمكن القول بأن البؤرة التي تمركزت فيها ثقافات إفريقيا الغربية هي الدين، مع العلم أن أشكال الدين تختلف اختلافًا ملحوظًا من جماعة لأخرى، فثمة جماعة تؤكد قوة آلهة الطبيعة وترتبها في كيان هرمي.. هذا بالإضافة إلى ممارسة عبادة الأسلاف، وهناك جماعة ثانية تؤكد عبادة الأسلاف من السلالة الملكية، ولا تمنح إلا أهمية ثانوية لآلهة الطبيعة، بينما تعترف جماعة ثالثة بالقوى الطبيعية الكائنة في آلهة معينة، ولكنها ترفع من شأن الأرواح المحلية الفرعية وتوليها منزلة أعلى من منزلة آلهة الطبيعة، ولدى التعبير عن مفاهيم دينية في أشكال فنية عن طريق النحت والرسم والتصوير قد تركز جماعة ما على الأقنعة التي تعتبر مقر قوة آلهة الطبيعة والأرواح المحلية والأموات..
وقد أدت الأقنعة في إفريقيا الغربية وظيفة دينية وجمالية منذ أقدم العصور، وتنسب الروايات المتناقلة محليًا أصلها إلى عوامل مختلفة، منها الوحي الإلهي أو التعليمات التي تصدر عن الأموات أثناء الأحلام، أو الاقتباس من شعوب أقدم كما هو الحال عند الدوجون، ورغم وجود ما يعرف بالجمعيات السرية على درجات متفاوتة من الوازع الديني في جميع أنحاء المنطقة فإنها تستعمل كلها الأقنعة المنحوتة؛ فمثلا لا يرتدي أعضاء بعض مجتمعات اليوروبا إلا أزياء من القماش تغطي الجسم كليًا، ويقوم أحد الراقصين بتمثيل الأرواح الرئيسية، وقد يضع على رأسه صحنًا صغيرًا صلدًا غطي سطحه المنبسط بالقماش لتهبط عليه الروح إذا حضرت خلال إقامة إحدى الشعائر الدينية، بينما قد يلبس راقص آخر على رأسه غطاء منمقًا من الريش، يرمز إلى القوى التي تشرف على الزي، وكما هو الحال في الكونغو يتمتع الزي بكامله مع دلالته الرمزية بأهمية كبرى.
أما القناع المنحوت وهو ذلك القسم الذي يحظى بتقدير الأوروبيين من الناحية الفنية، فلا يؤلف إلا جانبًا جزئيًا من كيان مركب من تفاصيل كثيرة للدلالة في جملته على رمز معين.. وتستعمل بعض الأقنعة في الطقوس التي تقام للاحتفال بانتقال الأطفال إلى مرحلة البلوغ أو في الشعائر التي تقام لإجراء الحدود الاجتماعية والدينية، تستخدم أقنعة أخرى في احتفالات دينية وشبه دينية على حد سواء لتمثيل بعض المفاهيم المصطنعة كزفاف الشمس إلى القمر، كما هو الحال في الأقنعة المزدوجة عند الباوولي، ويجري تعريف المتفجرين إلى قوة الروح الخاصة بالشجرة التي صنع منها القناع، وكذلك إلى قوة الروح التي يمثلها القناع نفسه، كما هو الحال عند الدوجون مثلا، وقد تكون قوة الروح كبيرة جدًا فيكلف بحملها ثلاثة رجال يرتدون ثلاثة أقنعة متماثلة، كما يحدث مثلا عند الإيجبو من اليوروبا، وقد يكفي قناع آخر يرتديه شخص واحد لإيواء قوة عدة أرواح مع رسلها، كما هو الحال عند الأويو من اليوروبا أيضًا..
وتتفاوت الأقنعة في إفريقيا الغربية في مدى الأشياء التي تمثلها؛ فمنها ما يمثل آلهة أو أشخاصًا أظهروا قوى خارقة إبان حياتهم، ومنها ما يمثل خدم الآلهة ورسلها، وقد يكون هؤلاء حيوانات أو أشخاصًا يحملون رموزًا ويعكفون على عبادة الآلهة، ويظهر الراقصون المقنعون إما فرادى أو في جماعات، قبيل حلول الفصل الماطر، هذا إذا كان دورهم علنيًا وليس مقصورًا على الطقوس التي تشكل جزءًا من شعائر الاحتفال بالوصول إلى سن البلوغ.
أما وظيفة الأقنعة فهي طرد الأرواح الشريرة والأمراض والابتهال إلى الآلهة والأسلاف الذين قدمت التضحيات لهم استحضارًا للبركة والخير والخط السعيد، وحين لا تستعمل الأقنعة تحفظ في صناديق خاصة توضع في غابة صغيرة مقدسة قرب القرية أو في منزل زعيم المجتمع، وفي أوقات أخرى من السنة تقدم القرابين لاسترضاء الكثير من الأقنعة ابتغاء الحصول على خدمات خاصة، ويطبق ذلك أيضًا بالنسبة للأشياء المودعة الأخرى، مثل أشكال الآلهة التي ترمز إلى قوى خارقة للطبيعة.