الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو الداء والدواء… لأبن القيم
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
تأليف:
محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
الناشر:
دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان
الأولى، 1405هـ/1985م
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
ص -3- الجواب الكافي لابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم:
سئل الشيخ الإمام العالم العلامة المتقن الحافظ الناقد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح أبي بكر عرف بابن قيم الجوزية رضي الله عنه ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل ابتلى ببلية وعلم أنها إن استمرت به أفسدت دنياه وآخرته وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق فما يزداد إلا توقدا وشدة فما الحيلة في دفعها وما الطريق إلى كشفها فرحم الله من أعان مبتلى “والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى.
فكتب الشيخ رضي الله عنه تحت السؤال الجواب الحمد لله أما بعد فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء”
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم” لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله”.
في مسند الإمام أحمد من حديث أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله
ص -4- من جهله” وفي لفظ: “إن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدا قالوا: يا رسول الله ما هو قال: الهرم” قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وهذا يعم أدواء القلب والروح والبدن وأدويتها وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهل داء وجعل دواءه سؤال العلماء.
فروى أبو داوود في سننه من حديث جابر ابن عبد الله قال: “خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأله أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله! إلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه بخرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده” فأخبر أن الجهل داء وأن شفاءه السؤال وقد أخبر سبحانه عن القرآن أنه شفاء فقال الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} و”من” هنا لبيان الجنس لا للتبعيض فإن القرآن كله شفاء كما قال في الآية الأخرى فهو شفاء للقلوب من داء الجهل والشك والريب فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أشجع في إزالة الداء من القرآن.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: “انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب
ص -5- فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال: بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا: أيها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه فهل عند أحد منكم شيء فقال: بعضهم نعم والله إني لأرقى ولكن والله استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي وما به قلبة فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم: اقتسموا فقال الذي رقى لا نفعل حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر بما يأمرنا فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك فقال: وما يدريك إنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم اقتسموا واضربوا لى معكم سهما فقد أثر هذا الدواء في هذا الداء وأزاله حتى كأن لم يكن وهو أسهل دواء وأيسره ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيرا عجيبا في الشفاء ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء ولا أجد طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأري لها تأثيرا عجيبا فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما وكان كثير منهم يبرأ سريعا.
ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الأذكار والآيات أوالأدعية التي يستشفى بها ويرقابها هي في نفسها نافعة شافية ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية فإن عدم تأثيرها قد يكون لعدم قبول الطبيعة
ص -6- لذلك الدواء وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول فكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام وكان للراقى نفس فعالة وهمة مؤثرة في إزالة الداء.
وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب ولكن قد يتخلف أثره عنه إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا وإما لحصول المانع من الاجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو وغلبتها عليها كما في صحيح الحاكم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أدعو الله وأنتم موقنون بالاجابة”
واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه فهذا دواؤنا نافع مزيل للداء ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم “أيها الناس إن الله طيب لايقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك” وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه “أصاب بني إسرائيل بلاء فخرجوا
ص -7- مخرجا فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون الي أكفا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام الآن حين اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني الابعدا” وقال ابو ذر: “يكفى من الدعاء البرأ ما يكفى الطعام من الملح”
فصل:
والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلأ يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن كما روى الحاكم في صحيحه من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والأرض”
وله مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أم يكون أقوي من البلاء فيدفعه
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه
وقد روي الحاكم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يغنى حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة”
وفيه أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الدعاء ينفع بما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء”
وفيه أيضا من حديث ثوبان رضي الله عنه عن صلى الله عليه وسلم: “لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه”
ص -8- فصل:
ومن أنفع الأدوية الالحاح فى الدعاء:
وقد روى ابن ماجة في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يسأل الله يغضب عليه”
وفي صحيح الحاكم من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم “لاتعجزوا فى الدعاء فإنه لايهلك مع الدعاء أحد”
وفى كتاب الزهد للامام أحمد عن قتادة قال: قال مورق: “ما وجدت للمؤمن مثلا إلا رجل في البحر على خشبة فهو يدعو يا رب يا رب لعل الله عز وجل أن ينجيه”
فصل:
ومن الآفات التى تمنع ترتب أثر الدعاء عليه أن يستعجل العبد ويستبطي الاجابة فيستحسر ويدع الدعاء وهو بمنزلة من بذر بذرا أو غرس غرسا فجعل يتعاهده ويسقيه فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله.
وفى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يستجاب لاحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي”.
وفي صحيح مسلم عنه: “لايزال يستجاب للعبد ما لم يدع بأثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله ما الاستعجال قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لى فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء”
ص -9- وفي مسند أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل قالوا: يا رسول الله كيف يستعجل قال: يقول قد دعوت لربي فلم يستجيب لي”
فصل:
وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب وصادف وقتا من أوقات الإجابة الستة وهي الثلث الأخير من الليل وعند الأذان وبين الأذان والإقامة وأدبار الصلوات المكتوبات وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم وآخر ساعة من بعد العصر وصادف خشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلاله وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله تعالى وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده صلى الله عليه وسلم ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعائه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم.
فمنها ما في السنن وفي صحيح ابن حبان من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: “اللهم إني أسالك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن كفوا أحد فقال: لقد سأل الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطي وإذا دعي به أجاب” وفي لفظ “لقد سألت الله باسمه الاعظم”
وفي السنن وصحيح ابن حبان أيضا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: “أنه كان
ص -10- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلى ثم دعا فقال: اللهم إني أسالك بأن لك الحمد لا إله أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى”
وأخرج الحديثين الإمام أحمد في مسنده
وفى جامع الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وفاتحة آل عمران {آلم اللَّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
في مسند الإمام أحمد وصحيح الحاكم من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام” يعنى تعلقوا بها وألزموها وداوموا عليها.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء وإذا اجتهد في الدعاء قال: يا حي يا قيوم”.
وفيه أيضا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث”.
وفى صحيح الحاكم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن البقرة وآل عمران وطه” قال القاسم: فالتمستها فإذا هي آية {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
وفي جامع الترمذي وصحيح الحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت”{أَنْ
ص -11- لا إِلَهَ إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} إنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له قال الترمذي: حديث صحيح.
وفى مستدرك الحاكم أيضا من حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم أمر مهم فدعا به يفرج الله عنه؟ دعاء ذي النون”
وفي صحيحه أيضا عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “هل أدلكم على اسم الله الأعظم؟ دعاء يونس فقال رجل: يا رسول الله هل كانت ليونس خاصة؟ فقال: إلا تسمع قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} فأيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد وإن بريء بريء مغفور له”.
وفي الصحيحين من حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: “لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض رب العرش الكريم”.
وفى مسند الإمام أحمد من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين”
وفي مسنده أيضا من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك
ص -12- أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله عز وجل همه وحزنه وأبدله مكانه فرحا فقيل: يا رسول الله إلا نتعلمها؟ قال: بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها”.
وقال ابن مسعود: “ما كرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح”
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب المجانين في الدعاء عن الحسن قال: “كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكني أبا معلق وكان تاجرا يتجر بمال له ولغيره يضرب به في الآفاق وكان ناسكا ورعا فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له: ضع ما معك فاني قاتلك قال: فما تريد من دمي؟ فشأنك بالمال قال: أما المال فلي ولست أريد إلا دمك قال أما إذا أبيت فذرني أصلى أربع ركعات قال: صلى ما بدا لك فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجوده أن قال: يا ودود يا ودود يا ذ العرش المجيد يا فعالا لما تريد أسألك بعزك الذي لا يرام وبملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني ثلاث مرات فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة قد وضعها بين أذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله ثم أقبل إليه فقال: قم فقال: بأبي أنت وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم فقال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي: دعاء مكروب فسألت الله أن يوليني قتله قال
ص -13- الحسن: فمن توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب
فصل:
وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله أو حسنة تقدمت منه جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته أو صادف الدعاء وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا في الوقت الذي ينبغي استعماله على الوجه الذي ينبغي فانتفع به فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب كان غالطا وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس.
ومن هذا أنه قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجاء إلى الله فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحب إلى الله.
فصل:
والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح والسلاح بضاربه لا بحده فقط فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به والساعد ساعد قوي والمانع مفقود حصلت به النكاية في العدو ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء أو كان ثمَََّ مانع من الإجابة لم يحصل الأثر.
ص -14- فصل:
وهاهنا سؤال مشهور وهو أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع وإن لم يكن قد قدر لم يقع سواء سأله العبد أو لم يسأله.
فظنت طائفة صحة هذا السؤال فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلا بد من وقوعهما أكلت أو لم تأكل وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل وإن كان الولد قد قدر لك فلابد منه وطأت الزوجة أو الأمة أو لم تطأ وإن لم يقدر ذلك لم يكن فلا حاجة إلى التزويج والتسري وهلم جرا فهل يقال هذا عاقل أو آدمي بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
وتكايس بعضهم وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا المتكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق.
ص -15- زمن الشتاء فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب له وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار والحرق مع الإحراق والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سببا ألبته ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء بل أضحكوا عليهم العقلاء
والصواب: أن هاهنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء فلم يقدر مجردا عن سببه ولكن قدر سببه فمتى أتي العبد بالسبب وقع المقدور ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال وهذا القسم هو الحق وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له.
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب.
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأفقههم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يستنصر به على عدوه وكان أعظم جنديه وكان يقول للصحابه: “لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء” وكان يقول:
ص -16- فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة فإن الله سبحانه يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ}
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم يسأل الله يغضب عليه” وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد: أثرا “أنا الله لا إله إلا أنا إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد”
وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه الله بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه
وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له كقوله تعالى:
ص -17- {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وهذا كثير جدا وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقوله: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} ونظائره وتارة يأتي بلام التعليل كقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} وقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل كقوله: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وتارة يأتي بباء السببية كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهرا أو محذوفا كقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وكقوله تعالى: {أَنْ
ص -18- تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} وقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} أي كراهة أن تقولوا وتارة يأتي بفاء السببية كقوله تعالى: {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها} وقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} ونظائره وتارة يأتي بأداة لما الدالة على الجزاء كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ونظائره وتارة يأتي بإن وما علمت فيه كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وقوله في ضد هؤلاء: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وتارة يأتي بلو الدالة على الشرط كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}
وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال
ومن تفقه هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع ولم يتكل على القدر جهلا منه وعجزا وتفريطا وإضاعة فيكون توكله عجزا وعجزه توكلا بل الفقيه كل الفقيه الذي يرد القدر بالقدر ويدفع القدر بالقدر ويعارض القدر بالقدر بل لا يمكن الإنسان أن يعيش إلا بذلك فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر والخلق كلهم ساعون
ص -19- في دفع هذا القدر بالقدر وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة فهذا وزان القدر المخوف في الدنيا وما يضاده فرب الدارين واحد وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضا ولا يبطل بعضها بعضا فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ورعاها حق رعايتها والله المستعان.
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه:
أحدهما: أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير وتكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم وما جربه في نفسه وغيره وما سمعه في أخبار الأمم قديما وحديثا.
ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة ثم السنة فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما حتى كأنك تعاين ذلك عيانا وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق وأن الرسول حق وأن الله ينجز وعده لا محالة فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر
فصل:
الأمر الثاني: أن يحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب وهذا من أهم الأمور فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ولا بد ولكن تغالطه نفسه بالاتكال على عفو الله ومغفرته تارة وبالتسويف
ص -20- بالتوبة والاستغفار باللسان تارة وبفعل المندوبات تارة وبالعلم تارة وبالاحتجاج بالقدر تارة وبالاحتجاج بالأشباه والنظراء تارة وبالاقتداء بالأكابر تارة أخرى
وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ثم قال: أستغفر الله زال الذنب وراح هذا بهذا وقال لي رجل من المنتسبين إلى الفقه: أنا أفعل ما أفعل ثم أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة وقد غفر ذلك أجمعه كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر” وقال لي آخر من أهل مكة: نحن أحدنا إذا فعل ما فعل ثم اغتسل وطاف بالبيت أسبوعا وقد محي عنه ذلك وقال لي آخر: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أذنب عبد ذنبا فقال: أي رب أصبت ذنبا فاغفر لي فغفر الله ذنبه ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فقال: أي رب أصبت ذنبا فاغفر لي فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليصنع ما شاء” وقال: أنا لا أشك أن لي ربا يغفر الذنب ويأخذ به وهذا الضرب من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء واتكل عليها وتعلق بكلتا يديه وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها سرد لك ما يحفظه من سعة رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائب وعجائب كقول بعضهم:
وكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
وقول الآخر: التنزه من الذنوب جهل بسعة عفو الله
وقال الآخر: ترك الذنوب جراءة على مغفرة الله واستصغار
ص -21- وقال محمد بن حزم: رأيت بعض هؤلاء من يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من العصمة.
ومن هؤلاء المغرورين من يتعلق بمسألة الجبر وأن العبد لا فعل له البتة ولا اختيار وإنما هو مجبور على فعل المعاصي.
ومن هؤلاء من يغتر بمسألة الإرجاء وأن الإيمان هو مجرد التصديق والأعمال ليست من الإيمان وأن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل.
ومن هؤلاء من يغتر بمحبة الفقراء والمشايخ والصالحين وكثرة التردد إلي قبورهم والتضرع إليهم والاستشفاع بهم والتوسل إلى الله بهم وسؤاله بحقهم عليه وحرمتهم عنده.
ومنهم من يغتر بآبائه وأسلافه وأن لهم عند الله مكانا وصلاحا فلا يدعوه أن يخلصوه كما يشاهد في حضرة الملوك فإن الملوك تهب لخواصهم ذنوب أبنائهم وأقاربهم وإذا وقع أحد منهم في أمر مفظع خلصه أبوه وجده بجاهه ومنزلته.
ومنهم من يغتر بإن الله عز وجل غني عن عذابه وعذابه لا يزيد في ملكه شيئا ورحمته له لا تنقص من ملكه شيئا فيقول: أنا مضطر إلى رحمته وهو أغنى الأغنياء ولو أن فقيرا مسكينا مضطرا إلى شربة ماء عند من في داره شط يجري لما منعه منها فالله أكرم وأوسع والمغفرة لا تنقصه شيئا والعقوبة لا تزيد في ملكه شيئا.
ص -22- والفسقة والخونة والمصرين على الكبائر فحاشا لرسوله أن لا يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى وكاتكال بعضهم على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} وهذا أيضا من أقبح الجهل فإن الشرك داخل في هذه الآية فإنه رأس الذنوب وأساسها ولا خلاف أن هذه الآية في حق التائبين فإنه يغفر ذنب كل تائب من أي ذنب كان ولو كانت الآية في حق غير التائبين لبطلت نصوص الوعيد كلها وأحاديث إخراج قوم من الموحدين من النار بالشفاعة وهذا إنما أتي صاحبه من قلة علمه وفهمه فإنه سبحانه هاهنا عمم وأطلق فعلم أنه أراد التائبين.
وفي سورة النساء خصص وقيد فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأخبر الله سبحانه أنه لا يغفر الشرك وأخبر أنه يغفر ما دونه ولو كان هذا في حق التائب لم يفرق بين الشرك وغيره وكاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فيقول: كرمه وقد يقول بعضهم: إنه لقن المغتر حجته وهذا جهل قبيح وإنما غره به الغرور وهو الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء وجهله وهواه وأتي سبحانه بلفظ {الْكَرِيمِ} وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه فوضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به وكاغترار بعضهم بقوله تعالى في النار: {لا يَصْلاهَا إلا الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ولم يدر هذا المغتر أن قوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} هي نار مخصوصة من جملة دركات جهنم ولو كانت جميع جهنم فهو سبحانه لم يقل لا يدخلها بل قال: {لا يَصْلاهَا إلا الأَشْقَى} ولا يلزم من عدم صليها عدم دخولها فإن الصلى أخص من الدخول ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم
ص -23- ثم إن هذا المغتر لو تأمل الآية التي بعدها لعلم أنه غير داخل فيها فلا يكون مضمونا له أن يجنبها
وأما قوله في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فقد قال في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ولا ينافى إعداد النار للكافرين أن يدخلها الفساق والظلمة ولا ينافى إعداد الجنة للمتقين أن يدخلها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان ولم يعمل خيرا قط.
وكاغترار بعضهم بالاعتماد على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول بعضهم صوم يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر ولم يدر هذا المغترأن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر فرمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة لايقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها فيقوي مجموع الأمرين على تكفير الصغائر فكيف يكفر صوم يوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها؟ هذا محال على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء يكفر لجميع ذنوب العام على عمومه وتكون من نصوص الوعد التي لها شروط وموانع ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير فإذا لم يصر على الكبائر لتساعد الصوم وعدم الإصرار وتعاونهما على عموم التكفير كما كان رمضان والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر مع أنه سبحانه قد قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فعلم أن جعل الشيء سببا للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسبب آخر على التكفير ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما وكلما قويت أسباب التكفير كان أقوى وأتم وأشمل.
ص -24- وكاتكال بعضهم على قوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه: “أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن بي ماشاء” يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه وهذا موجود في الشاهد فإن العبد الآبق المسي الخارج عن طاعة سيده لا يحسن الظن به ولا يجامع وحشة الإساءة إحسان الظن أبدا فإن المسيء مستوحش بقدر إساءته وأحسن الناس ظنا بربه أطوعهم له كما قال الحسن البصري: “إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل”
فكيف يكون يحسن الظن بربه من هو شارد عنه حال مرتحل في مساخطه وما يغضبه متعرض للعنته قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه؟ وكيف يحسن الظن به من بارزه بالمحاربة وعادى أولياءه ووالى أعداءه وجحد صفات له وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟ وكيف يحسن الظن بمن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب وقد قال الله في حق من شك في تعلق سمعه ببعض الجزئيات وهو السر من القول: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فهؤلاء لما ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرا مما يعملون كان هذا إساءة لظنهم بربهم فأرداهم ذلك الظن وهذا شأن كل من جحد صفات كماله ونعوت جلاله ووصفه بما لا يليق به فإذا ظن هذا أنه يدخله الجنة كان هذا غرورا وخداعا من نفسه وتسويلا من الشيطان لا إحسان ظن بربه.
ص -25- فتأمل هذا الموضوع وتأمل شدة الحاجة إليه وكيف يجتمع في قلب العبد تيقنه بأنه ملاق الله وأن الله يسمع ويري مكانه ويعلم سره وعلانيته ولا يخفى عليه خافية من أمره وأنه موقوف بين يديه ومسئول عن كل ما عمل وهو مقيم على مساخطه مضيع لأوامره معطل لحقوقه وهو مع هذا يحسن الظن به وهل هذا إلا من خدع النفوس وغرور الأماني وقد قال أبو أمامة بن سهل بن حليف: “دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة رضي الله عنها فقالت: لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض له وكانت عنده ستة دنانير أو سبعة فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفرقها قالت: فشغلني وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله ثم سألني عنها فقال: ما فعلتِ؟ أكنت فرقت الستة الدنانير فقلت: لا والله لقد شغلني وجعك فدعا بها فوضعها في كفه فقال: ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟ “وفي لفظ “ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده”.
فيا لله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه ومظالم العباد عندهم فإن كان ينفعهم قولهم حسنا ظنوننا بك إنك لم تعذب ظالما ولا فاسقا فليصنع العبد ما شاء وليرتكب كل ما نهاه الله عنه وليحسن ظنه بالله فإن النار لا تمسه فسبحان الله؟ ما يبلغ الغرور بالعبد وقد قال إبراهيم لقومه: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره.
ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ويتقبلها منه فالذي حمله على حسن العمل حسن الظن فكلما حسن ظنه حسن عمله وإلا فحسن الظن مع ابتاع الهوى عجز
ص -26- كما في الترمذي والمسند من حديث شداد ابن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله”.
وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتي إحسان الظن.
فإن قيل: بل يتأتي ذلك ويكون مستند حسن الظن سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وأن رحمته سبقت غضبه وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو
قيل: الأمر هكذا والله فوق ذلك وأجل وأكرم وأجود وأرحم ولكن إنما يضع ذلك في محله اللائق به فإنه سبحانه موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش وعقوبة من يستحق العقوبة فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البر والفاجر والمؤمن والكافر ووليه وعدوه فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته وواقع في محارمه وانتهك حرماته بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع وبدل السيئة بالحسنة واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم أحسن الظن بعدها فهذا حسن ظن والأول غرور والله المستعان.
ولا تستطل هذا الفصل فإن الحاجة إليه شديدة لكل أحد يفرق بين حسن الظن بالله وبين الغرور به قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} فجعل هؤلاء أهل الرجاء لا الظالمين والفاسقين وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها فالعالم يضع الرجاء مواضعه والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه.
ص -27- فصل:
وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه وضيعوا أمره ونهيه ونسوا أنه شديد العقاب وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند.
قال معروف: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق.
وقال بعض العلماء: من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا.
وقيل: للحسن: نراك طويل البكاء فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي وكان يقول: إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة يقول أحدهم: لأني أحسن الظن بربي وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل.وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تدرك أمنا خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور في النار كما يدور الحمار برحاه فيطوف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه”
وذكر الإمام أحمد من حديث أبي رافع قال: “مر رسول الله صلى الله عليه
ص -28- وسلم بالبقيع فقال: أف لك أف لك فظننت أنه يريدني فقال: لا ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعيا إلى آل فلان فغل نمرة فدُرِّع الآن مثلها من نار”.
وفي مسنده أيضا من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء قالوا: خطباء من أمتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم”
وفيه أيضا عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: “يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال: نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء”
وفيه أيضا عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: “مالي لم أر ميكائيل ضاحكا قط قال: ما ضحك منذ خلقت النار”
وفي صحيح مسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مربك نعيم قط فيقول: لا والله يا رب ويؤتي بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مربي بؤس قط ولا رأيت شدة قط”
ص -29- وفي المسند من حديث البراء بن عازب قال: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان أهل الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أخرجي أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفخة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال: فتعاد روحه إلى الأرض فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك فيقول: ربي الله عز وجل فيقولان له: ما دينك فيقول: ديني الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول: هو محمد رسول الله فيقولان له: وما علمك فيقول: قرأت كتاب الله عز وجل فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره
ص -30- مد بصره قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: له فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبتل فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين وفي الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول: هاه هاه لا أدري فينادى مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوا له من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الرجل قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي
ص -31- كنت توعد فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة”
وفي لفظ لأحمد أيضا: “ثم يقبض له أعمي أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبلا كان ترابا فيضربه ضربة فيصير ترابا ثم يعيده الله عز وجل كما كان فيضربه ضربة أخري فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين” قال البراء: “ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار”
وفي المسند أيضا عنه قال: “بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال: على ما اجتمع هؤلاء؟ قيل: على قبر يحفرونه ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهي إلى القبر فجثا على ركبتيه فاستقبلته بين يديه لأنظر ما يصنع فبكى حتى بل الثرى من دموعه ثم أقبل علينا فقال: أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا”
وفي المسند من حديث بريدة قال: “خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات يا أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم فبعثوا رجلا يتراءى لهم فأبصر العدو فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه أيها الناس أُتيتم أيها الناس أُتيتم ثلاث مرات”
وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل ما أسكر حرام وإن على الله عز وجل عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قيل: وما طينة الخبال قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار”
وفي المسند أيضا من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني أرى ما لا ترون وأسمع مالا تسمعون أطَّت السماء وحق لها أن تئط
ص -32- ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك يسبح الله ساجدا لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجاورن إلى الله تعالى” قال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد
وفي المسند أيضا من حديث حذيفة قال: “كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما انتهينا إلى القبر قعد على ساقيه فجعل يردد بصره فيه ثم قال: يضغط المؤمن فيه ضغطة تزول منها حمائله ويملأ على الكافر نارا” والحمائل: عروق الأنثيين.
وفي المسند أيضا من حديث جابر قال: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ حين توفى فلما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع في قبره وسوى عليه سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبحنا طويلا ثم كبر فكبرنا فقيل: يا رسول الله لما سبحت؟ ثم كبرت فقال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه”
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق”
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تدنوا الشمس يوم القيامة على قدر ميل ويزاد في حرها كذا وكذا تغلي منها الرؤوس كما تغلي القدور يغرقون فيها على قدر خطاياهم منهم من يبلغ إلى كعبه ومنهم من يبلغ إلى ساقيه ومنهم من يبلغ إلى وسطه ومنهم من يلجمه العرق”
وفيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كيف أنعم وصاحب
ص -33- القرن قد التقم القرن وحتى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ فقال أصحابه: كيف نقول؟ قال: “قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا”
وفي المسند أيضا عن ابن عمر يرفعه: “من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقى الله تبارك وتعالى وهو عليه غضبان”
وفي الصححين عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المصورين يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: احيوا ما خلقتم”
وفيه أيضا عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل يوم القيامة”
وفيهما أيضا عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا صار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار جيء بالموت حتى يوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادى مناد يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم”
وفي المسند عنه قال: “من اشترى ثوبا بعشرة دراهم فيها درهم حرام لم يقبل الله له صلاة مادام عليه” ثم أدخل أصبعيه في أذنيه ثم قال: صمتا إن لم أكن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوله
وفيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من ترك الصلاة سكرا مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ومن ترك الصلاة سكرا أربع مرات كان حقا على الله أن يسقيه طينة الخبال قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله: قال: عصارة أهل جهنم”
وفيه أيضا عنه مرفوعا: “من شرب الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين
ص -34- صباحا فإن تاب تاب الله عليه فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة”
وفي المسند أيضا من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من مات مدمنا للخمر سقاه الله من نهر الغوطة قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن”
وفيه أيضا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان: فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله”
وفي المسند أيضا من حديث بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وضرب لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يضرب الجسر على جهنم فأكون أول من يجوز ودعوى الرسول يومئذ اللهم سلم سلم و على حافتيه كلاليب مثل شوك السعدان تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموثق بعمله ومنهم المخردل ثم ينجوا حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يرحم ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله أمر الملائكة أن يخرجوهم فيعرفونه بعلامة آثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود فيخرجونهم وقد امتحشوا فيصب عليهم من ماء يقال له: ماء الحياة فينبتون نبات الحبة في حميل المسيل”
ص -35- وفي صحيح مسلم عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمة فعرفها فقال: ما عملت فيها قال: قاتلت فيك حتى قتلت قال: كذبت ولكن قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها قال: تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن فقال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم فقد قيل: وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه رزقه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار وفي لفظ فهؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة”
وسمعت شيخ الإسلام يقول: كما أن خير الناس الأنبياء فشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم فخير الناس بعدهم العلماء والشهداء والصديقون والمخلصون وشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم”
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “من كانت عنده لأخيه مظلمة في مال أو عرض فليأته فليستحلها منه قبل أن يؤخذ وليس عنده دينار ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته فأعطيها هذا وإلا أخذ من سيئات هذا فطرحت عليه ثم طرح في النار”
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن صلى الله عليه وسلم
ص -36- قال: “من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين”
وفي الصحيحين عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ناركم هذه التي يوقد بنوا آدم جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا: والله إن كانت لكافية قال: فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها”
وفي المسند عن معاذ قال: “أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت أو حرقت ولا تعقنَّ والديك وان أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ولا تشربن خمرا فإنه رأس كل فاحشة وإياك والمعصية فإن المعصية تحل سخط الله” والأحاديث في هذا الباب أضعاف أضعاف ماذكرنا فلا ينبغي لمن تصح نفسه أن يتعامى عنها ويرسل نفسه في المعاصي ويتعلق بحسن الرجاء وحسن الظن.
قال أبو الوفاء بن عقيل احذره ولا تغتر به فإنه قطع اليد في ثلاثة دراهم وجلد الحد في مثل رأس الإبرة من الخمر وقد دخلت المرأة النار في هرّة واشتعلت الشملة نارا على من غلها وقد قتل شهيدا”
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: “دخل رجل الجنة في ذباب ودخل رجل النار في ذباب قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرّب له شيئا فقالوا لأحدهما: قرب قال: ليس عندي شيء قالوا: قرّب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلو سبيله فدخل النار وقالوا للآخر:
ص -37- قرب قال: ما كنت لأقرب شيئا من دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة” وهذه الكلمة الواحدة يتكلم بها العبد يهوى بها في النار أبعد مابين المشرق والمغرب.
وربما اتكل بعض المغترين على ما يرى من نعم الله عليه في الدنيا وأنه لا يغير به ويظن أن ذلك من محبة الله له وأنه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك وهذا من الغرور.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحي بن غيلان حدثنا رشدين بن سعد عن حرملة بن عمران النحبيبي عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج “ثم تلى قوله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}
وقال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يتابع عليك نعمة وأنت مقيم على معاصيه فاحذره فإنما هو استدراج منه يستدرجك به وقد قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} وقد رد سبحانه على من يظن هذا الظن بقوله: {فَأَمَّا الأِنْسَانُ إذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كُلاً} أي ليس كل من نعَّمتَه ووسعت عليه رزقه أكون قد أكرمته وليس كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته بل أبتلى هذا بالنعم وأكرم هذا بالابتلاء.
ص -38- وفي جامع الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: “إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب”
وقال بعض السلف: رُبَّ مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم ورُبَّ مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم ورُبَّ مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم.
فصل:
وأعظم الخلق غرورا من اغتر بالدنيا وعاجلها، فآثرها على الآخرة ورضي بها من الآخرة، حتى يقول بعض هؤلاء: الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد أحسن من النسيئة. ويقول بعضهم: ذرة منقودة، ولا ذرة موعودة، ويقول آخر منهم: لذات الدنيا متيقنة، ولذات الآخرة مشكوك فيها، ولا أدع اليقين بالشك.
وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله. والبهائم العجم أعقل من هؤلاء فإن البهيمة إذا خافت مضرة شيء لم تقدم عليه ولو ضربت، وهؤلاء يقدم أحدهم على عطبه وهو بين مصدق ومكذب
فهذا الضرب إن آمن أحدهم بالله ورسوله ولقائه والجزاء فهو من أعظم الناس حسرة لأنه أقدم على علم وإن لم يؤمن بالله ورسوله فأبعد له.
وقول القائل: النقد خير من النسيئة، جوابه: إذا تساوى النقد والنسيئة فالنقد خير. وإن تفاوتا وكانت النسيئة أكثر وأفضل فهي خير. فكيف والدنيا كلها من أولها إلى آخرها كنفس واحد من أنفاس الآخرة؟ كما في مسند الإمام أحمد والترمذي من حديث المستورد بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع؟ ” فإيثار هذا النقد على هذه النسيئة من أعظم الغبن وأقبح
ص -39- الجهل وإذا كان هذا نسبة الدنيا بمجموعها إلى الآخرة، فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة؟ فأيما أولى بالعاقل؟ إيثار العاجل في هذه المدة اليسيرة، وحرمان الخير الدائم في الآخرة، أم ترك شيء صغير حقير منقطع عن قرب، ليأخذ ما لا قيمة له ولا خطر له ولا نهاية لعدده ولا غاية لأمده.
فأما قول الآخر: لا أترك متيقنا لمشكوك فيه فيقال له: إما أن تكون على شك من وعد الله ووعيده وصدق رسله، أو تكون على يقين من ذلك، فإن كنت على يقين من ذلك فما تركت إلا ذرة عاجلة منقطعة فانية عن قرب لأمر متيقن لا شك فيه ولا انقطاع له وإن كنت على شك فراجع آيات الرب تعالى الدالة على وجوده وقدرته ومشيئته ووحدانيته وصدق رسله فيما أخبروه به عن الله وتجرَّد وقُم لله ناظرا أو مناظرا حتى يتبين لك ان ما جاءت به الرسل عن الله فهو الحق الذي لا شك فيه وأن خالق هذا العالم ورب السموات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنزه عن خلاف ما أخبرت به رسله عنه ومن نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه وكذبه وأنكر ربوبيته وملكه إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة أن يكون الملك الحق عاجزا أو جاهلا لا يعلم شيئا ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يثيب ولا يعاقب ولا يعز من يشاء ولا يذل من يشاء ولا يرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها ولا يعتني بأحوال رعيته بل يتركهم سدى ويخليهم هملا وهذا يقدح في ملك آحاد ملوك البشر ولا يليق به فكيف يجوز نسبة الملك الحق المبين إليه؟
وإذا تأمل الإنسان حاله من مبدأ كونه نطفة إلى كماله واستوائه تبين له أن من عنى به هذه العناية ونقله في هذه الأحوال وصرَّفه في هذه الأطوار لا يليق به أن يهمله ويتركه سدًى لا يأمره ولا ينهاه ولا يعرّفه حقوقه عليه ولا يثيبه ولا يعاقبه ولو تأمل العبد حق التأمل لكان كل ما يبصره وما لا
ص -40- يبصره دليلا على التوحيد والنبوة والمعاد وأن القرآن كلامه وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذاك في كتاب أيمان القرآن عند قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وذكرنا طرفا من ذلك عند قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وأن الإنسان دليل على وجود خالقه وتوحيده وصدق رسله وإثبات صفات كماله
فقد بان أن المضيع مغرور على التقديرين: تقدير تصديقه ويقينه وتقدير تكذيبه وشكه
فإن قلت: كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدا إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة أو يكرمه أتم كرامة ويبيت ساهيا غافلا لا يتذكر موقفه بين يدي الملك ولا يستعيد له ولا يأخذ له أهبته
قيل: لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء وهذا التخلف له عدة أسباب
أحدها: ضعف العلم ونقصان اليقين ومن ظن أن العلم لا يتفاوت فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها
وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عيانا بعد علمه بقدرة الرب على ذلك ليزداد طمأنينة ويصير المعلوم غيبا شهادة
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” ليس المخبر كالمعاين ”
ص -41- فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده وانضم إلى ذلك تقاضي الطبع وغلبات الهوى واستيلاء الشهوة وتسويل النفس وغرور الشيطان واستبطاء الوعد وطول الأمل ورقدة الغفلة وحب العاجلة ورخص التأويل وإلف العوائد فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال حتى ينتهي على أدنى مثقال ذرة في القلب
فصل:
فقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور وأن حسن الظن إن حمل على العمل وحث عليه وساق إليه فهو صحيح وإن دعا البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور وحسن الظن هو الرجاء فمن رجاؤه هاديا إلى الطاعة وزاجرا عن المعصية فهو رجاء صحيح ومن كانت بطالته رجاء ورجاؤه بطالة وتفريطا فهو المغرور ولو أن رجلا كانت له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يبذرها ولم يحرثها وحسن ظنه بأنه يأتي من مغلها ما يأتي من حرث وبذر وسقى وتعاهد الأرض لعدة الناس من أسفه السفهاء وكذلك لو حسن ظنه وقوي رجاؤه بأن يجيئه ولد من غير جماع أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب وحرص تام عليه وأمثال ذلك فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات نواهيه وبالله التوفيق
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
ص -42- اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات؟
فإن المغرورون: إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين على عباده المتجرئين على محارمه أولئك يرجون رحمة الله
وسر المسألة: أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله في شرعه وقدره وثوابه وكرامته فيأتي العبد بها ثم يحسن ظنه بربه ويرجوه أن لا يكله إليها وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه ويضرب عما يعارضها ويبطل أثرها
ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئا رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدها: محبته ما يرجوه
الثاني: خوفه من فواته
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان
وأما رجاء لايقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني والرجاء شيء والأماني شيء آخر فكل راج خائف والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خاف أدلج ومن المنزل إلا إن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة” وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة فعلم أن الرجاء والخوف النافع هو ما اقترن به العمل قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ
ص -43- وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت: “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقلت أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرفون؟ فقال: لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات” وقد روى من حديث أبى هريرة أيضا
والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن
ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف ونحن جمعنا بين التقصير بل التفريط والأمن فهذا الصديق يقول: “وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن” ذكره أحمد عنه
وذكر عنه أيضا انه كان يمسك بلسانه ويقول: “هذا الذي أوردني الموارد وكان يبكى كثيرا ويقول: أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل وأتي بطائر فقلبه ثم قال: ما صيد من صيد ولا قطعت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح فلما احتضر قال لعائشة: يا بنية إني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذه الحلاب وهذا العبد فأسرعى به إلى بن الخطاب وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد
وقال قتادة بلغني أن أبا بكر قال: “ليتني خضرة تأكلني الدواب”
ص -44- وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه
وقال لابنه وهو في الموت: ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني ثم قال: بل ويل أمي إن لم يغفر الله لي ثلاثا ثم قضى وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه فيبقى في البيت أياما يعاد يحسبونه مريضا وكان في وجهه رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء وقال له ابن عباس: مصر الله بك الأمصار وفتح بك الفتوح وفعل فقال: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكى حتى تبل لحيته وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير
وهذا على بن أبي طالب رضي الله عنه وبكاؤه وخوفه وكان يشتد خوفه من اثنتين طول الأمل واتباع الهوى قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق إلا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل
وهذا أبو الدرداء كان يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي يا أبا الدرداء قد علمت فكيف عملت فيما علمت؟ وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما أكلتم طعاما على شهوة ولا شربتم شرابا على شهوة ولا دخلتم بيتا تستظلون فيه ولخرجتم إلى الصعيد تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل
وكان عبد الله بن عباس كان أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع
وكان أبو ذر يقول يا ليتني كنت شجرة تعضد وودت أني لم أخلق
ص -45- وعرضت عليه النفقة فقال: عندنا عنز نحلبها وحمر ننقل عليها ومحرر يخدمنا وفضل عباءة وإني أخاف الحساب فيها
وقرأ تميم الداري ليلة سورة الجاثية فلما أتى على هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا} جعل يرددها ويبكى حتى أصبح
وقال أبو عبيدة بن الجراح: وددت أني كبش فذبحني أهلي وأكلوا لحمي وحسوا مرقي وهذا باب يطول تتبعه
قال البخاري في صحيحه: “باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر”
وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا
وقال بن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل
ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق
وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: أنشدك الله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني في المنافقين فيقول: لا ولا أزكي بعدك أحدا” فسمعت شيخنا يقول: مراده إني لا أبرىء غيرك من النفاق بل المراد لا أفتح على نفسي هذا الباب فكل من سألني هل سمانى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزكيه قلت: وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله أن يدعو له أن يكون من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب “سبقك بها عكاشة” ولم يرد أن عكاشة أن وحده أحق بذلك ممن عداه من الصحابة ولكن لو دعا لقام آخر وآخر وانفتح الباب وربما قام من لم يستحق أن يكون منهم فكان الإمساك أولى والله أعلم
ص -46- فصل:
فلنرجع إلى ما كنا فيه من ذكر دواء الداء الذي إن استمر أفسد دنيا العبد وآخرته
فما ينبغي أن يعلم: أن الذنوب والمعاصي تضر ولا بد أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها وباطنه أقبح من صورته وأشنع وبدل بالقرب بعدا وبالرحمة لعنة وبالجمال قبحا وبالجنة نارا تلظى وبالإيمان كفرا وبموالاة الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان فهان على الله غاية الهوان وسقط من عينه غاية السقوط وحل عليه غضب الرب تعالى فأهواه ومقته أكبر المقت فأرداه فصار قوادا لكل فاسق ومجرم رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة فعياذا بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة ؟
ص -47- وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكم جميعا ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها وما هي من الظالمين ببعيد؟
وما الذي قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارا تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا؟
وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
وما الذي بعث على بنى إسرائيل قوما أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال وسبوا الذرية والنساء وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علو تتبيرا؟
وما الذي سلط عليهم أنواع العقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد ومرة بجور الملوك ومرة بمسخهم قردة وخنازير وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}
قال الإمام أحمد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمرو حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: “لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي فقلت:
وقال علي بن الجعد: أنبأنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا البختري يقول: أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم”
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة قالت: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون قال: بلى قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان”
وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تزال هذه الأمة تحت يد الله وفى كنفه ما لم يمال قراؤها أمراءها وما لم يزك صلحاؤها فجارها وما لم يهن خيارها أشرارها فإذا هم فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم ثم سلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر”
وفي المسند من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه”
وفيه أيضا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها قلنا: يا رسول الله أمن قلة منا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة وكراهة الموت”
ص -49- وفى المسند من حديث أنس قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: “لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوهم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم”
وفى جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يخرج في آخر الزمان قوم يختلون الدنيا بالدين ويلبسون للناس مسوك الضأن من اللين ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله عز وجل: أبي يغترون؟ وعلي؟ يجترئون في حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم فيها حيران”
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال على: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه مساجدهم يومئذ عامرة وهي خراب من الهدى علماؤهم شر من تحت أديم السماء منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود”
وذكر من حديث سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: “إذا ظهر الربا والزنا في قرية أذن الله عز وجل بهلاكها”
ومن مراسيل الحسن: إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل وتحابوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا الأرحارم لعنهم الله عز وجل عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم”
وفي سنن ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال
ص -50- أعوذ بالله أن تدركوهن ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم لم يمطروا ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم”
وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: “إن من كان قبلكم كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرا فقال: يا هذا اتق الله فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم”
وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: أوحى الله إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم قال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم”.
وذكر أبو عمر بن عبد البر عن أبي عمران قال: بعث الله عز وجل ملكين إلى قرية: أن دمراها بمن فيها فوجدا فيها رجلا قائما يصلي فى مسجد فقالا:
ص -51- يا رب إن فيها عبدك فلانا يصلي فقال الله عز وجل: دمراها ودمراه معهم فإنه ما تمعر وجهه في قط”
وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر “أن ملكا أمر أن يخسف قرية فقال: يا رب إن فيها فلانا العابد فأوحى الله عز وجل إليه: إن به فابدأ فإنه لم يتمعّر وجهه في ساعة قط”
وذكر ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: “لما أصاب داود الخطيئة قال: يا رب اغفر لي قال: قد غفرت لك وألزمت عارها بني إسرائيل قال: يا رب كيف وأنت الحكم العدل لا تظلم أحدا أنا أعمل الخطيئة وتلزم عارها غيري؟ فأوحى الله إليه أنك لما عملت الخطيئة لم يعجلوا عليك بالإنكار”
وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك: “أنه دخل على عائشة وهو ورجل آخر فقال لها: الرجل يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة فقالت: إذا استباحوا الزنا وشربوا الخمور وضربوا بالمعازف غار الله عز وجل في سمائه فقال للأرض: تزلزلي بهم فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم قال: يا أم المؤمنين أعذابا لهم؟ قالت: بل موعظة ورحمة للمؤمنين ونكالا وعذابا وسخطا على الكافرين فقال أنس: ما سمعت حديثا بعد رسول صلى الله عليه وسلم أنا أشد فرحا به مني بهذا الحديث”
وذكر ابن أبي الدنيا حديثا مرسلا “أن الأرض تزلزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها ثم قال: اسكني فإنه لم يأن لك بعد ثم التفت إلى أصحابه فقال: إن ربكم ليستعتبكم فاعتبوه ثم تزلزلت بالناس على عهد عمر بن الخطاب فقال: أيها الناس ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه والذي نفسي بيده لإن عادت لا أساكنكم فيها أبدا”
وفي مناقب عمر لابن أبي الدنيا “أن الأرض تزلزلت على عهد عمر فضرب
ص -52- يده عليها وقال: مالك؟ ومالك؟ أما إنها لو كانت القيامة حدثت أخبارها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة فليس فيها ذراع ولا شبر إلا وهو ينطق
وذكر الإمام أحمد عن صفية قالت: “زلزلت المدينة على عهد عمر فقال: يأيها الناس ما هذا؟ ما أسرع ما أحدثتم لإن عادت لا أساكنكم فيها” وقال كعب: “إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فرقا من الرب جر جلاله أن يطلع عليها”
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: “أما بعد فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله عز وجل به العباد وقد كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا في يوم كذا وكذا في شهر كذا وكذا فمن كان عنده شيء فليتصدق به فإن الله عز وجل قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وقولوا كما قال آدم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقولوا كما قال نوح: {وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقولوا كما قال يونس: {لا إِلَهَ إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
وقال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ظن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم” ورواه أبو داود بإسناد حسن
ص -53- وذكر ابن أبى الدنيا من حديث ابن عمر قال: لقد رأيتنا وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ظن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد في سبيل الله وأخذوا أذناب البقرة أنزل الله عليهم من السماء بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم”
وقال الحسن: “إن الفتنة والله ما هي إلا عقوبة من الله عز وجل على الناس” ونظر بعض أنبياء بني إسرائيل إلى ما يصنع بهم بختنصر فقال: بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفك ولا يرحمنا وقال: بختنصر لدانيال ما الذي سلطني على قومك قال: عظم خطيئتك وظلم قومي أنفسهم”
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عمار بن ياسر وحذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل إذا أراد بالعباد نقمة أمات الأطفال وأعقم أرحام النساء فتنزل النقمة وليس فيهم مرحوم”
وذكر عن مالك بن دينار قال: قرأت في الحكمة يقول الله عز وجل: “أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم”
وفي مراسيل الحسن: “إذا أراد الله بقوم خيرا جعل أمرهم إلى حلمائهم وفيئهم عند سمحائهم وإذا أراد بقوم شرا جعل أمرهم إلى سفائهم وفيئهم عند بخلائهم”
وذكر الإمام أحمد وغيره عن قتادة قال:قال موسى: “يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض فما علامة غضبك من رضاك قال: إذا استعملت
ص -54- عليكم خياركم فهو من علامة رضائي عليكم وإذا استعملت عليكم شراركم فهو من علامة سخطي عليكم
وذكر ابن أبي الدنيا عن الفضيل بن عياض قال: أوحى الله إلى بعض الأنبياء: “إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني:
وذكر أيضا من حديث ابن عمر يرفعه: “والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراء كذبه ووزراء فجرة وأعوانا خونة وعرفاء ظلمة وقراء فسقة سيماهم سيماء الرهبان وقلوبهم أنتن من الجيف أهواؤهم مختلفة فيفتح الله لهم فتنة غبراء مظلمة فيتهاوكون فيها والذى نفس محمد بيده لينقضن الإسلام عروة عروة حتى لا يقال: الله الله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم”
وفى المسند وغيره من حديث عروة عن عائشة قالت: ” دخلت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حفزه النفس فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء فما
ص -55- تكلم حتى توضأ وخرج فلصقت بالحجرة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إن الله عز وجل يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتستنصروني فلا أنصركم وتسألوني فلا أعطيكم”
وقال العمري الزاهد: إن من غفلتك عن نفسك وإعراضك عن الله أن ترى ما يسخط الله فتتجاوزه ولا تأمر فيه ولا تنهى عنه خوفا ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا”
وقال من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة من المخلوقين نزعت منه الطاعة ولو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف بحقه
وذكر الإمام أحمد في مسنده من حديث قيس بن أبي حازم قال: قال أبو بكر الصديق: “يأيها الناس إنكم تتلون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه وفي لفظ إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده”
وذكر الأوزاعى عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا خفيت الخطيئة فلا تضر إلا صاحبها وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة”
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب: “توشك القرى أن تخرب وهي عامرة؟ قيل: وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها على أبرارها وساد القبيلة منافقوها”
وذكر الأوزاعي عن حسان بن أبي عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ص -56- “سيظهر شرار أمتي على خيارها حتى يستخفى المؤمن فيهم كما يستخفى المنافق فينا اليوم”
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس يرفعه قال: “يأتي زمان يذوب فيه قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء قيل: مما ذاك يا رسول الله؟ قال: مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره “
وذكر الإمام أحمد من حديث جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب”
وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار0برحاه فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال:إني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه”
وذكر الإمام أحمد عن مالك بن دينار قال: “كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى منزله الرجال والنساء فيعظهم ويذكرهم بأيام الله فرأى بعض بنيه يوما يغمز النساء فقال: مهلا يا بني فسقط من سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقتل بنوه فأوحى إلى الله إلى نبيهم أن أخبر فلانا الحبر لا أخرج من صلبك صديقا أبدا ما كان غضبك لي إلا أن قلت: مهلا يا بني”
وذكر الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل القوم نزلوا أرض فلاة
ص -57- فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجئ بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا وأنضجوا ما قذفوا فيها”
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: “إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر وإنا كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات”
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت النار لا هي أطعمتها ولا سقتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض”
وفي الحلية لأبي نعيم عن حذيفة أنه قيل له: في يوم واحد تركت بنوا إسرائيل دينهم؟ قال: لا ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه وإذا نهوا عن شيء فعلوه حتى انسخلوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه”
ومن هاهنا قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر كما أن القُبلة بريد الجماع والغناء بريد الزنا والنظر بريد العشق والمرض بريد الموت”
وفي الحلية أيضا عن ابن عباس أنه قال: “يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عاقبته ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته قلة حياتك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب ويحك هل تدري ما كان ذنب أيوب عليه السلام فابتلاه الله بالبلاء في جسده وذهاب ماله؟ استغاث به مسكين على ظالم يدرؤه عنه فلم يغنه ولم ينه الظالم عن ظلمه فابتلاه الله”
ص -58- قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد قال: سمعت الأوزاعي يقول: سمعت بلال ابن سعد يقول: “لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت”
وقال الفضيل بن عياض: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله
وقيل: أوحى الله تعالى إلى موسى يا موسى إن أول من مات من خلقي إبليس وذلك أنه عصاني وإنما أعد من عصاني من الأموات
وفي المسند وجامع الترمذي من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المؤمن إذا أذنب “ذنبا” نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قال الترمذي هذا حديث صحيح
وقال حذيفة: “إذا أذنب العبد “ذنبا” نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يصير قلبه كالشاة الربداء”
وقال الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أما بعد يا معشر قريش فإنكم أهل لهذا الأمر ما لم تعصوا الله فإذا عصيتموه بعث عليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب بقضيب في يده ثم لحى قضيبه فإذا هو أبيض يصلد”
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: إن الرب عز وجل قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل: “إني إذا أطعت رضيت وإذا رضيت باركت وليس لبركتي
ص -59- نهاية وإذا عصيت غضبت وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد”
وذكر أيضا عن وكيع حدثنا زكريا عن عامر قال: كتبت عائشة إلى معاوية: “أما بعد فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاما”
ذكر أبو نعيم بن أبي الجعد عن أبي الدرداء قال: “ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر ثم قال: أتدري مم هذا؟ قلت: لا قال: إن العبد يخلو بمعاصي الله فيُلقى الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر”
وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن محمد بن سيرين: أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لا أعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة
وهاهنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال وقد يتأخر تأثيره فينسى ويظن العبد أنه لا يغير بعد ذلك وأن الأمر كما قال القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وسبحان الله ماذا أهلكت هذه النكتة من الخلق؟ وكم أزالت من نعمة؟ وكم جلبت من نقمة؟ وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء فضلا عن الجهال ولم يعلم المغتر أن الذنب ينقض ولو بعد حين كما ينقض السهم وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدّغل
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء: “أعبدوا الله كأنكم ترونه وعدوا أنفسكم في الموتى واعلموا أن قليلا يكفيكم خير من كثير يلهيكم واعلموا أن البر لا يبلى وأن الإثم لا يُنسى”
ص -60- ونظر بعض العباد إلى صبي فتأمل محاسنه فأتى في منامه وقيل له: لتجدن غبَّها بعد أربعين سنة
هذا مع أن للذنب نقدا معجلا لا يتأخر عنه قال سليمان التيمي إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته
وقال يحيي بن معاذ الرازي: عجبت من ذي عقل يقول في دعائه: اللهم لا تشمت بي الأعداء ثم هو يشمِّت بنفسه كل عدو له قيل: وكيف ذلك؟ قال: يعصى الله فيشمت به في القيامة كل عدو
وقال ذي النون: من خان الله في السر هتك ستره في العلانية
فصل:
وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله
فمنها: حرمان العلم فإن العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفىء ذلك النور
ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية
وقال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بان العلم فضل وفضل الله لايؤتاه عاصي
ومنها: حرمان الرزق وفي المسند “إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه”
ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لايوازنها ولايقارنها لذة أصلا ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام فلو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة لكان العاقل حريا بتركها
وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه فقال له:
إذا كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس
وليس على القلب أمر من وحشة الذنب على الذنب فالله المستعان
ومنها: الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم فإنه يجد وحشة بينه وبينهم وكلما قويت تلك الوحشة بَعُد منهم ومن مجالستهم وحرم بركة الانتفاع بهم وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشا من نفسه
وقال بعض السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي
ومنها: تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا ويالله العجب ! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لايعلم من أين أتى؟
ومنها: ظلمته يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم ادلهَمّ فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع
ص -62- والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين ثم تقوى حتى تعلو الوجه وتصير سوادا فيه حتى يراه كل أحد
قال عبد الله بن عباس: “إن للحسنة ضياء في الوجه ونورا في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق”
ومنها: أن المعاصي توهن القلب والبدن أما وهنها للقلب فأمر ظاهر بل لاتزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية
وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته في قلبه وكلما قوى قلبه قوى بدنه وأما الفاجر فإنه وإن كان قوى البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه وتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم؟
ومنها: حرمان الطاعة فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله وتقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه طريق ثالثة ثم رابعة وهلم جرا فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها والله المستعان
ومنها: أن المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته ولابد فإن البر كما يزيد في العمر فالفجور يقصر العمر
وقد اختلف الناس في هذا الموضع
فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه
ص -63- وهذا حق وهو بعض تأثير المعاصي
وقالت طائفة: بل تنقصه حقيقة كما تنقص الرزق فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسبابا كثيرة تكثره وتزيده وللبركة في العمر أسبابا تكثره وتزيده
قالوا: ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب كما ينقص بأسباب فالأرزاق والآجال والسعادة والشقاوة والصحة والمرض والغنى والفقر وإن كانت بقضاء الربّ عز وجل فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها موجبة لمسبباتها مقتضية لها
وقالت طائفة: أخرى تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب ولهذا جعل الله سبحانه الكافر ميتا غير حي كما قال تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} فالحياة في الحقيقة حياة القلب وعمر الإنسان مدة حياته فليس عمره إلا أوقات حياته بالله فتلك ساعات عمره فالبر والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره ولا عمر له سواها
وبالجملة فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد ِغبّ إضاعتها يوم يقول: {يا ليتني قدمت لحياتي} فلا يخلوا إما أن يكون له مع ذلك تطلع إلى مصالحه الدنيوية والأخروية أو لا فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك فقد ضاع عليه عمره كله وذهبت حياته باطلا وإن كان له تطلع إلى ذلك طالت عليه الطريق بسبب العوائق وتعسرت عليه أسباب الخير بحسب اشتغاله بأضدادها وذلك نقصان حقيقي من عمره
وسر المسألة أن عمر الإنسان مدة حياته ولا حياة له إلا بإقباله على ربه والتنعم بحبه وذكره وإيثار مرضاته
ص -64- صل:
ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضا فإذا عملها قالت الثالثة كذلك وهلم جرا فيتضاعف الربح وتزايدت الحسنات وكذلك كانت السيئات أيضا حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه وتقر عينه ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه وضاق صدره وأعيت عليه مذاهبه حتى يعاودها حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ولا داعية إليها إلا لما يجد من الألم بمفارقتها كما صرح بذلك شيخ القوم الحسن بن هاني حيث يقول:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وقال الآخر:
فكانت دوائى وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
لايزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزا وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها ولايزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه إليها أزا فالأول قوى جند الطاعة بالمدد فصاروا من أكبر أعوانه وهذا قوى جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه.
ص -65- فصل:
ومنها وهو من أخوفها على العبد أنها تضعف القلب عن إرادته فتقوى إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية فلو مات نصفه لما تاب إلى الله فيأتي بالاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير وقلبه معقود بالمعصية مصر عليها عازم على مواقعتها متى أمكنه وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك فصل:
ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه وهو عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة حتى يفتخر أحدهم بالمعصية ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها فيقول: يا فلان عملت كذا وكذا وهذا الضرب من الناس لا يعافون ويسد عليهم طريق التوبة وتغلق عنهم أبوابها في الغالب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كل أمتي معافا إلا المجاهرين وإن من الإجهار أن يستر الله العبد ثم يصبح يفضح نفسه ويقول: يا فلان عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فتهتك نفسه وقد بات يستره ربه”
ومنها: أن كل معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل فاللوطية ميراث عن قوم لوط وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص ميراث عن قوم شعيب والعلو في الأرض بالفساد ميراث عن قوم فرعون والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم وهم أعداء الله
وقد روى عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن مالك بن دينار قال:
ص -66- “أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك لا يدخلوا مداخل أعدائي ولا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تركبوا مراكب أعدائي ولا يطعموا مطاعم أعدائي فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي”
وفي مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم”
فصل:
ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه قال الحسن البصري: هانوا عليه فصعوه ولو عزوا عليه لعصمهم وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه
ومنها: أن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه وذلك علامة الهلاك فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: “إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار”
فصل:
ومنها: أن غيره من الناس والدّواب يعود عليه شؤم ذنبه فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم
ص -67- قال أبو هريرة: إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم
وقال مجاهد: إن الهائم تلعن عصاة بنى آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر وتقول: هذا بشؤم معصية ابن ادم
وقال عكرمة: دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم.
فلا يكفيه عقاب ذنبه حتى يبوء بلعنه من لا ذنب له
فصل:
ومنها: أن المعصية تورث الذل ولا بد فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ا} أي فليطلبها بطاعة الله فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله
وكان من دعاء بعض السلف: “اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك”
قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه
وقال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها؟
ومنها: أن المعاصي تفسد العقل فإن للعقل نورا والمعصية تطفيء نور العقل ولابد وإدا طفئ نوره ضعف ونقص
ص -68- فصل:
وقال بعض السلف: ما عصى الله أحد حتى يغيب عقله وهذا ظاهر فإنه لو حضره عقله لحجزه عن المعصية وهو في قبضة الرب تعالى أو قهره هو مطلع عليه وفي داره وعلى بساطه وملائكته شهود عليه ناظرون إليه وواعظ القرآن ينهاه وواعظ الإيمان ينهاه وواعظ الموت ينهاه وواعظ النار ينهاه والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله والاستخفاف به ذو عقل سليم
فصل:
ومنها: أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين كما قال بعض السلف: في قوله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قال هو الذنب بعد الذنب
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب
وقال غيره: لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم
وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانا ثم يغلب حتى يصير طبعا وقفلا وختما فيصير القلب في غشاوة وغلاف فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
فصل:
ومنها: أن الذنوب تدخل العبد تحت لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لعن على معاصي والتي غيرها أكبر منها فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة
ص -69- فلعن الواشمة والمستوشمة والواصلة والموصولة والنامصة والمتنمصة والواشرة والمستوشرة ولعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ولعن المحلل والمحلل له ولعن السارق ولعن شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه ولعن من غير منار الأرض وهي أعلامها وحددوها ولعن من والديه ولعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا يرميه بسهم ولعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ولعن من ذبح لغير الله ولعن من أحدث حدثا أو آوى محدثا ولعن المصورين ولعن من عمل عمل قوم لوط ولعن من سب أباه وأمه ولعن من كمه أعمى عن الطريق ولعن من أتى بهيمة ولعن من وسم دابة في وجهها ولعن من ضار مسلما أو مكر به ولعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ولعن من أفسد امرأة على زوجها أو مملوكا على سيده ولعن من أتى امرأة في دبرها وأخبر أن من باتت مهاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ولعن من انتسب إلى غير أبيه وأخبر أن من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه ولعن من سب الصحابة
وقد لعن الله “في كتابه” من أفسد فى الأرض وقطع رحمه وآذاه وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم
ولعن من كتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى
ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة
ولعن من جعل سبيل الكافر أهدى من سبيل المسلم
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس
ص -70- لبسة الرجل ولعن الراشي والمرتشي والرائش وهو الواسطة في الرشوة ولعن على أشياء أخر غير هذه
فلو لم يكن في فعل ذلك إلا رضاء فاعله بأن يكون ممن يعلنه الله ورسوله وملائكته لكان في ذلك ما يدعو إلى تركه.
فصل:
ومنها: حرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة الملائكة فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين المتبعين لكتابه وسنة رسوله الذين لا سبيل لهم غيرهما فلا يطمع غير هؤلاء بإجابة هذه الدعوة إذا لم يتصف بصفات المدعو له بها والله المستعان
فصل:
ومن عقوبات المعاصي ما رواه البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا فيقص عليه ما شاء الله أن يقص وإنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما انبعثا لي وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة
ص -71- وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه ويشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ فقالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور وإذا فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضووا فقال: قلت لهم من هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر أحمر مثل الدم فإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما شاء الله أن يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيغفر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فيغفر له فاه فيلقمه حجرا قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة أو كأكره راء رجلا مرأى وإذا هو عنده نار يحشها ويسعى حولها قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا حتى أتينا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع وإذا بين
ص -72- ظهراني الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط قال: قلت: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أرى دوحة قط أعظم منها ولا أحسن قال: قالا لي: ارق فيها فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة قال: فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر منهم كأقبح ما أنت راء قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا وقد ذهب ذلك السوء عنهم قال: قالا لي: هذه جنة عدن وهاذاك منزلك قال: فسما بصري صعدا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء قال: قالا لي: هذا منزلك قلت لهما: بارك الله فيكما فذراني فأدخله قالا: أما الآن فلا وأنت داخلة قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك
أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلوة المكتوبة
وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق
وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا
ص -73- وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم
وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم
وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة وفي رواية البرقاني: ولد على الفطرة فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد المشركين
وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم
فصل:
ومن آثار الذنوب والمعاصي: أنها تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهوى والزروع والثمار والمساكن قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال مجاهد: إذا ولي الظالم سعى بالظلم “والفساد” فيحبس الله بذلك القطر فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ثم قرأ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر وقال عكرمة: ظهر الفساد في البر والبحر أما إني لا أقول لكم: بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء وقال قتادة: أما البر فأهل العمود وأما البحر فأهل القرى والريف
قلت: وقد سمى الله تعالى الماء العذب بحرا فقال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} وليس في
ص -74- العالم بحر حلو واقفا وإنما هي الأنهار الجارية والبحر المالح هو الساكن فتسمى القرى التي على المياه الجارية باسم تلك المياه وقال ابن زيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال الذنوب
قلت: أراد أن الذنوب سبب الفساد الذي ظهر وإن أراد أن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها فيكون اللام في قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} لام العاقبة والتعليل وعلى الأول: فالمراد بالفساد والنقص والشر والآلام التي يحدثها الله فى الأرض بمعاصي العباد فكلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة كما قال بعض السلف: كلما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة
والظاهر والله أعلم أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ويدل عليه قوله تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ} فهذا حالنا وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا ولو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة
ومن تأثير المعاصي في الأرض: ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم إلا وهم باكون ومن شرب مياههم ومن الاستسقاء من أبارهم
وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده في ضمن حديث قال: “وجدت في خزائن بعض بني أمية حبة حنطة الحبة بقدر نواة التمرة وهي في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن من العدل” وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب
ص -75- وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء أنهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها وإنما حدثت من قرب
وأما تأثير الذنوب في الصور والخلق فقد روى الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “خلق الله آدم وطوله في السماء ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن” فإذا أراد الله أن يطهر الأرض من الظلمة والفجرة والخونة يخرج عبدا من عباده من أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم فيملأ الأرض قسطا كما ملئت جورا ويقتل المسيح اليهود والنصارى ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله وتخرج الأرض بركتها وتعود كما كانت حتى إن العصابة من الناس ليأكلون الرمانة ويستظلون بقحفها ويكون العنقود من العنب وقر بعير وأن اللقحة الواحدة لتكفي الفئام من الناس وهذا لأن الأرض لما طهرت من المعاصي ظهرت فيها آثار البركة من الله تعالى التي محقتها الذنوب والكفر ولاريب أن العقوبات التي أنزلها الله في الأرض بقية آثارها سارية في الأرض تطلب ما يشاركها من الذنوب التي هي آثار تلك الجرائم التي عذبت بها الأمم فهذه الآثار في الأرض من آثار العقوبات كما أن هذه المعاصي من آثار الجرائم فتناسبت كلمة الله وحكمه الكوني أولا وآخرا وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية والأخف للأخف وهكذا يحكم سبحانه بين خلقه في دار البرزخ ودار الجزاء
وتأمل مقارنة الشيطان ومحله وداره فإنه لما قارن العبد واستولى عليه نزعت البركة من عمره وعمله وقوله ورزقه ولما أثرت طاعته في الأرض ما أثرت
ص -76- نزعت البركة من كل محل ظهرت فيه طاعته وكذلك مسكنه لما كان الجحيم لم يكن هناك شيء من الروح والرحمة والبركة
فصل:
ومن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن فالغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد وأشرف الناس وأعلاهم وهمة أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة والله سبحانه أشد غيرة منه كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه والله أغير مني”
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:في خطبة الكسوف: “يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته”0
وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال: “لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه” فجمع في هذا الحديث بين الغيرة التي أصلها كراهة القبائح وبغضها وبين محبة العذر الذي يوجب كمال العدل والرحمة والإحسان والله سبحانه مع شدة غيرته يحب أن يعتذر إليه عبده ويقبل عذر من اعتذر إليه وإنه لا يؤاخذ عبيده بارتكاب ما يغار من ارتكابه حتى يعذر إليهم ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه إعذارا وإنذارا وهذا غاية المجد والإحسان ونهاية الكمال فإن كثيرا ممن تشتد غيرته من المخلوقين يحمله شدة الغيرة على سرعة الإيقاع والعقوبة من غير إعذار منه ومن غير قبول لعذر من
ص -77- اعتذر إليه بل يكون له في نفس الأمر عذر ولا تدعه شدة الغيرة أن يقبل عذره وكثير ممن تقبل المعاذير يحمله على قبولها قلة الغيرة حتى يتوسع في طرق المعاذير ويرى عذرا ما ليس بعذر حتى يعذر كثير منهم بالقذر وكل منهما غير ممدوح على الإطلاق
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن من الغيرة ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالتي يبغضها الله الغيرة في غير ريبة” وذكر الحديث
وإنما الممدوح اقتران الغيرة بالعذر فيغار في محل الغيرة ويعذر في موضع العذر ومن كان هكذا فهر الممدوح حقا
ولما جمع سبحانه صفات الكمال كلها كان أحق بالمدح من كل أحد ولايبلغ أحد أن يمدحه كما ينبغي له بل هو كما مدح نفسه وأثنى على نفسه فالغيور قد وافق ربه سبحانه في صفة من صفاته ومن وافق الله في صفه من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه وأدخلته على ربه وأدنته منه وقربته من رحمته وصيرته محبوبا له فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء كريم يحب الكرماء عليم يحب العلماء قوي يحب المؤمن القوي وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف حييٌ يحب أهل الحياء جميل يحب أهل الجمال وتر يحب أهل الوتر
ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي إلا أنها توجب لصاحبها ضد هذه الصفات وتمنعه من الاتصاف بها لكفى بها عقوبة فإن الخطرة تنقلب وسوسة والوسوسة تصير إرادة والإرادة تقوى فتصير عزيمة ثم تصير فعلا ثم تصير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة وحينئذ يتعذر الخروج منها كما يتعذر الخروج من صفاته القائمة به
والمقصود أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على
ص -78- نفسه وأهله وعموم الناس وقد تضعف في القلب جدا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويدعوه إليه ويحثه عليه ويسعى له في تحصيله ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة حرام عليه وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه له فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة
وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلا ولم يجد دافعا فتمكن فكان الهلاك
ومثلها مثل صياصي الجاموس التي يدفع بها عن نفسه وولده فإذا كسرت طمع فيه عدوه.
فصل:
ومن عقوباتها ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كل خير وذهابه ذهاب الخير أجمعه
وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الحياء خير كله”
وقال” إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت” وفيه تفسيران:
ص -79- أحدهما: أنه على التهديد والوعيد والمعنى من لم يستح فإنه يصنع ما شاء من القبائح إذ الحامل على تركها الحياء فإذا لم يكن هناك حياء يردعه عن القبائح فإنه يواقعها وهذا تفسير أبي عبيدة
والثاني: أن الفعل إذا لم تستح من الله فافعله وإنما الذي ينبغي تركه هو ما يستحي منه من الله وهذا تفسير الإمام أحمد في رواية ابن هانئ
فعلى الأول يكون تهديدا كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وعلى الثاني يكون إذنا وإباحة
فإن قيل: فهل من سبيل إلى حمله على المعنيين؟
قلت: لا ولا على قول من يحمل المشترك على جميع معانيه لما بين الإباحة والتهديد من المنافاة ولكن اعتبار أحد المعنيين يوجب اعتبار الآخر
والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعل والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمع
وإذا رأى إبليس طلعة وجهه حياء وقال فديت من لايفلح
والحياء مشتق من الحياة والغيث يسمى حيا بالقصر لأن به حياة الأرض والنبات والدواب وكذلك سميت بالحياء حياة الدنيا والآخرة فمن لا حياء فهو ميت في الدنيا شقي في الآخرة وبين الذنوب وبين قلة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين وكل منهما يستدعي الآخر ويطلبه حثيثا ومن استحي من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه ومن لم يستح من الله تعالى من معصيته لم يستح الله من عقوبته.
ص -80- فصل:
ومن عقوبات الذنوب: أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله وتضعف وقاره في قلب العبد ولابد شاء أم أبى ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه وربما اغتر المغتر وقال: إنما يحملني على المعاصي حسن الرجاء وطمعي في عفوه لا ضعف عظمته في قلبي وهذا من مغالطة النفس فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد “تقتضي تعظيم حرماته” وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حق قدره وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه و يكبره و يرجو وقاره ويجله من يهون عليه أمره ونهيه؟ هذا من أمحل المحال وأبين الباطل وكفى بالعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته ويهون عليه حقه
ومن بعض عقوبة هذا: أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم ويستخفون به كما هان عليه أمره واستخف به فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظمه الناس وكيف ينتهك عبد حرمات الله ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته؟ أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق
وقد أشار سبحانه إلى هذا في كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب وأنه أركس أربابها بما كسبوا وغطى على قلوبهم وطبع عليها بذنوبهم وأنه نسيهم كما نسوه وأهانهم كما أهانوا دينه وضيعهم كما ضيعوا أمره ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} فإنهم لما هان عليهم السجود له واستخفوا به ولم يفعلوه أهانهم الله فلم يكن
ص -81- لهم من مكرم بعد أن أهانهم الله ومن ذا يكرم من أهانه الله أو يهن من أكرمه الله.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تستدعى نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه وهناك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فأمر بتقواه ونهي أن يتشبه عباده المؤمنون بمن نسيه بترك تقواه وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه أي أنساه مصالحها وما ينجيها من عذابه وما يوجب له الحياة الأبدية وكمال لذتها وسرورها ونعيمها فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه والقيام بأمره فترى العاصي مهملا لمصالح نفسه مضيعا لها وقد أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا قد انفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته وقد فرط في سعادته الأبدية واستبدل بها أدني ما يكون من لذة إنما هي سحابة صيف أو خيال طيف كما قيل:
أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض
فالله سبحانه يعوض كل ما سواه ولا يعوض منه شيء ويغني عن
ص -82- كل شيء ولا يغني عنه شيء ويجير من كل شيء ولا يجير منه شيء ويمنع من كل شيء ولا يمنع منه شيء فكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين؟ وكيف ينسى ذكره ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه فيخسرها ويظلمها أعظم الظلم؟ فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه وما ظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم نفسه
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تخرج العبد من دائرة الإحسان وتمنعه ثواب المحسنين فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه عن المعاصي فإن من عبد الله كأنه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه بحيث يصير كأنه يشاهده وذلك يحول بينه وبين إرادة المعاصي فضلا عن مواقتها فإذا خرج من دائرة الإحسان فإنه صحةه رفقته الخاصة وعيشهم الهنيء ونعيمهم التام فإن أراد الله به خيرا أقره في دائرة عموم المؤمنين فإن عصاه بالمعاصي التي تخرجه من دائرة الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربه وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن” فإياكم إياكم والتوبة معروضة بعد.
فصل:
ومن فاته رفقة المؤمنين وحسن دفاع الله عنهم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا وفاته كل خير رتبه الله في كتابه على الإيمان وهو نحو مائة خصلة
ص -83- كل خصلة منها خير من الدنيا وما فيها
فمنها الأجر العظيم: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً}
ومنها الدفع عنهم شرور الدنيا والآخرة: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}
ومنها استغفار الملائكة حملة العرش لهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}
ومنها موالاة الله لهم ولا يذل من مولاه الله قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}
ومنها أمره ملائكته بتثبيتهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}
ومنها أن لهم الدرجات عند ربهم والمغفرة والرزق الكريم
ومنها العزة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}
ومنها معية الله لأهل الإيمان: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}
ومنها الرفعه في الدنيا والآخرة: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
ومنها إعطاؤهم كفلين من رحمته وإعطاؤهم نورا يمشون به ومغفرة ذنوبهم
ومنها الود الذي يجعله سبحانه لهم وهو أنه يحبهم يحببهم إلى ملائكته وأنبيائه وعباده الصالحين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}.
ص -84- ومنها أمانهم من الخوف يوم يشتد الخوف: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
ومنها: أنهم المنعم عليهم الذين أمرنا أن نسأله أن يهدينا إلى صراطهم في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة
ومنها أن القرآن إنما هو هدى لهم وشفاء: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}
والمقصود أن الإيمان سبب جالب لكل خير وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه الإيمان وكل شرر في الدنيا فسببه عدم الإيمان فكيف يهون على العبد أن يرتكب شيئا يخرجه من دائرة الإيمان ويحول بينه وبينه ولكن لا يخرج من دائرة عموم المسلمين؟ فإن استمر على الذنوب وأصر عليها خيف عليه أن يرين قلبه فيخرجه عن الإسلام بالكلية ومن هاهنا اشتد خوف السلف كما قال بعضهم: أنتم تخافون الذنوب وأنا أخاف الكفر.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة أو تعوقه أوتوقفه وتقطعه عن السير فلا تدعه يخطوا إلى الله خطوة هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه فالذنب يحجب الواصل ويقطع السائر وينكس الطالب والقلب إنما يسير إلى الله بقوته فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره فإن زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه والله المستعان
فالذنب إما أن يميت القلب أو يمرضه مرضا مخوفا أو يضعف قوته ولا بد حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي صلى الله
ص -85- عليه وسلم وهي: “الهم والحزن والكسل والعجز والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجل” وكل اثنين منها قرينان
فالهم والحزن قرينان فإن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقعه أحدث الهم وإن كان من أمر ماض قد وقع أحدث الحزن
والعجز والكسل قرينان فإن تخلف العبد عن أسباب الخير والفلاح إن كان لعدم قدرته فهو العجز وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل
والجبن والبخل قرينان فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن وإن كان بماله فهو البخل
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان فإن استعلاء الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلع الدين وإن كان بباطل فهو قهر الرجال
والمقصود أن الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة: “لجهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء” ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله تعالى وتقدس وتحول عافيته إلى نقمته وتجلب جميع سخطه.
فصل:
ومن عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم وتحل النقم فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة” وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
ص -86- وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
فأخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره وأسباب رضاه بأسباب سخطه فإذا غير غُير عليه جزاء وفاقا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فإن غير المعصية بالطاعة غير الله عليه العقوبة بالعافية والذل بالعز وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}
وفي بعض الآثار الإلهية عن الرب تبارك وتعالى أنه قال: “وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب ثم ينتقل عنه إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يجب إلى ما يكره ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره ثم ينتقل عنه إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب”
ولقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
وخطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولاتتهم
وما كان شيء عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم
فكم تركوا من جنان ومن قصور وأخرى عليهم أطم
صلوا بالجحيم وفات النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
ص -87- فصل:
ومن عقوباتها: ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفا مرعوبا فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا ومن عصاه انقلبت مأمنه مخاوف فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر إن حركت الريح الباب قال: جاء الطلب وإن سمع وقع قدم خاف أن يكون نذيرا بالعطب يحسب أن كل صيحة عليه وكل مكروه قاصد إليه فمن خاف الله آمنه من كل شيء ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء:
بذا قضاء الله بين الخلق مذ خلقوا إن المخاوف والإجرام في قرن
ومن عقوباتها: أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب فيجد المذنب نفسه مستوحشا قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه وبينه وبين الخلق وبينه وبين نفسه وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين وأطيب العيش عيش المستأنسين فلو نظر العاقل ووازن بين لذة المعصية وما توقعه من الخوف والوحشة لعلم سوء حاله وعظيم غبنه إذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف والضرر الداعي له كما قيل:
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس
وسر المسألة أن الطاعة توجب القرب من الرب سبحانه فكلما اشتد القرب قوى الأنس والمعصية توجب البعد من الرب وكلما زاد البعد قويت الوحشة ولهذا يجد العبد وحشة بينه وبين عدوه للبعد الذي بينهما وإن كان ملابسا له
ص -88- قريبا منه ويجد أنسا وقربا بينه وبين من يجب وإن كان بعيدا عنه والوحشة سببها الحجاب وكلما غلظ الحجاب زادت الوحشة فالغفلة توجب الوحشة وأشد منها وحشة المعصية وأشد منها وحشة الشرك والكفر
ولا تجد أحدا ملابس شيئا من ذلك إلا ويعلوه من الوحشة بحسب ما لابسه منه فتعلو الوحشة وجهه وقلبه فيستوحش ويستوحش منه.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه فلا يزال مريضا معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان بل الذنوب أمراض القلوب وداؤها ولا دواء لها إلا تركها وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطي مناها حتى تصل إلى مولاها ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها فهواها مرضها وشفاؤها مخالفته فإن استحكم المرض قتل أو كاد وكما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيما البتة بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا ولا تحسب أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة هم كذلك أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله
ص -89- وانقطاعه عن الله بكل واد منه شعبة؟ وكل من تعلق به وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب فكل من أحب شيئا غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته والتنغيض والتنكيد عليه وأنواع من العذاب في هذه المعارضات فإذا سلبه اشتد عليه عذابه فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار
وأما في البرزخ: فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجو عوده وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده وألم الحجاب عن الله وألم الحسرة التي تقطع الأكباد فالهم والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طربا وفرحا وأنسا بربه واشتياقا إليه وارتياحا بحبه وطمأنينة بذكره؟ حتى يقول بعضهم في حال نزعه: واطرباه ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب ويقول الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها ويقول الآخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ويقول الآخر: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة فيا من باع حظه الغالي بأبخس الثمن وغبن كل الغبن في هذا العقد وهو يرى أنه قد غبن إذا لم يكن لك خبرة بقيمة السلعة فسل المقوِّمين.
فيا عجبا من بضاعة معك الله مشتريها وثمنها جنة المأوى والسفير الذي جرى على يديه عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بعتها بغاية الهوان كما قيل:
ص -90- إذا كان هذا فعل عبد نفسه فمن ذا له من بعده ذلك يكرم
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره وتسد طرق العلم وتحجب مواد الهداية
وقد قال مالك للشافعي رحمهما الله تعالى لما اجتمع به ورأى تلك المخايل إني أرى الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمه المعصية
ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل وظلام المعصية يقوى حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم فكم من مهلك يسقط فيه وهو لا يبصره كأعمى خرج بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب فيا عزة السلامة ويا سرة العطب ثم تقوى تلك الظلمات وتفيض من القلب إلى الجوارح فيغشى الوجه منها سواد بحسب قوتها وتزايدها فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ فامتلأ القبر ظلمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله منورها بصلاتي عليهم” فإذا كان يوم المعاد وحشر العباد علت الظلمة الوجوه علوا ظاهرا يراه كل أحد حتى يصير الوجه أسود مثل الحممه فيا لها من عقوبة لا توازن لذات الدنيا بأجمعها من أولها إلى آخرها فكيف يقسط العبد المنغص المنكد المتعب في زمن؟ إنما هو ساعة من حلم! والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تصغر النفس وتقمعها وتدسيها وتحقرها حتى تكون
ص -91- أصغر كل شيء وأحقره كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} والمعنى: قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله
وأصل التدسية: الإخفاء ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} فالعاصي يدس نفسه في المعصية ويخفي مكانها يتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به قد انقمع عند نفسه وانقمع عند الله وانقمع عند الخلق فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو فما صغر النفس مثل معصية الله وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
فصل:
ومن عقوباتها: أن العاصي دائما في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه فهو أسير مسجون مقيد ولا أسير أسوء حالا من أسير أسره أعدى عدو له ولا سجن أضيق من سجن الهوى ولا قيد أصعب من قيد الشهوة فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ وكيف يخطو خطوة واحدة؟ وإذا قيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ومثل القلب مثل الطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما نزل احتوشته الآفات وفي الحديث: “الشيطان ذئب الإنسان” وكما أن الشاة التي لا حافظ لها وهي بين الذئاب سريعة العطب فكذا العبد إذا لم يكن عليه حافظ من الله فذئبه مفترسه ولا بد وإنما يكون عليه حافظ من الله بالتقوى فهي وقاية وجنة حصينة بينه وبين ذئبه كما هي وقاية بينه وبين عقوبة الدنيا والآخرة وكلما كانت الشاة
ص -92- أقرب من الراعي كانت أسلم من الذئب وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب إلى الهلاك فأسلم ما تكون الشاة إذا قربت من الراعي وإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم وهي أبعد من الراعي
وأصل هذا كله: أن القلب كلما كان أبعد من الله كانت الآفات إليه أسرع وكلما كان أقرب من الله بعدت عنه الآفات والبعد من الله مراتب بعضها أشد من بعض فالغفلة تبعد القلب عن الله وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله.
فصل:
ومن عقوباتها: سقط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم وأقربهم منه منزلة أطوعهم له وعلى قدر طاعة العبد تكون له منزلة عنده فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه فأسقطه من قلوب عباده وإذا لم يبق له جاه عند الخلق وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك فعاش بينهم أسوء عيش خامل الذكر ساقط القدر زريَّ الحال لا حرمة له فلا فرح له ولا سرور فإن خمول الذكر وسقوط القدر والجاه جالب كل غم وهم وحزن ولا سرور معه ولا فرح وأين هذا الألم من لذة المعصية لولا سكر الشهوة؟ ومن أعظم نعم الله على العبد: أن يرفع له بين العالمين ذكره ويعلى قدره ولهذا خص أنبياءه ورسله من ذلك بما ليس لغيرهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} أي خصصناهم بخصيصة وهو الذكر الجميل الذي يذكرون به في هذه الدار وهو لسان الصدق الذي سأله إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}
ص -93- وقال سبحانه وتعالى عنه وعن نبيه: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فاتباع الرسل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم وكل من خالفهم فإنه من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذم والصغار فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمنقي والمطيع والمنيب والولي والورع والمصلح والعابد والخائف والأواب والطيب والرضي ونحوها وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء والمفسد والخبيث والمسخوط والزاني والسارق والقاتل والكاذب والخائن واللوطي والغادر وقاطع الرحم وأمثالها فهذه أسماء الفسوق و:{بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} الذي يوجب غضب الديان ودخول النيران وعيش الخزي والهوان وتلك أسماء توجب رضاء الرحمان ودخول الجنان وتوجب شرف المسمى بها على سائر أنواع الإنسان فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناه عنها ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل أمر بها ولكن لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع ولا مقرب لمن باعد ولا مبعد لمن قرب {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع لله والآخر عاص إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل وفكره أصح
ص -94- ورأيه أسد والصواب قرينه ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو مع أولي العقول والألباب كقوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الأَلْبَابِ} ونظائر ذلك كثيرة
وكيف يكون عاقلا وافر العقل من يعصي من هو في قبضته وفي داره وهو يعلم أنه يراه ويشاهده؟ فيعصيه وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه على مساخطه ويستدعي كل وقت غضبه عليه ولعنته له وإبعاده من قربه وطرده عن بابه وإعراضه عنه وخذلانه له والتخلية بينه وبين نفسه وعدوه وسقوطه من عينه وحرمانه روح رضاه وحيب وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه إلى أضعاف أضعاف ذلك من كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك من عقوبة أهل المعصية
فأي عقل لمن آثر لذة ساعة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كأنها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة ولولا العقل الذي تقوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين بل قد تكون المجانين أحسن حالا منه وأسلم عاقبة فهذا من هذا الوجه
وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيش فلولا الاشتراك في هذا النقصان لظهر لمطيعنا نقصان عقل عاصينا ولكن الجائحة عامة والجنون فنون
ويا عجبا لو صحت العقول لعلمت أن طريق تحصيل اللذة والفرحة والسرور وطيب العيش إنما هو في رضاء من النعيم كله في رضاه والألم والعذاب كله في سخطه وغضبه ففي رضاه قرة العيون وسرور النفوس وحياة القلوب ولذة
فصل:
ومن أعظم عقوباتها: أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير واتصلت به أسباب الشر فأي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير وقطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى عنه طرفة عين ولا بدل له منه ولا عوض له عنه واتصلت به أسباب الشر ووصل ما بينه وبين أعدى عدو له فتولاه عدوه وتخلى عنه وليه؟ فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع والاتصال من أنواع الآلام وأنواع العذاب
قال بعض السلف: رأيت العبد ملقى بين الله سبحانه وبين الشيطان فإن أعرض الله عنه تولاه الشيطان وإن تولاه الله لم يقدر عليه الشيطان وقد قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ
ص -96- فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} يقول سبحانه لعباده: أنا أكرمت آباكم ورفعت قدره وفضلته على غيره فأمرت ملائكتي كلهم أن يسجدوا له تكريما وتشريفا فأطاعوني وأبى عدوي وعدوه فعصى أمري وخرج عن طاعتي فكيف يحسن بكم بعد هذا أن تتخذونه وذريته أولياء من دوني فتطيعونه في معصيتي وتوالونه في خلاف مرضاتي وهم أعدا عدو لكم؟ فواليتم عدوي وقد أمرتكم بمعاداته ومن والى أعداء الملك كان هو وأعداؤه عنده سواء فإن المحبة والطاعة لا تتم إلا بمعاداة أعداء المطاع وموالاة أوليائه وأما أن توالي أعداء الملك ثم تدعي أنك موال له فهذا محال هذا لو لم يكن عدو الملك عدوا لكم فكيف إذا كان عدوكم على الحقيقة والعداوة التي بينكم وبينه أعظم من العداوة التي بين الشاة وبين الذئب؟ فكيف يليق بالعاقل أن يوالي عدوه وعدو وليه ومولاه الذي مولى له سواه؟ ونبه سبحانه على قبح هذه الموالاة بقوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} كما نبه على قبحها بقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فتبين أن عداوته لربه وعداوته لنا كل منهما سبب يدعو إلى معاداته فما هذه الموالاة؟ وما هذا الاستبدال بئس للظالمين بدلا.
ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوع من العتاب لطيف عجيب وهو أني عاديت إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي فكانت معاداته لأجلكم ثم كان عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقدا المصالحة.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة.
وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه
ص -97- ودنياه ممن عصى الله وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وفي الحديث: “إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته وإن الله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط”.
وقد تقدم الأثر الذي ذكره أحمد في كتاب الزهد “أنا الله إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ولعنتي تدرك السابع من الولد” وليست سعة الرزق والعمل بكثرته ولا طول العمر بكثرة الشهور والأعوام ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيه.
وقد تقدم أن عمر العبد هو مدة حياته ولا حياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره بل حياة البهائم خير من حياته فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده أو الإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأُُنس بقربه ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ولو تعوض عنها بما تعوض مما في الدنيا بل ليست الدنيا بأجمعها عوضا عن هذه الحياة فمن كل شيء يفوت العبد عوض وإذا فاته الله لم يعوض عنه شيء البتة وكيف يعوض الفقير بالذات عن الغنى بالذات والعاجز بالذات عن القادر بالذات والميت عن الحي الذي لا يموت والمخلوق عن الخالق ومن لا وجود له ولا شيء
ص -98- له من ذاته البتة عمن غناه وحياته وكماله ووجوده ورحمته من لوازم ذاته؟ وكيف يعوض من لا يملك مثقال ذرة عمن له ملك السموات والأرض؟
وإنما كانت معصية الله سببا لمحق بركة الرزق والأجل لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها فسلطانه عليهم وحوالته على هذا الديون وأهله وأصحابه وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه فبركته ممحوقة ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع لما في مقارنة اسم الله من البركة وذكر اسمه يطرد الشيطان فتحصل البركة ولا معارض لها وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة فإن الرب هو الذي يبارك وحده والبركة كلها منه وكل ما نسب إليه مبارك فكلامه مبارك ورسوله مبارك وعبده المؤمن النافع لخلقه مبارك وبيته الحرام مبارك وكنانته من أرضه وهى الشام أرض البركة وصفها بالبركة في ست آيات من كتابه فلا مبارك إلا هو وحده ولا مبارك إلا ما نسب إليه أعني إلى ألوهيته ومحبته ورضاه وإلا فالكون كله منسوب إلى ربوبيته وخلقه وكل ما باعده من نفسه من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركة فيه ولا خير فيه وكل ما كان قريبا من ذلك ففيه من البركة على حسب قدر قربه منه.
وضد البركة اللعنة فأرض لعنها الله أو شخص لعنه الله أو عمل لعنه الله أبعد شيء من الخير والبركة وكلما اتصل بذلك وارتبط به وكان منه بسبيل فلا بركة فيه البتة وقد لعن عدوه إبليس وجعله أبعد خلقه منه فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه واتصاله به فمن هاهنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق والعلم والعمل وكل وقت عصيت الله فيه أو مال عصي الله به أو بدن أو جاه أو علم أو عمل فهو على صاحبه ليس له فليس له من عمره وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله إلا ما أطاع الله به.
ص -99- ولهذا فمن الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها ويكون عمره لايبلغ عشرة سنين أو نحوها كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها وهكذا الجاه والعلم.
وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: ” الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله” هذا هو الذي فيه البركة خاصة والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيئا لأن يكون من العلية فإن الله خلق خلقه قسمين: علية وسفلة وجعل عليين مستقر العلية وأسفل سافلين مستقر السفلة وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة كما جعل أهل طاعته أكرم خلقه عليه وأهل معصيته أهون خلقه عليه وجعل العزة لهؤلاء والذلة والصغار لهؤلاء كما في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي بين يدي رمحي وجعلت الذل والصغار على من خالف أمري” فكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه والنزول من وجه وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان بالعكس.
ولكن يعرض هاهنا للنفوس غلط عظيم وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا
ص -100- أبعد مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض فلا يفي صعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة ولا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب”
فأي صعود يوازي هذه المنزلة؟ والنزول أمر لازم للإنسان ولكن من الناس من يكون نزوله إلى غفلة فهذا متى استيقظ من غفلته عاد إلى درجته أو إلى أرفع منها بحسب يقظته.ومنهم من يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة على الطاعة فهذا متى رجع إلى الطاعة فقد يعود إلى درجته وقد لا يصل إليها وقد يرتفع عنها فإنه قد يعود أعلى همة مما كان وقد يكون أضعف همة وقد تعود همته كما كانت.
ومنهم من يكون نزوله إلى معصية إما صغيرة أو كبيرة فهذا يحتاج في عودة إلى توبة نصوح وإنابة صادقة.
واختلف الناس: هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن أو لا يعود بناء على أن التوبة تأثيرها في إسقاط العقوبة وأما الدرجة التي فاتته فإنه لا يصل إليها.
قالوا: وتقرير ذلك أنه كان مستعدا باشتغاله بالطاعة في الزمن الذي عصى فيه لصعود آخر وارتفاعه تحمله أعماله السالفة بمنزلة كسب الرجل كل يوم بجملة ماله الذي يملكه وكلما تضاعف المال تضاعف الربح فقد راح عليه في زمن المعصية ارتفاع وربح بجملة أعماله فإذا استأنف العمل استأنف صعودا من نزول وكان قبل ذلك صاعدا من أسفل إلى أعلى وبينهما بون عظيم.
ص -101- قالوا: ومثل ذلك رجلان يرتقيان في سلمين لا نهاية لهما وهما سواء فنزل أحدهما إلى أسفل ولو درجة واحدة ثم استأنف الصعود فإن الذي لم ينزل يعلو عليه ولا بد.
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما مقبولا فقال: التحقيق أن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته ومنهم من يعود إلى من مثل درجته ومنهم من لا يصل إلى درجته ومنهم من يعود إلى درجته.
قلت: وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها وما أحدثته المعصية للعبد من الذل والخضوع والإنابة والحذر والخوف من الله والبكاء من خشية الله فقد تقوى هذه الأمور حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته ويصير بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة فهذا قد تكون الخطيئة في حقه رحمة فإنها نفت عنه داء العجب وخلصته من ثقته بنفسه وإدلاله بأعماله ووضعت خد ضراعته وذله وانكساره على عتبة باب سيده ومولاه وعرفته قدره وأشهدته فقره وضرورته إلى حفظ سيده ومولاه له وإلى عفوه عنه ومغفرته له وأخرجت من قلبه صولة الطاعة وكسرت أنفه من أن يشمخ بها أو يتكبر بها أو يرى نفسه بها خيرا من غيره وأوقفته بين يدي ربه موقف الخطائين المذنبين ناكس الرأس بين يدي ربه مستحييا منه خائف وجلا محتقرا لطاعته مستعظما لمعصيته عرف نفسه بالنقص والذم وربه متفرد بالكمال والحمد والوفاء كما قيل:
فأي نعمة وصلت من الله إليه استكثرها على نفسه ورأى نفسه دونها ولم يرها أهلا لها وأي نقمة أو بلية وصلت إليه رأي نفسه أهلا لما هو أكبر منها ورأى مولاه قد أحسن إليه إذا لم يعاقبه على قدر جرمه ولا شطره ولا أدنى جزء منه فإن ما يستحقه من العقوبة لا تحمله الجبال الراسيات فضلا عن
ص -102- هذا العبد الضعيف العاجز فإن الذنب وإن صغر فإن مقابله العظيم الذي لاشيء أعظم منه الكبير الذي لاشيء أكبر منه الجليل الذي لا أجل منه ولا أجمل المنعم بجميع أصناف النعم دقيقها وجليلها من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها فإن مقابلة العظماء والأجلاء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد مؤمن وكافر وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من قابلهم بالرذائل فكيف بعظيم السموات والأرض وملك السموات والأرض وإله السموات والأرض؟ ولولا أن رحمته غلبت غضبه ومغفرته سبقت عقوبته وإلا لتدكدكت الأرض بمن قابله بما لا يليق مقابلته به ولولا حلمه ومغفرته لزلزلت السموات والأرض من معاصي العباد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه وهما “الحليم والغفور” كيف تجد تحت ذلك أنه لولا حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرت السموات والأرض؟
وقد أخبر سبحانه عن كفر بعض عباده أنه {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}.
وقد أخرج الله سبحانه الأبوين من الجنة بذنب واحد ارتكباه وخالفا فيه نهيه ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السموات والأرض بذنب واحد ارتكبه وخالف فيه أمره ونحن معاشر الحمقى كما قيل:
نصل الذنوب إلى الذنوب ونرتجى درج الجنان لذي النعيم الخالد
لقد علمنا أخرج الأبوين من ملكوتها الأعلى بذنب واحد
والمقصود: أن العبد قد يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبل الخطيئة وأرفع
ص -103- درجة وقد تضعف الخطيئة همته وتوهن عزمه وتمرض قلبه فلا يقوى دواء التوبة إعادته إلى الصحة الأولى فلا يعود إلى درجته وقد يزول المرض بحيث تعود الصحة كما كانت ويعود إلى مثل عمله فيعود إلى درجته.
هذا كله إذا كان نزوله إلى معصية فإن كان نزوله إلى أمر يقدح في أصل إيمانه مثل الشكوك والريب والنفاق فذاك نزول لا يرجى لصاحبه صعود إلا بتجديد إسلامه.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تجترئ على العبد من لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات فتجترئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتحزين وإنسائه ما به مصلحته في ذكره ومضربه في نسيانه فتجترئ عليه الشياطين حتى تؤزه إلى معصية الله أزا وتجترئ عليه شياطين الإنس بما تقدر عليه من الأذى في غيبته وحضوره وتجترئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم.
قال بعض السلف: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي وكذلك يجترئ عليه أولياء بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه حدود الله وتجترئ عليه نفسه فتتأسد عليه وتستضعف عليه فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبى وذلك أن الطاعة حصن الرب تبارك وتعالى الذي من دخله كان من الآمنين فإذا فارق الحصن اجترأ عليه قطاع الطريق وغيرهم وعلى حسب اجترائه على معاصي الله يكون اجتراء هذه الآفات والنفوس عليه وليس شيء يرد عنه فإن ذكر الله وطاعته والصدقة وإرشاد الجاهل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
ص -104- وقاية ترد عن العبد بمنزلة القوة التي ترد المرض وتقاومه فإذا سقطت القوة غلب وارد المرض فكان الهلاك فلا بد للعبد من شيء يرد عنه فإن موجب السيئات والحسنات تتدافع ويكون الحكم للغالب كما تقدم وكلما قوى جانب الحسنات كان الرد أقوى كما تقدم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا والإيمان قول وعمل فبحسب قوة الإيمان يكون الدفع والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه فإن كل أحد يحتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه ومعاده وأعلم الناس أعرفهم بذلك على التفصيل وأقواهم وأكيسهم من قوى على نفسه وإرادته فاستعملها فيما ينفعه وكفها عما يضره وفي ذلك تفاوت معارف الناس وهممهم ومنازلهم فأعرفهم من كان عارفا بأسباب السعادة والشقاوة وأرشدهم من آثر هذه على هذه كما أن أسفههم من عكس الأمر والمعاصي تخون العبد أحوج ما كان إلى نفسه في تحصيل هذا العلم وإيثار الحظ الأشرف العالي الدائم على الحظ الخسيس الأدنى المنقطع فتحجبه الذنوب عن كمال هذا العلم وعن الاشتغال بما هو أولى به وأنفع له في الدارين فإذا وقع مكروه واحتاج إلى التخلص منه خانه قلبه ونفسه وجوارحه وكان بمنزلة رجل معه سيف قد غشيه الصدأ ولزم قرابه بحيث لا ينجذب مع صاحبه إذا جذبه فعرض له عدو يريد قتله فوضع يده على قائم سيفه واجتهد ليخرجه فلم يخرج معه فدهمه العدو وظفر به كذلك القلب يصدأ بالذنوب ويصير مثخنا بالمرض فإذا احتاج إلى محاربة العدو لم يجد معه منه شيئا والعبد إنما يحارب ويصاول ويقدم بقلبه والجوارح تبع للقلب فإذا لم يكن عند ملكها قوة يدفع به فما الظن بها؟
وكذلك النفس فإنها تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف وأعني النفس
ص -105- المطمئنة وإن كانت الأمارة تقوى وتتأسد وكلما قويت هذه ضعفت تلك فبقي الحكم والتصرف للأمارة وربما ماتت نفسه المطمئنة موتا ليرجي معه حياة فهذا ميت في الدنيا ميت في البرزخ غير حي في الآخرة حياة ينتفع بها بل حياته حياة يدرك بها الألم فقط.
والمقصود: أن العبد إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والإنابة إليه والجمعية عليه والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه ولا يطاوعه لسانه لذكره وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه فلا ينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر فيه الذكر ولا ينحبس اللسان المذكور بل إن ذكر أو دعا ذكر بقلب غافل لاه ساه غافل ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي كمن له جند يدفعون عنه الأعداء فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم وقطع أخبارهم ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة هذا وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى منه وأمر وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك حتى قيل لبعضهم: قل “لا إله إلا الله” فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها وقيل لآخر: قل “لا إله إلا الله” فقال: شاه رخ غلبنك ثم قضى وقيل لآخر: قل “لا إله إلا الله” فقال:
يارب قائلة يوما وقد تعبت: كيف الطريق إلى حمام منجاب
ثم قضى وقيل لآخر: قل “لا إله إلا الله” فجعل يهذي بالغناء ويقول:
ص -106- تاتا ننتنتا حتى قضى وقيل لآخر ذلك فقال: وما ينفعني ما تقول ولم أدع معصية إلا ركبتها ثم قضى ولم يقلها وقيل لآخر: ذلك فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله تعالى صلاة؟ ثم قضى ولم يقلها وقيل لآخر: ذلك فقال: هو كافر بما تقول وقضى وقيل لآخر ذلك فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها وأخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته فجعل يقول لله فلس لله فلس حق قضى وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه “لا إله إلا الله” وهو يقول: هذه القطعة رخيصة هذا مشتري جيد هذه كذا حتى قضى.
وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من معاصي الله وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطل لسانه من ذكره وجوارحه عن طاعته فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟ وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته فإن ذلك آخر العمل فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت وأضعف ما يكون هو في تلك الحال فمن ترى يسلم على ذلك فهناك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}
فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا؟ فبعيد من قلبه من الله تعالى غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته أن يوفق للخاتمة بالحسنى.
ص -107- ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعا بالأمان {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} كما قيل:
يا آمنا من قبح الفعل منه أهل أتاك توقيع أمن أنت تملكه؟
جمعت شيئين أمنا واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه
والمحسنون على درب المخاوف قد ساروا وذلك درب لست تسلكه
فرطت في الزرع وقت البذر من سفه فكيف عند حصاد الناس تدركه؟
هذا وأعجب شيء فيك زهدك في دار البقاء بعيش سوف تتركه
من السفيه إذا بالله؟ أنت أم ال مغبون في البيع غبنا سوف تدركه؟
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تعمي القلب فإن لم تعمه أضعفت بصيرته ولا بد وقد تقدم بيان أنها تضعفه ولابد فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الهدى وقوته على تنفيذه في نفسه وفي غيره بحسب ضعف بصيرته وقوته فإن الكمال الإنساني مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل وإيثاره عليه وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين وهما اللذان أثنى الله سبحانه على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بهما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق والأبصار: البصائر في الدين فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله تعالى.
القسم الثاني: عكس هؤلاء من لا بصيرة له في الدين ولا قوة على
القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به لكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه ولا الدعوة إليه وهذا حال المؤمن الضعيف والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله منه.
القسم الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة لكنه ضعيف البصيرة في الدين لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بل يحسب كل سوداء تمرة وكل بيضاء شحمة يحسب الورم شحما والدواء النافع سما.
وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين ولا هو موضعا لها سوى القسم الأول قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فأخبر سبحانه أن بالصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه من جملة الخاسرين وأقسم بالعصر الذي هو زمن سعى الخاسرين والرابحين على أن من عداهم فهو من الخاسرين فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ولم يكتف منهم بمعرفة الحق والصبر عليه حتى يوصي بعضهم بعضا به ويرشده إليه ويحثه عليه.
وإذا كان من عدا هؤلاء خاسرا فمعلوم أن المعاصي والذنوب تعمي بصيرة القلب فلا يدرك الحق كما ينبغي وتضعف قوته وعزيمته فلا يصبر عليه بل قد تتوارد على القلب حتى ينعكس إدراكه حتى ينعكس سيره فيدرك سيره
ص -109- فيدرك الباطل حقا والحق باطلا والمعروف منكرا والمنكر معروفا فينتكس في سيره ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت لها وغفلت عن الله وآياته وتركت الاستعداد للقائه ولو لم يكن في عقوبة الذنوب إلا هذه العقوبة وحدها لكانت كافية داعية إلى تركها والبعد منها والله المستعان.
وهذا كما أن الطاعة تنور القلب وتجلوه وتصقله وتقويه وتثبته حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها وصفائها فيتملىء نورا فإذا دنا الشيطان منه أصابه من نور ما يصيب مسترق السمع من الشهب الثواقب فالشيطان يفرق من هذا القلب أشد من فرق الذئب من الأسد حتى إن صاحبه ليصرع الشيطان فيخر صريعا فيجتمع عليه الشياطين فيقول بعضهم لبعض: ما شأنه؟ فتقول: أصابه إنسي وبه نظرة من الإنس:
فيا نظرة من قلب حر منور يكاد لها الشيطان بالنور يحرق
أفيستوي هذا القلب وقلب مظلم أرجاؤه مختلفة أهواؤه قد اتخذه الشيطان وطنه وأعده مسكنه إذا تصبَّح بطلعته حياه وقال: فديت من لا يفلح في دنياه ولا في أخراه؟ :
أنا قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدهافأنت قرين لي بكل مكان
فإن كنت في دار الشقاء فإنني وأنت جميعا في شقا وهوان
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}
ص -110- فأخبر سبحانه أنه من عشا عن ذكره وهو كتابه الذي أنزل على رسول صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه وعمى عنه وغشت بصيرته عن فمه وتدبره ومعرفة مراد الله منه قيض الله له شيطانا عقوبة له بإعراضه عن كتابه فهو قرينه الذي لا يفارقه لا في الإقامة ولا في السير ومولاه وعشيره الذي هو بئس المولى وبئس العشير.
رضيعا لبان ثدي أن تقاسما بأسحم داج عوض لا يتفرق
ثم أخبر سبحانه أن الشيطان يصد قرينه ووليه عن سبيله الموصل إليه وإلى جنته ويحسب هذا الضال المضل المصدود أنه على طريق هدى حتى إذا جاء القرينان يوم القيامة يقول أحدهما للآخر: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين كنت لي في الدنيا أضللتني عن الهدى بعد إذ جاءني وصددتنى عن الحق وأغويتني حتى هلكت وبئس القرين أنت لي اليوم.
ولما كان المصاب إذا شاركه غيره في مصيبته حصل له بالتأسي نوع تخفيف وتسلية أخبر الله سبحانه أن هذا غير موجود وغير حاصل في حق المشتركين في العذاب وأن القرين لا يجد راحة ولا أدنى فرح بعذاب قرينه معه وإن كانت المصائب في الدنيا إذا عمت صارت مسلاة كما قالت الخنساء في أخيها صخر:
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي
فمنع الله سبحانه هذا القدر من الراحة على أهل النار فقال: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}
ص -111- فصل:
ومن عقوباتها: أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه وجيش يقويه به على حربه وذلك أن الله سبحانه ابتلى هذا الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين ولا ينام عنه ولا يغفل عنه يراه هو وقبيله من حيث لا يراه يبذل جهده في معاداته في كل حال ولا يدع أمر يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله ويستعين عليه ببني جنسه من شياطين الجن: وغيرهم من شياطين الإنس: فقد نصب له الحبائل وبغى له الغوائل ومدحوله الأشراك ونصب له الفخاخ والشباك وقال لأعوانه: دونكم عدوكم وعدو أبيكم لا يفوتكم ولا يكون حظه الجنة وحظكم النار ونصيبه الرحمة ونصيبكم اللعنة وقد علمتم أن ما جرى عليّ وعليكم من الخزي واللعن والإبعاد من رحمة الله بسببه ومن أجله فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البلية إذ فاتتنا شركة صالحيهم في الجنة وقد أعلمنا الله سبحانه بذلك كله من عدونا وأمرنا أن نأخذ له أهبته ونعد له عدته.
ولما علم سبحانه أن آدم وبنيه قد بلوا بهذا العدو وقد سلط عليهم أمدهم بعساكر وجند يلقونه بها وأمد عدوهم أيضا بجند وعساكر يلقاهم به وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وأخبر أن ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه وهي التوارة والإنجيل والقرآن وأخبر أنه لا أوفى بعهده منه سبحانه ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر إلى المشتري من هو؟ وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة وإلى من جرى على يديه هذا العقد فأي فوز أعظم من هذا؟ وأي تجارة أربح منه؟
ص -112- ثم أكد سبحانه هذا الأمر بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يسلط سبحانه هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب المخلوقات إليه إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه وأهله أرفع الخلق عنده درجات وأقربهم إليه وسيلة فعقد سبحانه لواء هذا الحرب لخلاصة مخلوقاته وهو القلب الذي محل معرفته ومحبته وعبوديته والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه فولاه أمر هذا الحرب وأيده بجند من الملائكة لا يفارقونه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يعقب بعضهم بعضا كلما ذهب بدل جاء بدل آخر يثبتونه ويأمرونه بالخير ويحضونه عليه ويعدونه بكرامة الله ويصبرونه ويقولون: إنما هو صبر ساعة وقد استرحت راحة الأبد.
ثم أمده سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه فأرسل إليه رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل إليه كتابه فازداد قوة إلى قوته ومددا إلى مدده وعدة إلى عدته وأيده مع ذلك بالعقل وزيرا له ومدبرا وبالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له وبالإيمان مثبتا له ومؤيدا وناصرا وباليقين كاشفا له عن حقيقة الأمر حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه فالعقل يدبر أمر جيشه والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللائقة بها والإيمان يثبته ويقويه ويصبره واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة ثم أمد سبحانه القائم بهذا الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة فجعل العين
ص -113- طليعته والأذن صاحب خبرة واللسان ترجمانه واليدين والرجلين أعوانه وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له ويسألون له أن يقيه السيئات ويدخله الجنات وتولى سبحانه الدفع والدفاع عنه بنفسه وقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ إلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهؤلاء جندي {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.
وعلم سبحانه عباده كيفية هذا الحرب والجهاد فجمعها لهم في أربع كلمات فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو وهو مقاومته ومنازلته فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهو المرابطة وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل معه العدو ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل فهذه الثغور منها يدخل العدو فيجوس خلال الديار ويفسد ما قدر عليه فالمرابطة لزوم هذه الثغور ولا يخلي مكانها فيصادف العدو والثغر خاليا فيدخل منه.
فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الخلق بعد النبيين والمرسلين وأعظمهم حماية وحراسة من الشيطان وقد أخلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد فدخل منه العدو فكان ما كان.
وجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى ولا تقوم التقوى على ساق الصبر.
فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين واصطدام العسكرين وكيف تدال مرة ويدال عليك مرة أخرى؟ أقبل ملك الكفرة وعساكره فوجد القلب في
ص -114- حصنه جالسا على كرسي مملكته أمره نافذ في أعوانه وجنده قد حفوا به يقاتلون عنه ويدافعون عن حوزته فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه فسأل عن أخص الجند به وأقربهم منه منزلة فقيل له: هي النفس فقال لأعوانه: ادخلوا عليها من مرادها وانظروا مواقع محبتها وما هو محبوبها فعدوها به ومنوها إياه وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها ثم جروها بها إليكم فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغور العين والأذن واللسان والفم واليد والرجل فرابطوا على هذه الثغور كل المرابطة فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أو أسير أو جريح مثخن بالجراحات ولا تخلوا هذه الثغور ولا تمكنوا سرية تدخل منها إلى القلب فتخرجكم منها وإن غلبتم
ص -115- العينين سدى وما خلق الله هذه الصورة ليحجبها عن النظر وإن ظفرتم به قليل العلم فاسد العقل فقولوا له: هذه “الصورة” مظهر من مظاهر الحق ومجلى من مجاليه فادعوه إلى القول بالاتحاد فإن لم يقبل فالقول بالحلول العام أو الخاص ولا تقنعوا منه بدون ذلك فإنه يصير به من إخوان النصارى فمروه حينئذ بالعفة والصيانة والعبادة والزهد في الدنيا واصطادوا عليه “وبه” الجهال فهذا من أكبر خلفائي وأكبر جندي بل أنا من جنده وأعوانه.
فصل:
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستحسنه تخيروا له أعذاب الألفاظ وأسحرها للألباب وامزجوه بما تهوى النفس مزجا وألقوا الكلمة فإن رأيتم منه إصغاء إليها فزجوه بأخوانها وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شىء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكير فيه والعظة به و إما بإدخال ضده عليه وإما بتهويل ذلك وتعظيمه وأن هذا أمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها إليه وهو حمل يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك وإما بإرخاصه على النفوس وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أغلى عند الناس وأعز عليهم وأغرب عندهم وزبونه القائلون له أكثر وأما الحق فهو مهجور وقائله به معرض نفسه للعدواة والربح بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك فتدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله ويخف عليه وتخرجون له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه.
ص -116- وإذا شئت أن تعرف ذلك فانظر إلى إخوانهم من شياطين الإنس كيف يخرجون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول وتتبع عثرات الناس والتعرض من البلاء لما لا يطيق وإلقاء الفتن بين الناس ونحو ذلك ويخرجون أتباع السنة ووصف الرب تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في قالب التجسيم والتشبيه والتكييف ويسمون علو الله على خلقه واستواءه على عرشه ومباينته لمخلوقاته تحيزا ويسمون نزوله إلى سماء الدنيا وقوله: “من يسألني فأعطيه” تحركا وانتقالا ويسمون ما وصف به نفسه من اليد والوجه أعضاء وجوارح ويسمون ما يقوم به من أفعاله حوادث وما يقوم من صفاته أعراضا ثم يتوصلون إلى نفي ما وصف به نفسه بنفي هذه الأمور ويوهمون الأغمار وضعفاء البصائر أن إثبات الصفات التي نطق بها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تستلزم هذه الأمور ويخرجون هذا التعطيل في قالب التنزيه والتعظيم وأكثر الناس ضعفاء العقول يقبلون الشيء بلفظ ويردونه بعينه بلفظ آخر قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} فسماه زخرفا وهو باطل لأن صاحبه يزخرفه ويزينه ما استطاع ويلقيه إلى سمع المغرور فيغتر به.
والمقصود: أن الشيطان قد لزم ثغر الأذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه وإن دخل بغير اختياره أفسد عليه.
فصل:
ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان فإنه الثغر الأعظم وهو قبالة الملك فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه وامنعوه أن يجري عليه شيء مما
ص -117- ينفعه من ذكر الله تعالى واستغفاره وتلاوة كتابه ونصيحة عباده والتكلم بالعلم النافع ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلم بالباطل فإنما المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.
الثاني: السكوت عن الحق فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس كما أن الأول أخ ناطق وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم أما سمعتم قول الناصح: “المتكلم بالباطل شيطان ناطق والساكت عن الحق شيطان أخرس” فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن الباطل وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق وخوفوه من التكلم بالحق.بكل طريق.
واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبَّهم منه على مناخرهم في النار فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر؟
وأوصيكم بوصية فاحفظوها: لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة ويكون الآخر على لسان السامع فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها ويطلب من أخيه إعادتها وكونوا أعوانا على الإنس بكل طريق وادخلوا عليهم من كل باب واقعدوا لهم كل مرصد أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أو ما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقه كلها فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له من طريق غيره حتى أصبت منه حاجتي أو بعضها و قد حذرهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: “إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها وقعد له بطريق الإسلام فقال: له أتسلم وتذر
ص -118- دينك ودين آبائك؟ فخالفه وأسلم فقعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ فخالفه وهاجر فقعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة فخالفه وجاهد” فكهذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة وقولوا له في نفسه أتخرج المال وتبقى مثل هذا السائل وتصير بمنزلته أنت سواء؟ أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم واقعدوا له بطريق الحج فقولوا: طريقه مخوفة مشقة يتعرض سالكها لتلف النفس والمال وهكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير منها وذكر صعوبتها وآفاتها ثم اقعدوا لهم على طريق المعاصي فحسنوها في عين بني آدم وزينوها في قلوبهم واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء فمن أبوابهن فادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم.
ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين فامنعوها أن تبطش بما يضركم و تمشى فيه واعلموا أن أكثر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة فأعينوها واستعينوا بها وأمدوها واستمدوا منها وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه واعزلوه عن مملكته وولوا مكانه النفس فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه ولا تحيئكم بما تكرهونه البتة مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته وأردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح فزينوها وجملوها وأروها إياه في أحسن صورة عروس توجد وقولوا له: ذق ة طعم هذا الوصال والتمتع بهذه
ص -119- العروس كما ذقت طعم الحرب وباشرت مرارة الطعن والضرب ثم وازن بين لذة هذه المسالمة ومرارة تلك المحاربة فدع الحرب تضع أوزارها فليست بيوم وتنقضي وإنما هو حرب متصل بالموت وقواك تضعف عن حرب دائم.
واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:
أحدهما: جند الغفلة فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه.
الثاني: جند الشهوات فزينوها في قلوبهم وحسنوها في أعينهم وصُولوا عليهم بهذين العسكرين فليس لكم من بني آدم أبلغ منهما واستعينوا على الغفلة بالشهوات وعلى الشهوات بالغفلة واقرنوا بين الغافلين ثم استعينوا بهما على الذاكر ولا يغلب واحد خمسة فإن مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة وشيطان الذاكر معهم وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم من ذكر الله أو مذاكرة أمر ونهيه ودينه ولم تقدورا على تفريقهم فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين فقربوهم منهم وشوشوا عليهم بهم.
وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها وأدخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته فساعدوه عليها وكونوا أعوانا له على تحصيلها وإذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور فاصبروا أنتم وصابروا ورابطوا عليهم بالثغور وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.
واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور فخذوا عليه طريق الشهوة ودعوا طريق الغضب ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب فلا تخلوا طريق الشهوة عليه ولا تعطلوا ثغرها
ص -120- فإن من لم يملك نفسه عند الغضب فإنه بالحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة فزوجوا بين غضبة وشهوته وامزجوا أحدهما بالآخر وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب وإلى الغضب من طريق الشهوة.
واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب فبه قطعت أرحامهم وسفكت دماؤهم وبه قتل أحد بني آدم أخاه.
واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم والشهوة نار تثور من قلبه وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة فإن ذلك يطفئ عنهم نار الغضب والشهوة وقد أمرهم نبيهم بذلك وقال: “إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بذلك فليتوضأ” وقال لهم: “إنما تطفأ النار بالماء” وقد أوصاهم الله أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة فحولوا بينهم وبين ذلك وأنسوهم إياه واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها الغفلة واتباع الهوى وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى فإذا رأيتم الرجل مخالفا لهواه فاهربوا من ظلمه ولا تدنوا منه.
والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداه ويعينهم بها على نفسه فيقاتلونه بسلاحه ويكون معهم على نفسه وهذا غاية الجهل قال:
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
ص -121- وكان بعض السلف يقول في خطبته: ألا رُبَّ مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم ومذل لنفسه وهو يزعم أنه لها معزٌّ ومصغر لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبر ومضيع لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحفظها وكفى بالمرء جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه يبلغ منها بفعله مالا يبلغ منه عدوه والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تنسي العبد نفسه وإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها.
فإن قيل: كيف ينسى العبد نفسه؟ وإذا نسي نفسه فأي شيء يذكر؟ وما معنى نسيانه نفسه؟
قيل: نعم ينسى نفسه أعظم نسيان قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين.
إحداهما: أنه سبحانه نسيه والثانية أنه أنساه نفسه.
ونسيانه سبحانه للعبد إهماله وتركه وتخليه عنه وإضاعته ونسيانه فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لحظوظها العالية وأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وما تكمل به بنسيه ذلك كله جميعه فلا يخطره بباله ولا يجعله على ذكره ولا يصرف إليه همته فيرغب فيه فإنه لا يمر بباله حتى يقصده ويؤثره.
وأيضا فينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها فلا يخطر بباله إزالتها.
ص -122- وأيضا ينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها فلا يخطر بقلبه مداواتها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول بها إلى الفساد والهلاك فهو مريض مثخن بالمرض ومرضه مترام به إلى التلف ولا يشعر بمرضه ولا يخطر بباله مداواته وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة.
فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتهما وصلاحها وفلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم؟
ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن أكثر هذا الخلق قد نسوا أنفسهم حقيقة وضيعوها وأضاعوا حظها من الله وباعوها رخيصة بثمن بخس بيع الغبن وإنما يظهر لهم هذا عند الموت ويظهر كل الظهور يوم التغابن يوم يظهر للعبد أنه غبن في العقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار والتجارة التي أتجر فيها لمعاده فان كل أحد يتجر في هذه الدنيا لآخرته.
فالخاسرون الذين يعتقدون أنهم أهل الربح والكسب اشتروا الحياة الدنيا وحظهم فيها فأذهبوا طيباتهم ولذاتهم بالآخرة وحظهم فيها في حياتهم الدنيا وحظهم فيها ولذاتهم بالآخرة واستمتعوا بها ورضوا بها واطمأنوا إليها وكان سعيهم لتحصيلها فباعوا واشتروا واتجروا وباعوا آجلا بعاجل ونسيئة بنقد وغائبا بناجز وقالوا: هذا هو الزهرة ويقول أحدهم:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
فكيف أبيع حاضرا نقدا مشاهدا في هذه الدار بغائب نسيئه في دار أخري غير هذه وينضم إلى ذلك ضعف الإيمان وقوة داعي الشهوة ومحبة العاجلة والتشبه ببني الجنس فأكثر الخلق في هذه التجارة الخاسرة التي قال: الله في أهلها {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
ص -123- الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} وقال فيهم {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فإذا كان يوم التغابن ظهر لهم الغبن في هذه التجارة فتنقطع عليهم النفوس حسرات.
وأما الرابحون فإنهم باعوا فانيا بباق وخسيسا بنفيس وحقيرا بعظيم وقالوا ما مقدار هذه الدنيا من أولها إلى آخرها حتى نبيع حظنا من الله تعالي والدار الآخرة بها فكيف بما ينال العبد منها في هذا الزمن القصير الذي هو في الحقيقة كغفوة حلم لا نسبة له إلى الدار القرار البتة قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إلى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وقال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ يَوْماً} فهذه حقيقة هذه الدنيا عند موافاة يوم القيامة فلما علموا قلة لبثهم فيها وإن لهم دار غير هذه الدار دار الحيوان ودار البقاء رأوا من أعظم الغبن بيع دار البقاء بدار الفناء فاتجروا تجارة الأكياس ولم يغتروا بتجارة السفهاء من الناس, فظهر لهم يوم التغابن ربح تجارتهم ومقدار ماشتروه, وكل أحد في هذه الدنيا بائع مشتر متجر. وكل الناس يغدو فبائع نفسه, فمعتقها أو موبقها {إِنَّ اللَّهَ
ص -124- اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
فهذا أول نقد من ثمن هذه التجارة, فتاجروا أيها المفلسون, ويا من لا يقدر على هذا الثمن هاهنا ثمن آخر, فان كنت من أهل هذه التجارة فأعط هذا الثمن {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
والمقصود أن الذنوب تنسي العبد حظه من هذه التجارة الرابحة, وتشغله بالتجارة الخاسرة, وكفى بذلك عقوبة, والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تزيل النعم الحاضرة, وتقطع النعم الواصلة, فتزيل الحاصل, وتمنع الواصل, فان نعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته, ولا استجلب مفقودها بمثل طاعته, فأن ماعنده لا ينال إلاّ بطاعته, وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سببا وآفة: سببا يجلبه, وآفة تبطله, فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته, وآفاتها المانعة منها معصيته, فاذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها, وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.
ومن العجيب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره, وسماعا لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه, وهو مقيم على معصية الله, كأنه
ص -125- مستثنى من هذه الجملة (أو) مخصوص من هذا العموم, وكأن هذا أمر جار على الناس لا عليه, وواصل إلى الخلق لا إليه.
فأي جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا؟ فالحكم لله العلى الكبير
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تباعد عن العبد وليه, وأنفع الخلق له, وأنصحهم له, ومن سعادته في قربه منه: وهو الملك الموكل به, وتدنى منه عدوه, وأغش الخلق له, وأعظمهم ضررا له: وهو الشيطان, فان العبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية, حتى أنه يتباعد منه بالكذبة الواحدة مسافة بعيدة.
وفي بعض الآثار”إذا كذب العبد تباعد منه الملك ميلا من نتن ريحه”. فإذا كان هذا تباعد الملك منه من كذبة واحدة, فماذا يكون قدر تباعده منه مما هو أكبر من ذلك, وأفحش منه؟
وقال بعض السلف: إذا ركب الذكرُ الذكرَ عجت الأرض إلى الله, وهربت الملائكة إلى ربها, وشكت إليه عظم ما رأت.
وقال بعض السلف: إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملك والشيطان, فان ذكر الله وكبره وحمده وهلله طرد الملك الشيطان وتولاه, وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان.
ولا يزال الملك يقرب من العبد حتي يصير الحكم والطاعة والغلبة له, فتتولاه الملائكة في حياته وعند موته وعند مبعثه, كما قال: الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ إلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق له وأنفعهم وأبرهم له, فثبته وعلمه, وقوي جنانه, وأيده. قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي
ص -126- مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فيقول له الملك عند الموت:”لا تخف ولا تحزن وأبشر بالذى يسرك”ويثبته بالقول الثابت أحوج ما يكون إليه في الحياة الدنيا, وعند الموت. وفي القبر عند المسألة.
فليس أحد أنفع للعبد من صحبة الملك له, وهو وليه في يقظته ومنامه, وحياته وعند موته, وفي قبره. ومؤنسه في وحشته, وصاحبه في خلوته, ومحدثه في سره, ويحارب عنه عدوه, ويدافع عنه ويعينه عليه, ويعده بالخير ويبشره به, ويحثه على التصديق بالحق, كما جاء في الأثر الذي يروى مرفرعاً وموقوفا”إن للملك بقلب ابن آدم لمة”وللشيطان لمّة, فلمة الملك إبعاد بالخير وتصديق بالوعد, ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق”.
وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه, وألقى على لسانه القول السديد, وإذا أبعد منه وقرب الشيطان من العبد تكلم على لسانه, قول الزور والفحش, حتى يرى الرجل يتكلم على لسانه الملك, والرجل يتكلم على لسانه الشيطان.
وفي الحديث”إن السكينة تنطق على لسان عمر رضي الله عنه وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل الصالح فيقول: ما ألقاها على لسانك إلاّ الملك, ويسمع ضدها فيقول: ما ألقاها على لسانك إلاّ الشيطان, فالملك يلقى بالقلب الحق, ويلقيه على اللسان, والشيطان يلقي الباطل في القلب, ويجريه على اللسان.
فمن عقوبة المعاصي: أنها تبعد من العبد وليه الذي سعادته في قربه ومجاورته وموالاته, وتدني منه عدوه الذي شقاؤه وهلاكه وفساده في قربه وموالاته, حتى أن الملك لينافح عن العبد, ويرد عنه إذا سفه عليه السفيه وسبه, “كما
ص -127- اختصم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فجعل أحدهما يسب الآخر, وهو ساكت فتكلم بكلمة يرد بها على صاحبه, فقام النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله لما رددت عليه بعض قوله قمت, فقال: كان الملك ينافح عنك, فلما رددت عليه جاءَ الشيطان فلم أكن لأجلس”وإذا دعا العبد المسلم في ظهر الغيب لأخيه أمّن الملك على دعائه, وقال:”لك بمثله”وإذا فرغ من قرأة الفاتحة أمنت الملائكة على دعائه, وإذا أذنب العبد المؤمن الموحد المتبع لسبيله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استغفر له حملة العرش ومن حوله, وإذا نام العبد المؤمن على وضوءٍ بات في شعاره ملك, فملك المؤمن يرد عنه ويحارب ويدافع عنه, ويعلمه ويثبته ويشجعه,
قال: بعض الصحابة رضي الله عنهم: “إن معكم من لا يفارقكم, فاستحيوا منهم وأكرموهم”.
ولا ألأم ممن لا يستحي من الكريم العظيم القدر, ولا يجله يكرمه ولا يوقره, وقد نبه سبحانه على هذا المعني بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} أي استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم, وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يريكم عليه من هو مثلكم, والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم, وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن
ص -128- يفجر ويعصي بين يديه, وان كان قد يعمل مثله عمله, فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ والله المستعان.
ومن عقوباتها: أنها تستجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته, فان الذنوب هي أمراض القلوب متى استحكمت قتلت ولا بد, وكما أن البدن لا يكون صحيحا إلاّ بغذاء يحفظ قوته, واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الردية التي متى غلبت عليه أفسدته, جميعه وحمية يمتنع بها من تناول مما يؤذيه ويخشى ضرره, فكذلك القلب لا تتم حياته إلاّ بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة تحفظ قوته, واستفراغ بالتوبة النصوح تستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الردية منه, وحمية توجب له حفظ الصحة وتجنب ما يضادها, وهي عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة, والتقوى: اسم يتناول هذه الأمور الثلاثة, فما فات منها فات من التقوى بقدره.
وإذا تبين هذا فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة, فإنها يستجلب المواد المؤذية, وتوجب التخليط المضاد للحمية. وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح, فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الأخلاط ومواد المرض, وهو لا يستفرغها, ولا يحتمي لها, كيف تكون صحته وبقاؤه, ولقد أحسن القائل:
جسمك بالحمية أحصنته مخافة من ألم طاري
وكان أولى بك أن تحتمي من المعاصي خشية الباري
فمن حفظ القوة بامتثال الأوامر, واستعمل الحمية باجتناب النواهي واستفرغ التخليط بالتوبة النصوح, لم يدع للخير مطلبا, ولا من الشر مهربا, والله المستعان.
فصل:
فإن لم ترعك هذه العقوبات, ولم تجد لها تأثيرا في قلبك, فأحضره
ص -129- العقوبات الشرعية التي شرعها الله ورسوله على الجرائم, كما قطع اليد في سرقة السارق في ثلاثة دراهم, وقطع اليد والرجل في قطع الطريق على معصوم المال والنفس, وشق الجلد بالسوط على كلمة قذف بها المحصن, أو قطرة خمر يدخلها جوفه, وقتل بالحجارة أشنع قتلة في إيلاج الحشفة في فرج حرام, وخفف هذه العقوبة عمن لم تتم عليه نعمة الإحصان بمائة جلدة وينفي سنة عن وطنه وبلده إلى بلد الغربة, وفرق بين رأس العبد وبدنه إذا وقع على ذات حرم محرم منه, أو ترك الصلاة المفروضة, أو تكلم بكلمة كفر, وأمر بقتل من وطىء ذكرا مثله, وقتل المفعول به, وأمر بقتل من أتي بهيمة, وقتل البهيمة معه, وغرم على تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة, وغير ذلك من العقوبات التي رتبها الله على الجرائم, وجعلها حسب الدواعي إلى تلك الجرائم, وحسب الوازع عنها, فما كان الوازع عنها طبيعيا وما ليس في الطباع داع إليه اكتفى فيه بالتحريم مع التعزير, ولن يرتب عليه حدا, كأكل الرجيع, وشرب الدم, وأكل الميتة, وما كان في الطباع داع إليه رتب عليه من العقوبة بقدر مفسدته, وبقدر داع الطبع إليه.
ولهذا لما كان داع الطباع إلى الزنا من أقوى الدواعي كانت من عقوبته العظمى من أشنع القتلات وأعظمها, وعقوبته السهلة على أنواع الجلد مع زيادة التغريب, ولما كانت (جريمة) اللواط فيها الأمران كان حده القتل بكل حال, ولما كان داعي السرقة قويا ومفسدتها كذلك قطع فيها اليد.
وتأمل حكمته في إفساد العضو الذي باشربه الجناية, كما أفسد على قاطع الطريق يده ورجله اللتين هما آلة قعطه, ولم يفسد على القاذف لسانه الذي جنى به, إذ مفسدته تزيد على مفسدة الجناية ولا يبلغها, فاكتفى من ذلك بإيلام جميع بدنه بالجلد.
ص -130- فإن قيل: فهلا أفسد على الزاني فرجه الذي باشر به المعصية؟
قيل: لوجوه:
أحدها: أن مفسدة ذلك تزيد على مفسدة الجناية إذ فيه قطع النسل, وتعرضه للهلاك.
الثاني: أن الفرج عضو مستور لا يحصل بقطعه المقصود الحد من الردع والزجر لأمثاله من الجناة, بخلاف قطع اليد.
الثالث: أنه إذا قطع يده أبقى له يد أخرى تعوض عنها, بخلاف الفرج.
الرابع: أن لذة الزنا عمت جميع البدن, فكان الأحسن أن تعم العقوبة جميع البدن وذلك أولى من تخصيصها ببضعة منه.
فعقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأوفقها للعقل, وأقومها بالمصلحة.
والمقصود: أن الذنوب إنما تترتب عليها العقوبات الشرعية والقدرية, أو يجمعها الله للعبد, وقد يرفعهما عمن تاب وأحسن.
فصل:
وعقوبات الذنوب نوعان: شرعية, وقدرية, فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها, ولا يكاد الرب تعالى يجمع على العبد بين العقوبتين إلاّ إذا لم يف أحدهما برفع موجب الذنب, ولم يكن في زوال دائه وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية, وربما كانت أشد من الشرعية, وربما كانت دونها, ولكنها تعم, والشرعية تخص, فان الرب تبارك وتعالى لا يعاقب شرعا إلاّ من باشر الجناية أو تسبب إليها.
ص -131- وأما العقوبة القدرية فإنها تقع عامة وخاصة, فان المعصية إذا خفيت لم تضر إلاّ صاحبها, وإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة, وإذا رأي الناس المنكر فاشتركوا في ترك إنكاره أوشك أن يعمّم الله تعالى بعقابه.
وقد تقدم أن العقوبة الشرعية شرعها الله قدر مفسدة الذنب وتقاضي الطبع لها, وجعلها الله سبحانه ثلاثة أنواع: القتل, والقطع, والجلد, وجعل القتل بإزاء الكفر وما يليه ويقرب منه, وهو الزنا واللواط, فان هذا يفسد الأديان, وهذا يفسد (الأنساب, ونوع) الإنسان.
قال: الإمام أحمد رحمه الله:”لا أعلم بعد القتل ذنبا أعظم من الزنا”واحتج بحديث عبد الله بن مسعود أنه قال:”يا رسول الله, أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك, قال: قلت:ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك, قال: قلت: ثم أي, قال: أن تزني بحلية جارك”فأنزل تصديقها في كتابه {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآية.
والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر كل نوع أعلاه ليطابق جوابه سؤال السؤال سائل, فإنه سأله عن أعظم الذنب, فأجابه بما تضمن ذكر أعظم أنواعها, وما هو أعظم كل نوع.
فأعظم أنواع الشرك: أن يجعل العبد لله ندا.
وأعظم أنواع القتل: أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه.
وأعظم أنواع الزنى: أن يزني بحليلة جاره, فأن مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق, فالزنى بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وعقوبة من التي لا زوج لها, إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه, وتعليق نسب عليه لم يكن منه, وغير ذلك من أنواع أذاه: فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنى بغير
ص -132- ذات البعل, فالزنى بمائة امرأة لا زوج لها أيسر عند الله من الزنى بامرأة الجار, فان كان زوجها جارا له انضاف إلى ذلك سوء الجوار, وإذا أجاره بأعلى أنواع الأذى, وذلك من أعظم البوائق.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه”ولا بائقه أعظم من الزنى بامرأة الجار, فان كان الجار أخا له أو قريبا من أقاربه انضم إلى ذلك قطيعة الرحم, فيتضاعف الإثم, فان كان الجار غائبا في طاعة الله كالصلاة وطلب العلم والجهاد وتضاعف له الإثم, حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة ويقال: خذ من حسناته ما شئت, قال: النبي صلى الله عليه وسلم:”فما ظنكم؟”أي ما ظنكم أنه يترك له من حسنات قد حكِّم في أن يأخذ منها ما شاء؟ على شدة الحاجة إلى حسنة واحدة حيث لا يترك الأب لابنه ولا الصديق لصديقه حقا يجب عليه؟ فان اتفق أن تكون المرأة رحما منه انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها, فان اتفق أن يكون الزاني محصنا كان الإثم أعظم, فان كان شيخا كان أعظم إثماً, وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم, فان اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام, أو بلد حرام, أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلاة وأوقات الاجابة تضاعف الإثم, وعلى هذا فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة, والله المستعان.
فصل:
وجعل سبحانه القطع بإزاء إفساد الأموال الذي لا يمكن الاحتراز منه, فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه, لأنه يأخذ الأموال في الاختفاء, وينقب الدور, ويتسور من غير الأبواب, فهو كالسِّنُّور والحية التي تدخل عليك من حيث.
ص -133- لا تعلم, فلم ترفع مفسدة سرقته إلى القتل, ولا تندفع بالجلد, فأحسن ما دفعت به مفسدته إبانة العضو الذي يتسلط به على الجناية, وجعل الجلد بإزاء إفساد العقول, وتمزيق الأعراض بالقذف. فدارت عقوباته سبحانه الشرعية على هذه الأنواع الثلاثة كما دارت الكفارات ثلاثة أنواع: العتق, وهو أعلاها, والإطعام, والصيام.
ثم إنه سبحانه جعل الذنوب ثلاثة أقسام:
قسما فيه الحد, فهذا لم يشرع فيه كفارة اكتفاء الحد.
وقسما لم يترتب عليه حدا, فشرع فيه الكفارة, كالوطء في نهار رمضان, والوطء في الإحرام, الظهار, وقتل الخطإ, والحنث في اليمين, وغير ذلك.
وقسما لم يترتب عليه حدا ولا كفارة, وهو نوعان:
أحدهما: ما كان الوازع عنه طبيعيا, كأكل العذرة, وشرب البول والدم.
والثاني: ما كانت مفسدته أدنى من مفسدة ما رتب عليه الحد, كالنظر والقبلة واللمس والمحادثة, وسرقة فلس, ونحو ذلك.
وشرع الكفارات في ثلاثة أنواع:
أحدها:ما كان مباح الأصل, ثم عرض تحريمه فباشره في الحالة التي عرض فيها التحريم, كالوطء في الإحرام والصيام, وطرده: الوطء في الحيض والنفاس, بخلاف الوطء في الدبر, ولهذا كان إلحاق بعض الفقهاء له بالوطء في الحيض لا يصح, فإنه لايباح في وقت دون وقت, فهو بمنزلة التلوط وشرب المسكر.
النوع الثاني: ما عقد لله من نذر أو ما الله من يمين, أو حرمه الله ثم أراد
النوع الثالث: ما تكون فيه جابرة لما فات, ككفارة قتل الخطأ, وإن لم يكن هناك إثم, وكفارة قتل الصيد خطأ, وإن لم يكن هناك إثم فإن ذلك من باب الجوابر, والنوع الأول من باب الزواجر, والنوع الأوسط من باب التحلة لما منعه العقد.
ولا يجتمع الحد والتعزير في معصية, بل إن كان فيها حد اكتفى به, وإلاّ اكتفى بالتعزير, ولا يجتمع الحد والكفارة في معصية, بل كان معصية فيها حد فلا كفارة فيها, وما فيه كفارة فلا حد فيه, وهل يجتمع التعزير والكفارة في المعصية التي لا حد فيها؟ فيه وجهان, وهذا كالوطء في الإحرام والصيام, ووطء الحائض, إذا أوجبنا فيه الكفارة, فقيل: يجب التعزير, لما انتهك من الحرمة بركوب الجناية, وقيل: لا تعزير في ذلك, اكتفاء بالكفارة, لأنها جابرة وماحية.
فصل:
وأما العقوبات القدرية فهي نوعان: نوع على القلوب والنفوس, ونوع على الأبدان والأموال.
والتي على القلوب نوعان, أحدهما: آلام وجودية يضرب بها القلب, والثاني: قطع المواد التي بها حياته وصلاحه عنه, وإذا قطعت عنه حصل له أضدادها, وعقوبة القلوب أشد العقوبتين, وهي أصل عقوبة الأبدان.
وهذه العقوبة تقوى وتتزايد, حتى تسري من القلب إلى البدن, كما يسري ألم البدن إلى القلب, فإذا فارقت النفس البدن صار الحكم متعلقا بها,
ص -135- فظهرت القلب حينئذ وصارب علانية ظاهرة, وهي المسماة بعذاب القبر, ونسبته إلى البرزخ كنسبة عذاب الأبدان إلى هذه الدار
فصل:
والتي على الأبدان أيضا نوعان: نوع في الدنيا, ونوع في الآخرة, وشدتها ودوامها بحسب مفاسد ما رتبت عليه في الشدة والخفة, فليس في الدنيا والآخرة شر أصلا إلاّ الذنوب وعقوباتها, فالشر إسم لذلك كله, وأصله من شر النفس وسيئات الأعمال, وهما الأصلان اللذان كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منها في خطبته بقوله”ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا”وسيئات الأعمال: من شرور النفس, فعاد كله إلى شر النفس, فإن سيئات الأعمال من فروعه وثمراته.
وقد اختلف في معنى قوله”ومن سيئات أعمالنا”هل معناه السيء من أعمالنا, فيكون من باب إضافة الفرع إلى جنسه؟ أو تكون بمعنى”من”بيانية, وقيل: معناه من عقوباتها التي تسوء, فيكون التقرير: ومن عقوبات أعمالنا التي تسوؤنا, ويرجح هذا القول: أن الاستعاذة تكون قد تضمنت جميع الشر فإن شرور الأنفس تستلزم الأعمال السيئة, وهي تستلزم العقوبات السيئة فنبه بشرور الأنفس على ما تقتضيه من قبح الأعمال, واكتفى بذكرها منه, إذ هو أصله, ثم ذكر غاية الشر ومنتهاه, فهو السيئات التى تسوء العبد عن عمله, من العقوبات والآلام, فتضمنت هذه الأستعاذة أصل الشر وفرعه وغايته ومقتضاه, ومن دعاء الملائكة للمؤمنين قولهم: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} فهذا يتضمن طلب وقايتهم من سيئات الأعمال وعقوباتها التي تسوء صاحبها فإنه سبحانه متى وقاهم عمل السيئ وقاهم جزاء
ص -136- السيئ, وإن كان قوله {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أظهر في عقوبات الأعمال المطلوب وقايتها يومئذ.
فإن قيل: فقد سألوه سبحانه أن يقيهم عذاب الجحيم, وهذا هو وقاية العقوبات السيئة, فدل على أن المراد السيئة التي سألوا وقايتها: الأعمال السيئة, ويكون الذي سأله الملائكة نظير ما ستعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يرد على هذا قوله{يَوْمَئِذٍ} فإن المطلوب وقل شرور سيئات الأعمال ذلك اليوم, وهي سيئات في أنفسها.
قيل: وقاية السيئات نوعان: أحدهما: وقاية فعلها بالتوفيق فلا تصدر منه, والثاني: وقاية جزائها بالمغفرة, فلا يعاقب عليها.فتضمنت الآية سؤال الأمرين, والظرف تقييد للجملة الشرطية لا للجملة الطلبية.
وتأمل ما تضمنه هذا الخبر عن الملائكة من مدحهم بالإيمان, والعمل الصالح, والإحسان إلى المؤمنين بالإستغفار لهم, وقدموا بين استغفارهم توسلهم إلى الله سبحانه بسعة علمه, وسعة رحمته, فسعة علمه تتضمن علمه بذنوبهم وأسبابها وضعفهم عن العصمة, واستيلاء عدوهم وأنفسهم, وهواهم وطباعهم, وما زين لهم من الدنيا وزينتها, وعلمه بهم, إذا أنشأهم من الأرض, وإذا هم أجنة في بطون أمهاتهم, وعلمه السابق بأنهم لا بد أن يعصوه, وأنه يحب العفو والمغفرة, وغير ذلك من سعة علمه الذي لا يحيط به أحد سواه, وسعة رحمته تتضمن أنه لا يهلك عليه أحد من المؤمنين به أهل توحيده ومحبته, فإنه واسع الرحمة لا يخرج عن دائرة رحمته إلاّ الأشقياء, ولا أشقى ممن لم تسعه رحمته التي وسعت كل شيء, ثم سألوه أن يغفر للتائبين الذين اتبعوا سبيله, وهو صراطه الموصل إليه الذي هو معرفته ومحبته وطاعته, فتابوا مما يكره, واتبعوا السبيل الذي يحبها, ثم سألوه أن يقيهم عذاب الجحيم, وأن يدخلهم والمؤمنين من
ص -137- أصولهم وفروعهم وأزواجهم – جنات عدن التي وعدهم بها, وهو سبحانه وإن كان لا يخلف الميعاد, فإنه وعدهم بها بأسباب, من جملتها: دعاء الملائكة لهم أن يدخلهم إياها برحمته التي منها أن وفقهم لأعمالها, وأقام ملائكته يدعون لهم بها.
ثم أخبر سبحانه عن ملائكته أنهم قالوا عقيب هذه الدعوة: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي مصدر ذلك وسببه وغايته صادر عن كمال قدرتك وكمال علمك, فإن العزة كمال القدرة, والحكمة كمال العلم, وبهاتين الصفتين يقضي سبحانه وتعالى ما يشاء ويأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, فهاتان الصفتان مصدر الخلق والأمر.
والمقصود: أن عقوبات السيئات تتنوع إلى عقوبات شرعية, وعقوبات قدرية, وهي إمّا في القلب, وإما في البدن, وإما فيهما, وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت, وعقوبات يوم حشر الأجساد, في الدار الآخرة فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة, ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة, لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم, فإذا استيقظ وصحي أحسن بالألم, فترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار, والكسر على الانكسار, والإغتراق على الماء, وفساد البدن على السموم, والأمراض على الأسباب الجالبة لها, وقد تقارن المضرة الذنب, وقد تتأخر عنه, إما يسير وإما مدة كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه, وكثيرا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام ويذنب الذنب فلا يري أثره عقيبه, ولا يدري أنه يعمل وعمله على التدريج شيئا فشيئا, كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القذة بالقذة فإن تدارك العبد بالأدوية والاستفراغ والحمية, وإلاّ فهو صائر إلى الهلاك, هذا
ص -138- إذا كان ذنبا واحدا لم يتداركه بما يزيل أثره, فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة؟ والله المستعان.
فصل:
فاستحضر بعض العقوبات التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الذنوب, وجوز وصول بعضها إليك, واجعل ذلك داعيا للنفس إلى هجرانها, وأنا أسوق لك منها طرفا يكفي العاقل مع التصديق ببعضه.
فمنها: الختم على القلوب والإسماع, والغشاوة على الإبصار, والإقفال على القلوب, وجعل الأكنة عليها والرين عليها والطبع, وتقليب الأفئدة والإبصار, والحيلولة بين المرأء وقلبه وإغفال القلب عن ذكر الرب, وإنساء الإنسان نفسه وترك إرادة الله تطهير القلب, وجعل الصدر ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء, وصرف القلوب عن الحق, وزيادتها مرضا على مرضها, وإركاسها وإنكاسها, بحيث تبقى منكوسة كما ذكر الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال:”القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر, فذلك قلب المؤمن, وقلب أغلف, فذلك قلب الكافر, وقلب منكوس, فذلك قلب المنافق, وقلب تمده مادتان: مادة إيمان, ومادة نفاق, وهو لما غلب عليه منهما”
ومنها التثبط عن الطاعة, والإقعاد عنها.
ومنها: جعل القلب أصم لا يسمع الحق, أبكم لا ينطق به, أعمى لا يراه, فتصير النسبة بين القلب وبين الحق الذي لا ينفعه غيره, كالنسبة بين أذن.
ص -139- الأصم والأصوات, وعين الأعمى والألوان, ولسان الأخرس والكلام, وبهذا يعلم أن العمى والصمم والبكم للقلب بالذات والحقيقة, وللجوارح بالعرض والتبعية {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وليس المراد نفي العمى الحسي عن البصر, كيف وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ}. وقال {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}. وإنما المراد أن العمى التام في الحقيقة عمى القلب, حتى أن عمي البصر بالنسبة إليه كالأعمى, حتى إنه يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم”ليس الشديد بالصرعة, ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب”. وقوله صلى الله عليه وسلم”ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس, ولا يفطن له فيتصدق عليه”ونظائره كثيرة.
والمقصود: أن من عقوبات المعاصي جعل القلب أعمى أصم أبكم.
ومنها: الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه: فيخسف به إلى أسفل سافلين, وصاحبه لا يشعر, وعلامة الخسف به: أنه لا يزال جوالا حول السفليات والقاذورات والراذائل, كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالا حول العرش.
ومنها: البر والخير ومعالي الأعمال والأقوال والأخلاق.
قال بعض السلف: “إن هذه القلوب جوالة, فمنها ما يجول حول العرش, ومنها ما يجول حول العش”
ومنها: مسخ القلب, فيمسخ كما تمسخ الصورة, فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته, فمن القلوب ما يمسخ على
ص -140- قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به, ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك, وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال: منهم من يكون على أخلاق السباع العادية, ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير, ومنهم من يتطوس في ثيابه كما يتطوس الطاوس, في ريشه ومنهم من يكون بليدا كالحمار, ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك, ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام, ومنهم الحقود كالجمل, ومنهم الذي هو خير كله كالغنم, ومنهم أشباه الذئاب ومنهم أشباه الثعالب التى تروغ كروغانها, وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة, وبالكلب تارة, وبالانعام تارة, وتقوى هذه المشبهة باطنا حتي تظهر في الصورة الظاهرة ظهورا خفيا, يراه المتفرسون, وتظهر في الأعمال ظهورا يراه كل أحد, ولا يزال يقوي حتي تستشنع الصورة, فنقلب له الصورة بإذن الله, وهو المسخ التام, فيقلب الله سبحانه وتعالى الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان, كما فعل باليهود وأشباههم ويفعل بقوم من هذه الأمة يمسخهم قردة وخنازير.
ومنها: مكر الله بالماكر, ومخادعته للمخادع, واستهزاؤه بالمستهزىء, وإزاغته القلب الزائغ عن الحق.
ومنها: نكس القلب حتى يرى الباطل حقا, والحق باطلا, والمعروف منكرا, والمنكر معروفا, ويفسد ويرى أنه يصلح, ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعى إليها, ويشتري الضلالة بالهدى, وهو يرى أنه على الهدى, ويتبع هواه
ص -141- وهو يزعم أنه مطيع لمولاه, وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلب
ومنها: حجاب القلب عن الرب في الدنيا, والحجاب الأكبر يوم القيامة.
كما قال تعالى:{كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم فيصلوا إليها فيروا ما يصلحها ويزكيها, وما يفسدها ويشقيها وإن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم, فتصل القلوب إليه, فتفوز بقربه وكرامته, وتقربه عينا وتطيب به نفسا, بل كانت الذنوب حجابا بينهم وبين قلوبهم, وحجابا بينهم وبين ربهم وخالقهم.
ومنها: المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة, قال: تعالي {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر, ولا ريب أنه من المعيشة الضنك, والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كانت نكرة في سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى, فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره, فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه, وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم, ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه, وإنما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة, وإن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر, فسكرها هذه الأمور أعظم من سكر الخمر, فإنه يفيق صاحبه ويصحوا, وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحوا صاحبه إلاّ إذا سكر في عسكر الأموات, فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في دنياه وفي البرزخ ويوم معاده, ولا تقر العين, ولا يهدى القلب, ولا تطمئن النفس إلاّ بإلهها ومعبودها الذي هو حق, وكل معبود سواه باطل, فمن قرت عينه بالله.
ص -142- قرت به كل عين, ومن لم تقر عينه بالله تقطعت الدنيا حسرات, والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحا كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة والحسني يوم القيامة فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين.
ونظير هذا قوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} ونظيرها قوله تعالى{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة, حصلوا على الحياة الطيبة في الدارين, فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة, وهو النعيم على الحقيقة, ولا نسبة لنعيم البدن إليه.
فقد كان يقول بعض من ذاق هذه اللذة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفى عيش طيب.
قال الآخر: إن في الدنيا جنة هي في الدنيا كالجنة في الآخرة, فمن دخلها دخل تلك الجنة الآخرة, ومن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله”إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا, قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذكر”وقال”ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة”.
ص -143- ولا تظن أن قوله تعالى {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} يختص بيوم المعاد فقط, بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة, وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة, وأيّ لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب, وسلامة الصدر, ومعرفة الرب تعالى, ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلاّ عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإَِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقال حاكيا عنه أنه قال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر, وحب الدنيا والرياسة, فسلم من كل آفة تبعده من الله, وسلم من كل شبهة تعارض خبره, ومن كل شهوة تعارض أمره, وسلم من كل إرادة تزاحم مراده, وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله, فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا, وفي جنة في البرزخ, وفي جنة يوم المعاد.
ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد وبدعة تخالف السنة, وشهوة تخالف الأمر, وغفلة تناقض الذكر, وهو يناقض التجريد والإخلاص.
وهذه الخمسة حجب عن الله, وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراداً لا تنحصر, ولذلك اشتدت حاجة العبد, بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم, فليس العبد أحوج إلى شيء منه إلى هذه الدعوة, وليس شيء أنفع له منها, فان الصراط المستقيم يتضمن علوماً وإرادات وأعمالاً وتروكا ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت, فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد, وقد لا يعلمها, وقد يكون ما لا يعلمه أكثر مما يعلمه, وما يعلمه قد
ص -144- يقدر عليه وقد لا يقدر عليه, وهو من الصراط المستقيم وإن عجز عنه, وما يقدر عليه قد لا تريده, كسلا وتهاونا, أو لقيام مانع وغير ذلك, وما تريده قد يفعله وقد لا يفعله, وما يفعله قد يقوم بشروط الإخلاص وقد لا يقوم, وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة وقد لا يقوم, وما يقوم فيه بالمتابعة قد يثبت عليه وقد صرف قلبه عنه, وهذا كله واقع سار في الخلق, فمستقل ومستكثر, وليس في طباع العبد الهداية إلى ذلك, بل متى وكل إلى طباعه حيل بينه وبين ذلك كله, وهذا هو الإركاس الذي أركس الله به المنافقين بذنوبهم فأعادهم إلى طباعهم وما خلقت عليه نفوسهم من الجهل والظلم, والرب تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره, وأمر ونهيه, فيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بفضله ورحمته, وجعل الهداية حيث تصلح, ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحل, وذلك موجب صراط المستقيم الذي هو عليه, فإذا كان يوم القيامة نصب لخلقه صراطاً مستقيما يوصله إليه, فهو على صراط مستقيم.
ونصب لعباده من أمره صراطاً مستقيماً دعاهم جميعا إليه حجة منه وعدلا, وهدى من يشاء منهم إلى سلوكه نعمة منه وفضلا, ولم يخرج بهذا العدل وهذا الفضل عن صراطه المستقيم الذي هو عليه, فإذا كان يوم لقائه نصب لخلقه صراطا مستقيما يوصلهم إلى جنته, ثم صرف عنه من صرف عنه في الدنيا, وأقام عليه من أقام عليه في الدنيا, وجعل نور المؤمنين به وبرسوله وما جاء به الذي كان في قلوبهم في الدنيا نورا ظاهرا لهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الحشر, وحفظ عليهم نورهم حتى يقطعوه, كما حفظ عليهم الإيمان حتى لقوه, وأطفأ نور المنافقين أحوج ما كانوا إليه, كما أطفأه من قلوبهم في الدنيا, وأقام أعمال
ص -145- العصاة بجنبتي الصراط كلاليب وحسكا تخطفهم كما تخطفهم في الدنيا عن الاستقامة عليه, وجعل قوة سيرهم وسرعتهم عليه على قدر قوة سيرهم وسرعتهم إليه في الدنياء, ونصب للمؤمنين حوضا يشربون منه بإزاء شربهم من شرعه في الدنيا, وحرم من الشرب منه هناك من حرم الشرب من شرعه ودينه هاهنا فانظروا إلى الآخرة كأنها رأى عين, وتأمل حكمة الله سبحانه في الدارين تعلم حينئذ (علما) يقينا لاشك فيه: أن الدنيا مزرعة الآخرة, وعنوانها وأنموذجها, وأن منازل الناس فيها من السعادة والشقاوة على حسب منازلهم في هذه الدار في الإيمان والعمل الصالح وضدهما, وبالله التوفيق.
فمن أعظم عقوبات الذنوب الخروج عن الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة.
فصل:
ولما كانت الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها تفاوتت عقوباتها في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتها.
ونحن نذكر فيها بعون الله وحسن توفيق فصلا وجيزا جامعا فتقول:
أصلها نوعان: ترك مأمور, وفعل محظور, وهما الذنبان اللذان ابتلى الله سبحانه أبوي الجن والإنس, بهما وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلي ظاهر على الجوارح, وباطن في القلوب, وباعتبار متعلقة إلى حق الله, وحق خلقه, وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه, لكن سمى حقا للخلق, لأنه يجب بمطالبتهم, ويسقط بإسقاطهم.
ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام: ملكية, وشيطانية, وسبعية, وبهيمية, لا تخرج عن ذلك.
ص -146- فالذنوب الملكية: أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية, كالعظمة, والكبرياء, والجبروت, والقهر, والعلو, والظلم, واستعباد الخلق, ونحو ذلك, ويدخل في هذا الشرك بالله تعالى, وهو نوعان: شرك به في أسمائه وصفاته وجعل آلهة أخرى معه, وشرك به في معاملته, وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار, وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره.
وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب, ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره, فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه ربوبيته وملكيه, وجعل له ندا, وهذا أعظم الذنوب عند الله, ولا ينفع معه عمل.
فصل:
وأما الشيطانية: فالتشبه بالشيطان في الحسد, والبغي, والغش, والغل, والخداع, والمكر, والأمر بمعاصي الله, وتحسينها, والنهى عن طاعة الله, وتهجينها, والابتداع في دينه, والدعوة إلى البدع والضلال.
وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة, وإن كانت مفسدته دونه.
فصل:
وأما السبعية: فذنوب العدوان, والغضب, وسفك الدماء, والتوثب على الضعفاء والعاجزين, ويتولد منها أنواع أذي النوع الإنساني, والجرأة على الظلم والعدوان.
وأما الذنوب البهيمية: فمثل الشره, قضاء شهوة البطن والفرج, ومنها يتولد الزنى, والسرقة, وأكل أموال اليتامى, والبخل, والشح, والجبن, والهلع, والجزع, وغير ذلك.
ص -147- وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية, ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام, فهو يجرهم إليها بزمام, فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية, ثم إلي الشيطانية, ثم منازعة الربوبية, والشرك في الوحدانية.
ومن تأمل هذا حق التأمل تبين له أن الذنوب دهليز الشرك والكفر ومنازعة الله ربوبية.
فصل:
وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر, قال: الله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاّ اللَّمَمَ}.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”الصلوات الخمس, والجمعة إلى الجمعة, ورمضان إلي رمضان, مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر”.
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:
الثانية: أن تقاوم الصغائر, ولا ترتقى إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر, وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر. فتأمل هذا, فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”ألاّ أنبئكم بأكبر
ص -148- الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: الإشراك بالله, وعقوق الوالدين, وشهادة الزور”.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم:”اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات”.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم”أنه سئل أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قيل: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك”فأنزل الله تعالى تصديقها {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآية.
واختلف الناس في الكبائر, هل لها عدد يحصرها؟ على قولين:
ثم الذين قالوا بحصرها اختلفوا في عددها, فقال عبد الله بن مسعود: هي أربعة, وقال عبد الله بن عمر هي سبعة, وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص هي تسعة, وقال غيره هي إحدى عشرة. وقال آخر: هي سبعون.
وقال أبو طالب المكي: جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها أربعة في القلب, وهي: الشرك بالله, والإصرار على المعصية, والقنوط من رحمة الله, والأمن من مكر الله. وأربعة في اللسان: شهادة الزور, وقذف المحصنات, واليمين الغموس, والسحر. وثلاثة في البطن: شرب الخمر, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا. واثنتان في الفرج: وهما الزنى, واللواط. واثنان في اليدين, وهما: القتل, والسرقة. وواحدة في الرجلين, وهي الفرار من الزحف. وواحدة تتعلق بجميع الجسد, وهو عقوق الوالدين.
ص -149- والذين لم يحصروها بعدد, منهم من قال: كلما نهى الله عنه في القرآن فهو كبيرة, وما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صغيرة.
وقالت طائفة: ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن أو غضب أو عقوبة فهو كبيرة, ومالم يقرن به شيء من ذلك فهو صغيرة.
وقيل: كلما رتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة, وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة.
وقيل: كلما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر, وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة.
وقيل: كلما لعن الله أو رسوله فاعله فهو كبيرة, وقيل: كلما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.
والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها- بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه معصيته ومخالفة أمره – كبائر, فالنظر إلى من عصى أمره. وانتهك محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر, وهي مستوية في هذه المفسدة, قالوا: ويوضح هذا أن الله سبحانه لا تضره الذنوب ولا يتأثر بها, فلا يكون بعضها بالنسبة إليه أكبر من بعض, فلم يبق إلاّ مجرد معصيته ومخالفته, ولا فرق في ذلك بين ذنب وذنب.
قالوا: ويدل عليه أن مفسدة الذنب إنما هي تابعة للجراءة والتوثب على حق الرب تبارك وتعالى, ولهذا لو شرب رجل خمرا أو وطئ فرجا حراما, وهو لا يعتقد تحريمه, لكان قد جمع بين الجهل وبين مفسدة ارتكاب الحرام, ولو فعل ذلك من يعتقد تحريمه لكان آتيا بأحد المفسدتين, وهو الذي يستحق العقوبة دون الأول: فدل على أن مفسدة الذنب تابعة للجراءة والتوثب.
ص -150- قالوا: ويدل على هذا أن المعصية تتضمن الاستهانة بأمر المطاع ونهيه وإنتهاك حرمته, وهذا لا فرق فيه بين ذنب وذنب.
قالوا: فلا ينظر العبد إلى كبر الذنب وصغره في نفسه, ولكن ينظر إلى قدر من عصاه, وعظمته, وانتهاك حرمته بالمعصية, وهذا لا يقترن فيه الحال بين معصية ومعصية, فإن ملكا مطاعا عظيما لو أمر أحد مملوكيه أن يذهب في مهم له إلى بلد بعيد, وأمر آخر أن يذهب في شغل له إلى جانب الدار, فعصياه وخالفا أمره, لكانا في مقته والسقوط من عينه سواء.
قالوا: ولهذا كانت معصية من ترك الحج من مكة وترك الجمعة وهو جار المسجد أقبح عند الله من معصية من تركه من المكان البعيد, والواجب على هذا أكثر من الواجب على هذا, ولو كان مع رجل مائتا درهم ومنع زكاتها ومع آخر مائتا ألف ألف فمنع زكاتها لا يستويا في منع ما وجب على كل واحد منهما, ولايبعد استواؤهما في العقوبة, إذا كان كلا منهما مصرا على منع زكاة ماله, قليلا كان المال أو كثيرا.
فصل:
وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال:
إن الله عز وجل أرسل رسله, وأنزل كتبه, وخلق السموات والأرض ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله لله, والطاعة كلها له, والدعوة له كما قال: تعالي {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} وقال تعالى: الله {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ
ص -151- وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر: أن يعرف بأسمائه وصفاته, ويعبد وحده لا يشرك به, وأن يقوم الناس بالقسط, وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض, كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل ومن أعظم القسط التوحيد, بل هو رأس العدل وقوامه. وأن الشرك لظلم عظيم, والتوحيد أعدل العدل, فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر, وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له, وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات.
فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين, وأعلم العالمين, فيما فرضه على عباده, وحرمه عليهم, وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي.
فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق, وحرم الله الجنة على كل مشرك, وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيدا لهم, لما تركوا القيام بعبوديته, وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا, أو يقبل فيه شفاعة, أو يستجيب له في الآخرة دعوة, أو يقبل فيها عثرة, فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله, حيث جعل له من خلقه ندا, وذلك غاية الجهل به, كما أنه غاية الظلم منه, وإن كان المشرك لم يظلم ربه, وإنما ظلم نفسه.
ص -152- فصل:
ووقعت مسألة, وهي: أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى أو أنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلاّ بالوسائط والشفعاء, كحال الملوك, فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية, وإنما قصد تعظيمه, وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدخلني عليه, فهو المقصود, وهذه وسائل وشفعاء, فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى, ومخلدا في النار, وموجبا لسفك دماء أصحابه, واستباحة حريمهم وأموالهم؟.
وترتب على هذا سؤال آخر, وهو: أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقرب إليه بالشفعاء والوسائط, فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع, أم ذلك قبيح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشرائع بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب؟ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
فتأمل هذا السؤال, واجمع قلبك جوابه ولا تستهونه, فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين, والعالمين بالله والجاهلين به, وأهل الجنة وأهل النار.
فتقول وبالله التوفيق والتأييد, ومنه نسأل المعونة والتسديد, فإنه من يهده الله فلا مضلل له, ومن يضلل فلا هادي له, ولا مانع لما أعطى, ولا معطى لما منع.
الشرك شركان: شرك بتعلق بذات المعبود, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله, وشرك في عبادته ومعاملته, وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته, ولا في صفاته, ولا في أفعاله.
ص -153- والشرك الأول نوعان: أحدهما شرك التعطيل, وهو أقبح أنواع الشرك, كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى: مخبراً عنه أنه قال: لهامان {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} والشرك والتعطيل متلازمان, فكل معطل مشرك, لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل, بل قد يكون المشرك مقرا بالخالق سبحانه وصفاته, ولكن عطل حق التوحيد, وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها: هو التعطيل, وهو ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه, وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله, وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد, ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق, ولا هاهنا شيئان, بل الحق المنزه وهو عين الخلق المشبه, ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته, وأنه لم يكن معدوما أصلا, بل لم يزل ولا يزال, والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضيت إيجادها, ليسمونها العقول والنفوس, ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة, فلم يثبتوا اسما ولا صفة, بل جعلوا المخلوق أكمل منه, إذا كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
فصل:
النوع الثاني شرك من جعل مع الله إلها آخر ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته كشرك النصارى الذي جعلوه ثلاثة, فجعلوا المسيح إلها, وأمه إلها.
ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلي النور, وحوادث الشر إلى الظلمة.
ص -154- ومن هذا شرك القدرية القائلين بان الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه, وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته, ولهذا كانوا من أشباه المجوس.
ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه {إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فهذا جعل نفسه ندا لله, يحيي ويميت بزعمه, كما يحيي الله ويميت, فالزمه إبراهيم عليه السلام أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها, وليس هذا انتقالا كما زعم بعض أهل الجدل, بل إلزاما على طرد الدليل إن كان حقا.
ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات, ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم.
فصل:
وأما الشرك في العبادة: فهو أسهل من هذا الشرك, وأخف أمرا, فانه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلاّ الله, وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطى ولا يمنع إلاّ الله, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه, ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته, بل يعمل لحظ نفسه تارة, وطلب الدنيا تارة, ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة, فلله من عمله وسعيه نصيب, ولنفسه وحظه وهواه نصيب,
ص -155- وللشيطان نصيب, وللخلق نصيب, هذا حال أكثر الناس, وهو الشرك الذي قال: فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن حبان في صحيحه”الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل, قالوا: وكيف ننجوا منه يا رسول الله؟ قال: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم, وأستغفرك لما لا أعلم”فالرياء كله شرك, قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} أي كما أنه إله واحد, لا إله سواه, فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده, فكما تفرد بالإلهية يحب أن يفرد بالعبودية, فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة, وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه:”اللهم اجعل عملي كله صالحا, واجعله لوجهك خالصا, ولا تجعل لا حد فيه شيئا”.
وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل, وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا, فإنه ينزله منزلة من لم يعلمه, فيعاقب على ترك الأمر, فان الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة, قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به, بل الذي أتي به شيء غير المأمور به, فلا يصح, ويقبل منه, ويقول الله تعالى”أنا أغني الشركاء عن الشرك, فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري, فهو للذى أشرك به, وأنا منه برئ”.
وهذا الشرك ينقسم إلي مغفور وغير مغفور, وأكبر وأصغر, والنوع الأول: ينقسم إلى كبير وأكبر, وليس شيء منه مغفور, فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب مخلوقا كما يحب الله, فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله
ص -156- وهو الشرك الذي قال: سبحانه فيه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الآية.
وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق, والرزق, والإماتة, والإحياء, والملك, والقدرة, وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل, وهذا غاية الجهل والظلم, فكيف يسوي من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوي العبيد بما لك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات, الضعيف بالذات, العاجز بالذات, المحتاج بالذات, الذي ليس له من ذاته إلاّ العدم, بالغنى بالذات, القادر بالذات, الذي غناه, وقدرته, وملكه, وجوده, وإحسانه, وعلمه, ورحمته, وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟.
فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه, كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فعدل المشرك من خلق السموات والأرض, وجعل الظلمات والنور, بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض, فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه.
فصل:
ويتبع هذا الشرك به سبحانه في الأقوال, والأفعال, والإرادات, والنيات, فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره, والطواف بغير بيته, وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره, وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض, أو تقبيل القبور, واستلامها, والسجود لها, وقد لعن النبي
ص -157- صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى لله فيها, فكيف بمن أتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله؟.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”.
وفي الصحيح عنه:”إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء, والذين يتخذون القبور مساجد”.
وفي الصحيح أيضا عنه:”أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد, فإني أنهاكم عن ذلك”.
وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه, وصحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم قال:”لعن الله زوارات القبور, والمتخذين عليها المساجد والسرج”.
وقال:”اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”.
وقال:”أن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا, وصوروا فيه تلك الصورة, أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة”.
فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر, فكيف حال من سجد للقبر بنفسه؟ وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم:”اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد”وقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم جانب التوحيد أعظم حماية, حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها, لئلا يكون ذريعة إلى التشبه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين, وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس.
وأما السجود لغير الله فقال:”لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلاّ لله”و”لا ينبغي”في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للذي هو في غاية الامتناع شرعا,
ص -158- كقوله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وقوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} وقوله عن الملائكة {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}
فصل:
ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ, كالحلف بغيره, كما رواه أحمد وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”من حلف بغير الله فقد أشرك”وصححه الحاكم وابن حبان.
ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت, كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: له رجل:”ما شاء الله وشئت, قال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده”وهذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة كقوله {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك, وأنا في حسب الله وحسبك, وما لي إلاّ الله وأنت, وهذا من الله ومنك, وهذا من بركات الله وبركاتك, والله لي في السماء وأنت لي في الأرض, أو يقول: والله وحياة فلان, أو يقول: نذرا لله ولفلان, وأنا تائب لله ولفلان, أو أرجوا الله وفلانا, ونحو ذلك؟.
فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت, ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة, وأنه إذا كان قد جعل لله ندا فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء- بل لعله أن يكون من أعدائه- ندا لرب العالمين, فالسجود والعبادة, والتوكل, والإنابة, والتقوى, والخشية, والحسب, والتوبة, والنذر, والحلف, والتسبيح, والتكبير, والتهليل, والتحميد,
ص -159- والاستغفار, وحلق الرأس خضوعا وتعبدا, والطواف بالبيت, والدعاء, كل ذلك محض حق الله لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وفي مسند الإمام أحمد”أن رجلا أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب ذنبا, فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد, فقال: قد عرف الحق لأهله”.
فصل:
وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له, وقل من ينجو منه فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئا غير التقرب إليه, وطلب الجزاء منه, فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص: أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونيته. وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم, من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهي ملة إبراهيم عليه السلام التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.
فصل:
إذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك الجواب عن السؤال المذكور, فنقول, ومن الله وحده نستمد الصواب.
حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به, هذا هو التشبيه في الحقيقة, لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله الله صلى الله عليه وسلم, فعكس من نكس الله قلبه, وأعمى عين بصيرته, وأركسه بكسبه, الأمر وجعل التوحيد تشبيها, والتشبيه تعظيما وطاعة, فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء
ص -160- والمنع وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده, فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق, وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا- فضلا من غيره- تشبيها لمن له الأمر كله, فأزمة الأمور كلها بيديه, ومرجعها إليه, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, لا مانع لما أعطى, ولا معطى لما منع, بل إذ فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد, وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.
فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات, بالقادر الغني بالذات.
ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه, الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده, والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة, وغاية الذل مع غاية الحب, كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده, ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره, فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له, وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره, مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب, مع غاية الذل, هذا تمام العبودية, وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين, فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه. وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع, وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل, ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم, وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها, ومضى على الفطرة الأولى من
إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود, فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
ومنها: التوكل, فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها: التوبة, فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
ومنها: الحلف باسمه تعظيما وإجلاله, فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه.
وأما في جانب التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء, وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته, وهو حقيقة بأن ويذله غاية الهوان, ويذله غاية الذل, ويجعله تحت أقدام خلقه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال:”يقول الله عز وجل: العظمة إزاري, والكبرياء ردائي, فمن نازعني واحدا منهما عذبته”وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة لتشبه بالله في مجرد الصنعة, فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والالهية؟ كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم:”أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون, يقال لهم أحيوا ما خلقتم”.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي, فليخلقوا ذرة, فليخلقوا شعيرة”فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر.
والمقصود: أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة, فكيف حال من تشبه
ص -162- به في خواص ربوبيته وإلهيته؟ وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلاّ لله وحده, كملك الأملاك, وحاكم الحكام, ونحوه.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”أن أخضع الأسماء عند الله رجل يسمى: بشاهان شاه- ملك الملوك- لا ملك إلاّ الله”وفي لفظ”أغيظ الله رجل يسمى بملك الأملاك”.
فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلاّ له, فهو سبحانه ملك الملوك وحده وهو حاكم الحكام وحده, فهو الذي يحكم الحكام كلهم, ويقضي عليهم كلهم, لا غيره.
فصل:
إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة, وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به, فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس, فظن به ما يناقض أسماؤه وصفاته, ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم, كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} وقال تعالى: لمن أنكر صفة من صفاته {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وقال تعالى: عن خليله إبراهيم إنه قال: لقومه {مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فما ظنكم أي يجازيكم به إذا لقيتموة وقد عبدتم غيره وماذا ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟ وماظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم, وهو على كل شيء قدير, وأنه غني عن كل ما سواه, وكل ما سواه فقير إليه,
ص -163- وأنه قائم بالقسط على خلقه, وأنه المتفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره, والعالم بتفاصيل الأمور, فلا يخفي عليه خافية من خلقه, والكافي لهم وحده, فلا يحتاج إلى معين, والرحمن بذاته, فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه, وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء, فأنهم يحتاج إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم, إلى من قضاء حوائجهم, وإلى من يسترحمهم وإلى من يستعطفهم بالشفاعة, فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم, فأما القادر على كل شيء الغني عن كل شىء, الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء, فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده وظن به ظن سوء, وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده, ويمتنع في العقول والفطر وقبحه مستقر في السليمة فوق كل قبيح.
يوضع هذا: أن العابد معظم لمعبوده, متأله له, خاضع ذليل له, ورب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتأله والتذلل والخضوع, وهذا خالص حقه, فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره, أو يشرك بينه وبينه فيه, ولا سيما الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه, كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الآية أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريك له في رزقه, فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا به متفرد به وهو الإلهية, التي لا تنبغي لغيري, ولا تصح لسواي؟
فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري, ولا عظمني حق عظمتي, ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي فما قدر الله بحق قدره من عبد معه غيري,
ص -164- كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره من لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره, وإن سلبهم الذباب شيئا مما عليه لم يقدر على الاستعاذة منه, قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآية فما قدر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة, بل هو أعجز شيء وأضعفه, فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل.
وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل إلى خلقه رسولا, ولا أنزل كتابا, بل نسبه إلى مال يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتضييعهم وتركهم سدي, وخلقهم باطلا عبثا, وكذا ما قدره حق قدره من نفي حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى, فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره وعلوه فوق خلقه, وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد, ونفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم, فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه, وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاءون بدون مشيئة الرب, فيكون في ملكه مالا يشاء, ويشاء مالا يكون, فتعالى الله عن قوله أشباه المجوس علوا كبيرا.
وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على مالا يفعله عبد, ولا له عليه قدرة, ولا تأثير له فيه البتة, بل هو نفس فعل الرب جل جلاله, فيعاقب عبده على فعله هو سبحانه الذي جبر العبد عليه, وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق, وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن
ص -165- السيد لو أكره عبده على فعل أو ألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحا فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير. ولا هو واقع بإرادته, ولا هو فعله البتة, ثم يعاقب عليه عقوبة الأبد؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقول هؤلاء شر من أقول المجوس, والطائفتان ما قدر الله حق قدره.
وكذلك ما قدره حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره, بل جعله في كل مكان, وصانه عن عرشه أن يكون مستويا عليه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وتعرج الملائكة والروح إليه, وتنزل من عنده {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} فصانه عن استوائه على سرير الملك, ثم جعله في كل مكان يأنف الإنسان, بل غيره من الحيوان, أن يكون فيه, وما قد الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته, ولا من نفي حقيقة حكمته التي هي الغابات المحمودة المقصودة بفعله, ولا من نفى حقيقة فعله, ولم يجعل له فعلا اختياريا يقوم به, بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه, فنفي حقيقة مجيئه وإتيانه واستوائه على عرشه, وتكليمه موسى من جانب الطور, ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه, إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها, وزعموا أنهم ينفيها قد قدروه حق قدره.
وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولدا, وجعله سبحانه يحل في جميع مخلوقاته, أو جعله عين هذا الوجود.
وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه رفع أعلمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأعلى ذكرهم, وجعل الله فيهم الملك والخلافة والعز, ووضع أولياء
ص -166- رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذل أين ما ثقفوا. وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب, تعالى عن قول الرافضة علوا كبيرا.
وهذا القول مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين: إنه أرسل ملكا ظالما, فادعى النبوة لنفسه, وكذب على الله, ومكث زمانا طويلا يكذب عليه كل وقت, ويقول: قال: الله كذا, وأمر بكذا, ونهى عن كذا, وينسخ شرائع أنبيائه ورسله, ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم, ويقول: الله أباح لي ذلك, والرب تعالى يظهره ويؤيده ويعليه, ويعزه ويجيب دعواته, ويمكنه ممن يخالفه, ويقيم الأدلة على صدقه, ولا يعاديه أحد إلا ظفر به, فيصدقه بقوله وفعله وتقريره, وتحدث أدلة تصديقه شيئا بعد شيء.
ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى وعلمه, وحكمته وحمته وربوبيته, تعالى الله عن قول الجاحدين علوا كبيرا.
فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين, كما قال: الشاعر:
رضيعى لبان ثدى أم تقاسما
بأسحم داج عوض لا يتفرق
وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: أنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين ويدخلهم دار الجحيم, وينعم أعدءه ومن لم يؤمنبه طرفه عين ويدخلهم دار النعيم, وأن كل الأمرين بالنسبة إليه سواء, وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك, فمعناه للخبر لا للمخالفة حكمته وعدله, وقد أنكر سبحانه في كتابه على من جوز عليه ذلك غاية الإنكار, وجعل الحكم به من أسوء الأحكام.قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
ص -167- وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وقال{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وقال {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيى الموتى, ولا يبعث من في القبور, ولا يجمع خلقه ليوم يجازى المحسن فيه بإحسانه والمسيء فيه بإساءته, ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه, ويكرم للمتحملين للمشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته, ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه, ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه, ونهيه فارتكبه, وحقه فضيعه, وذكره فأهمله, وغفل قلبه عنه, وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعته, فلله الفضلة من قلبه, وقوله وعلمه, هواه المقدم في ذلك لأنه المهم عنده, يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه وهو في قبضته, وناصيته بيده,
ص -168- وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل له من أقرب الخلق إليه شريكا في ذلك لكان ذلك جراءة وتوثبا على محض حقه, واستهانة به وتشريكا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلاّ له سبحانه فكيف وإنما أشرك معه أبغض الخلق إليه, وأهونهم عليه, وأمقتهم عنده, وهو عدوه على الحقيقة؟ فإنه ما عبد من دون الله إلاّ الشيطان, كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم للشيطان, وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة, كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} فالشيطان يدعو المشركين إلى عبادته, ويوهمهم أنه ملك, كذلك عباد الشمس والقمر والكواكب يزعمون إنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب. وهي التى تخاطبهم, وتقضي لهم الحوائج, ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان فيسجد لها الكفار, فيقع سجودهم له, وكذلك عند غروبها, وكذلك من عبد المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان, فإنه يزعم أنه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أمه, ورضيها لهم وأمرهم بها, وهذا هو الشيطان الرجيم, لا عبد الله ورسوله, فنزل هذا كله على قوله تعالى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} فما عبد أحد من بني آدم غير الله كائنا من كان إلاّ وقعت عبادته للشيطان فيستمتع العابد
ص -169- بالمعبود في حصول غرضه, ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ} أي من إغوائهم وإضلالهم وقال أوليائهم من الإنس {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله, وأنه لا يغفره بغير التوبة منه, وإنه يوجب الخلود في العذاب, وأنه ليس تحريمه وقبحه لمجرد النهى عنه, بل يستحيل على الله سبحانه أن يشرع لعباده إلها غيره, كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كمال ونعوت جلاله, وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك, أو يرضي به؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فصل:
فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق, أمر لأجله بالأمر, الذي كان من أكبر الكبائر عند الله, وكذلك الكبر وتوابعه كما تقدم, فإن الله سبحانه خلق الخلق, وأنزل الكتاب, لتكون الطاعة له وحده, والشرك والكبر ينافيان ذلك, وكذلك حرم الله الجنة على أهل الشرك والكبر ولا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
فصل:
ويلي ذلك في كبر المفسدة: القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله. ووصفه بضد ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا أشد شيء منافاة ومناقضة لكمال من له الخلق والأمر, وقدح في نفس الربوبية وخصائص الرب, فإن صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك وأعظم إثماً
ص -170- عند الله فإن المشرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله! كما أن أقر للملك بالملك, ولم يجحد ملكه ولا الصفات التي استحق بها الملك, لكن جعل معه شريكا في بعض الأمور تقربا إليه, خير ممن جحد صفات الملك, وما يكون به ملكا, هذا أمر مستقر في سائر الفطر والعقول.
فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟.
فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له. ولهذا حكى الله عن إمام المعطلة فرعون أنه أنكر على موسى ما أخبر به من أن ربه فوق السموات, فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}. واحتج الشيخ وأبو الحسن الأشعري في كتبه على المعطلة بهذه الآية. وقد ذكرنا لفظه في غير هذا الكتاب, والقول على الله بلا علم والشرك متلازمان. ولما كانت البدع المضلة جهلا بصفات الله وتكذيبا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم عنادا وجهلا كانت من أكبر الكبائر, أن قصرت عن الكفر, وكانت أحب إلى إبليس من كبار الذنوب, كما قال: بعض السلف”البدعة أحب إلي إبليس من المعصية”لان المعصية يتاب منها والبدعة لايتاب منها وقال إبليس لعنه الله”أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلاّ الله, فلما رأيت ذلك ثبتت فيهم الأهواء, فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”.
ومعلوم أن المذنب إنما ضرره على نفسه وأما المبتدع فضرره على النوع, وفتنة المبتدع في أصل الدين, وفتنة المذنب في الشهوة, والمبتدع قد قعد للناس
ص -171- على صراط الله المستقيم يصدهم عنه, والمذنب ليس كذلك. والمبتدع قادح في أوصاف الرب وكماله, والمذنب ليس كذلك, والمبتدع يقطع على الناس طريق الآخرة, والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه.
فصل:
ثم لما كان الظلم والعدوان منافيان للعدل الذي قامت به السموات والأرض, وأرسل الله سبحانه رسله صلى الله عليه وسلم وأنزل كتبه ليقوم الناس به كان من أكبر الكبائر عند الله, وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه, وكان قتل الإنسان ولده الطفل الصغير الذي لا ذنب له -وقد جبل الله سبحانه القلوب على محبته ورحمته وعطفها عليهم, وخص الوالدين من ذلك بمزية ظاهرة وقتله خشية أن يشاركه في مطعمه ومشربه وماله- من أقبح الظلم وأشده وكذلك قتله أبويه الذين كانا سبب وجوده, وكذلك قتله ذا رحمه, وتتفاوت درجات القتل بحسب قبحه وإستحقاق من قتله السعي في إبقائه ونصيحته, ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة نبيا من قتل النبي أو قتله نبي ويليه من قتل إماما أو عالما يأمر الناس بالقسط, ويدعوهم إلى الله سبحانه, وينصحهم في دينهم, وقد جعل الله سبحانه جزاء قتل النفس المؤمنة عمدا الخلود في النار, وغضب الجبار, ولعنته وإعداد العذاب العظيم له, هذا موجب من قتل المؤمن عمدا ما لم يمنع منه مانع. ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل طوعا واختيارا مانع من نفوذ ذلك الجزاء وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف, وهما روايتان عن أحمد.
والذين قالوا لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا, وخرج منه بظلامته, فلا بد أن يستوفى له في دار العدل.
قالوا: وما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله بين
ص -172- استيفائه والعفو عنه, وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟.
وهذا أصح القولين في المسألة أن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث, وهما وجهان لأصحاب أحمد و الشافعي وغيرهما.
ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث, فإن التوبة تهدم ما قبلها, والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده.
قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر, وهما أعظم إثماً من القتل, فكيف تقصر عن محو أثر القتلة؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءه, وجعلهم من خيار عباده, ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة. وقال تعالي {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فهذه في حق التائب وهي تتناول الكفر فما دونه.
قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه.
قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه ولا يمكن تسليمها إلى المقتول فأقام الشارع وليه مقامه, وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول, بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه, فانه يقوم مقام تسليمه للموروث.
والتحقيق في المسألة: أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله وحق للمظلوم المقتول, وحق للولى, فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ما فعل, وخوفا من الله وتوبة نصوحا, يسقط حق الله بالتوبة, وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو. وبقى حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن, ويصلح بينه وبينه, فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا.
ص -173- وأما مسألة المال فقد اختلف فيها, فقالت طائفة: إذا أدي ما عليه من المال إلى الوارث فقد بريء من عهدته في الآخرة, كما بريء منها في الدنيا.
وقالت طائفة بل المطالبة لمن ظلمه بأخذه باقية عليه يوم القيامة, وهو لم يستدرك ظلامته بأخذ وارثه له, فأنه منعه من انتفاعه به في طول حياته, ومات ولم ينتفع به. فهذا ظلم لم يستدركه, وإنما ينتفع به غيره باستدراكه, وبنوا على هذا أنه لو انتقل من واحد إلي واحد وتعدد الورثة. كانت المطالبة به للجميع, لأنه حق كان يجب عليه دفعه إلى كل واحد منهم عند كونه هو الوارث وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد.
وفصل شيخنا رحمه الله بين الطائفتين, فقال: أن تمكن الموروث من أخذ ماله أو المطالبة به فلم يأخذه حتى مات, صارت المطالبة به للوارث في الآخرة, كما هي له كذلك في الدنيا, وإن لم يتمكن من طلبه وأخذه, بل حال بينه وبينه ظلما وعدوانا, فالطلب له في الآخرة.
وهذا التفصيل من أحسن ما يقال, فإن المال إذا استهلكه الظالم على الموروث وتعذر عليه أخذه منه صار بمنزلة عبده الذي قتله قاتل, وداره التي أحرقها غيره, وطعامه وشرابه الذي أكله وشربه غيره, ومثل هذا إنما تلف على الموروث لا على الوارث, فحق المطالبة لمن تلف على ملكه, فيبقى أن يقال فإذا كان المال عقارا أو أرضا أو أعيانا قائمة باقية بعد الموت, فهي ملك للوارث يجب على الغاصب دفعها إليه كل وقت, وإذا لم تدفع إليه استحق المطالبة بها عند الله تعالى كما يستحق المطالبة بها في الدنيا.
وهذا سؤال قوى لا مخلص منه إلاّ بان يقال: المطالبة لهما جمعيا, كما لو غصب مالا مشتركا بين جماعة استحق كل منهم المطالبة بحقه منه, وكما لو استولى على وقف مرتب على بطون فأبطل حق البطون كلهم منه كانت المطالبة يوم القيامة لجميعهم ولم يكن بعضهم أولى بها من بعض, والله أعلم.
ص -174- فصل:
وقد أشكل فهم هذا على كثير من الناس, وقالوا: معلوم أن إثم قاتل مائة أعظم عند الله من إثم قاتل نفس واحدة, وإنما أتوا من ظنهم أن التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة, واللفظ يدل على هذا, ولا يوم من تشبيه الشيء بالشيء بجميع أحكامه وقد قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وذلك لا يوجب أن لبثهم في الدنيا إنما كان هذا المقدار. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم”من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله”أي مع العشاء كما جاء في لفظ آخر. وأصرح من هذا قوله”من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر”. وقوله صلى الله عليه وسلم”من قرأ: قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن ومعلوم”أن ثواب فاعل هذه الأشياء لم يبلغ ثواب المشبه به, فيكون قدرها سواء, ولو كان قدر الثواب سواء لم يكن لمصلى الفجر والعشاء في جماعة في قيام الليل منفعة غير التعب والنصب وما أوتي أحد -بعد الإيمان- أفضل من الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإن قيل: ففي أي شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة وبين قاتل الناس جميعا؟ قيل, في وجوه متعددة:
أحدها: أن كل واحد منهما عاص لله ورسوله صلى الله عليه وسلم مخالف لأمره,
ص -175- متعرض لعقوبته وكل منهما قد باء بغضب من الله ولعنته, واستحقاق الخلود في نار جهنم, وأعدلهم عذابا عظيما, وإن تفاوتت دركات العذاب, فليس إثم من قتل نبيا أو إماما عادلا أو عالما يأمر الناس بالقسط كإثم من قتل من لا مزية له من آحاد الناس.
الثاني: أنهما سواء في استحقاق إزهاق النفس.
الثالث: أنهما سواء في الجراءة على سفك الدم الحرام, فإن من قتل نفسا بغير استحقاق بل لمجرد الفساد في الأرض أو لأخذ ماله, فأنه يجترئ على من قتل كل من ظفر به وأمكنه قتله, فهو معاد للنوع الإنساني.
ومنها: أنه يسمي قاتلا أو فاسقا أو ظالما أو عاصيا بقتله واحدا, كما يسمي كذلك بقتله الناس جميعا.
ومنها: أن الله سبحانه جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتواصلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر. فإذا أتلف القاتل عضوا من ذلك الجسد فكأنما أتلف سائر الجسد, وآلم جميع أعضائه, فمن آذي مؤمنا واحدا فقد آذى جميع المؤمنين, وفي أذي جميع المؤمنين أذى جميع الناس, فإن الله يدافع عن الناس بالمؤمنين الذين بينهم, فإيذاء الخفير إيذاء المخفور. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم”لا تقتل النفس ظلما بغير حق إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل منها”لأنه أول من سن القتل, ولم يجيء هذا الوعيد في أول زان ولا أول سارق ولا أول شارب مسكر. وإن كان أول المشركين قد يكون أولى بذلك من أول قاتل, لأنه أول من سن الشرك, ولهذا رأي النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن لحى الخزاعي يعذب أعظم العذاب في النار, لأنه أول من غير دين إبراهيم عليه السلام. وقد قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا
ص -176- أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي فيفتدي بكم من بعدكم فيكون إثم كفره عليكم, وكذلك حكم من سن سنة سيئة فاتبع عليها.
وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة, ناصيته ورأسه بيده, وأوداجه تشخب دما, يقول: يا رب, سل هذا: فيما قتلني؟ فذكروا لابن عباس التوبة, فتلا هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} ثم قال:”ما نسخت هذه الآية ولا بدلت وأني له التوبة؟”قال: الترمذي هذا حديث حسن.
وفيها أيضاً: عن نافع قال”نظر عبد الله بن عمر يماً إلى الكعبة, قال: ما أعظمك وأعظم حرمتك, والمؤمن عند الله أعظم حرمة منك”. قال: هذا حديث حسن.
وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال:”أول ما ينتن من الإنسان بطنه, فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلاّ طيبا فليفعل, ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملأ كف من دم أهراقه فليفعل”.
وفي صحيح البخاري أيضا عن ابن عمر قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما”.
وذكر البخاري أيضا عن ابن عمر قال:”من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله”.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه”سباب المسلم فسوق وقتاله كفر”. وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم”لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”.
ص -177- وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم”معاهدا لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها يوجد مسيرة أربعين عاما”.
هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان معاهدا في عهده وأمانه فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم وفي بعض السنن عنه صلى الله عليه وسلم لزوال الدنيا عند الله خير من قتل مؤمن بغير حق
فصل:
ولما كانت مفسدة الزنى من أعظم المفاسد وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب وحمايه الفروج وصيانة الحرمات وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وبنته وأخته وأمه وفي ذلك خراب العالم كانت تلى مفسدة القتل في الكبر ولهذا قرنها الله سبحانه بها في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في سننه كما تقدم.
قال: الإمام أحمد: ولا أعلم النفس شيئا أعظم من الزنا وقد أكد سبحانه حرمته بقوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاّ مَنْ تَابَ} الآية. فقرن الزنى بالشرك وقتل النفس وجعل جزاء ذلك الخلود في النار في العذاب المضاعف المهين ما لم يرفع العبد وجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح وقد قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}. فأخبر عن فحشه في نفسه وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول. حتى عند كثير من الحيوان كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون
ص -178- الأودي قال:”رأيت في الجاهلية قردا زنا بقردة فأجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا”. ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلا فأنه سبيل هلكة وبوار وافتقار في الدنيا وسبيل عذاب في الآخرة وخزي ونكال ولما كان نكاح أزواج الآباء من أقبحه خصه بمزيد ذم فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} وعلق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه منه فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} إلى قوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
وهذا يتضمن ثلاثة أمور: أن من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين وأنه من الملومين ومن العادين ففاته الفلاح واستحق إسم العدوان ووقع في اللوم فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها أيسر من بعض ذلك.
ونظير هذا: أنه ذم الإنسان وأنه خلق هلوعا لا يصبر على سرّاء ولا ضرّاء بل إذا مسه الخير منع وبخل وإذا مسه الشر جزع إلاّ من استثناه بعد ذلك من الناجين من خلقه فذكر منهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وأمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج فإن الحوادث مبدؤها من البصر كما أن معظم النار من مستصغر الشرر
ص -179- تكون نظرة ثم تكون خطرة ثم خطوة ثم خطيئة؟ ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات. فينبغى للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة ويلازم الرباط على ثغرها فمنها يدخل عليه العدو فيجوس خلال الديار ويتبر ما علوا تتبيرا.
فصل:
وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة فنذكر في كل واحد منها فصلا يليق به.
فأما اللحظات: فهي رائد الشهوة ورسولها وحفظها أصل حفظ الفرج فمن أطلق نظره أورده موارد الهلاك. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم:”لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى”.
وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم:”النظرة سهم مسموم من سهام إبليس, فمن غض بصره عن محاسن امرأة لله أورث الله في قلبه حلاوة إلى يوم القيامة”. هذا معنى الحديث. وقال:”غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم”. وقال:”إياكم والجلوس على الطرقات. قالوا يا رسول الله مجالسنا مالنا بد منها. قال:”فإن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقه. قالوا وما حقه؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام”.
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل:”الصبر على غض البصر أيسر من ألم ما بعده”ولهذا قال الشاعر:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
ص -180- والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين العين موقوف على الخطر
بسرور مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عنه ولا عن بعضه ولا قدرة لك عليه قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وهذا البيت يحتاج إلي شرح. ومراده: أنك تري ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه فإن قوله:”لا كله أنت قادر عليه”نفى لقدرته على الكل الذي لا ينتفي إلاّ بنفي القدرة عن كل واحد واحد.
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلا
ولي من أبيات:
مل السلامة فاغتدت لحظاته وقفا على طلل يظن جميلا
ما زال يتبع أثره لحظاته حتي تشحط بينهن قتيلا
ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتي يتبوء مكانا من قلب الناظر ولي من قصيدة:
ياراميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعت الطرف يرتاد الشفاء له أحبس رسولك لا يأتيك بالعطب
وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحا فيتبعها جرح على جرح ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعا تكرارها. ولي أيضا في هذا المعنى:
مازلت تتبع نظرة في نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح
ص -181- وتظن ذاك دواء جرحك وهو في ال تحقيق تجريح على التجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح
وقد قيل: أن جنس اللحظات أيسر من دوام الحسرات.
فصل:
وأما الخطرات: فشأنها أصعب فأنها مبدأ الخير والشر ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم فمن راعي خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب. ومن استهان بالخطرات قادته قهرا إلى الهلكات. ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وأخس الناس همة وأوضعهم نفسا من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة واستجلبها لنفسه وتحلى بها وهي لعمر الله رؤوس من أموال المفلسين ومتاجر الباطلين وهي قوة النفس الفارغة التي قد قنعت من الوصل بزورة الخيال ومن الحقائق بكواذب الآمال كما قال الشاعر:
أماني من سعد رواء على الظما سقتنا بها سعد على ظماء برداوإلا
مني إن تكن حقا تكن أحسن المنى فقد عشنا بها زمنا رغدا
وهي أضر شيء على الإنسان وتتولد من العجز والكسل وتولد التفريط والإضاعة والحسرة والندامة. والمتمني لما فاته مباشرة الحقيقة بجسمه حول صورتها في قلبه وعانقها وضمها إليه فقنع بوصال صورة وهمية خالية صورها فكره وذلك لا يجدي عليه شيئا وإنما مثله مثل الجائع والظمآن يصور في وهمه صورة الطعام
ص -182- والشراب وهو لا يأكل ولا يشرب والسكون إلى ذلك واستجلابه يدل على خساسة النفس ووضاعتها. وإنما شرف النفس وزكاؤها وطهارتها وعلوها بأن ينفى عنها كل خطرة لا حقيقة لها ولا يرضى أن يخطرها بباله ويأنف لنفسه منها.
ثم الخطرات بعد أقسام تدور على أربعة أصول: خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه وخطرات يستدفع بها مضار دنياه وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته وخطرات يستدفع بها مضار آخرته.
فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة فإذا انحصرت له فيها فما أمكن اجتماعه منها لم يتركه لغيره وإذا تزاحمت عليه الخطرات كتزاحم متعلقاتها قدم الأهم فالاهم الذي يحشى فوته وأخرى الذي ليس بأهم ولا يخاف فوته.
بقي قسمان آخران أحدهما: مهم لا يفوت. والثاني: غير مهم ولكنه يفوت ففي كل منهما ما يدعو إلى تقديمه فهنا يقع التردد والحيرة فيه فإن قدم الأهم خشي فوات ما دونه وإن قدم ما دونه فاته الاشتغال به عن المهم وذلك بأن يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما ولا يحصل أحدهما إلاّ بتفويت الآخر فهذا موضع استعمال العقل والفقه والمعرفة ومن هاهنا ارتفع من ارتفع وأنجح من أنجح وخاب من خاب فأكثر من ترى ممن يعظم عقله ومعرفته يؤثر غير المهم الذي لا يفوت على المهم الذي يفوت ولا تجد أحدا يسلم من ذلك ولكن مستقل ومستكثر.
والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي عليها مدار الشرع والقدر وإليها مرجع خلقت الخلق والأمر وهي إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما وإن فاتت المصلحة التي هي دونها والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها
ص -183- فيفوت مصلحة لتحصيل ما هو وأكبر منهما ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها.
فخطرات العاقل وفكره لا يجاوز ذلك وبذلك جاءت الشرائع ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلاّ على ذلك وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها: ما كان لله والدار الآخرة فما كان لله فهو أنواع.
الأول: الفكرة في آياته المنزلة وتعقلها وفهمها وفهم مراده منها ولذلك أنزلها الله تعالى لا لمجرد تلاوتها بل التلاوة وسيلة. قال بعض السلف: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا.
الثاني: الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها والاستدلال بها على أسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه وبره وجوده وقد حض الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبرها وتعقلها وذم الغافل عن ذلك.
الثالث: الفكرة في آلائه وإحسانه وإنعامه على خلقه بأصناف النعم وسعة مغفرته ورحمته وحلمه.
وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة.
الرابع: الفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفي عيوب العمل وهذه الفكرة عظيمة النفع وهي باب لكل خير وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء ومتى كسرت عاشت النفس المطمئنة وانتعشت وصار الحكم لها فحي القلب ودارت كلمته في مملكته وبث أمراءه وجنوده في مصالحه.
الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه فالعارف ابن وقته فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها فجميع المصالح
ص -184- إنما تنشأ من الوقت فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبدا.
قال الشافعي رضي الله عنه:”صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين أحدهما قولهم: الوقت سيف فإن لم تقطعه قطعك. وذكر الكلمة الأخرى ونفسك إن أشغلتها بالحق وإلا شغلتك بالباطل”فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة وهو مادة حيا الأبدية في النعيم المقيم ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم وهو يمر أسرع من مر السحاب فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم فإذا قطع وقته في الغفلة والشهوة والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه بالنوم والبطالة فموت هذا خيرا له من حياته وإذا كان العبد وهو في الصلاة ليس له (من صلاته) إلاّ ما عقل منها فليس له من عمره إلاّ ما كان فيه بالله وله وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر فأما وساوس شيطانية وإما أماني باطلة وخدع كاذبة بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين ولسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق:
أن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنت ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وأعلم أن ورود الخاطر لا يضر وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته فالخاطر كالمار على السلام فإن لم تستدعه فإن تركته مر وانصرف عنك وإن استدعيته سحرك بحديثه وخدعه وغروره وهو أخف شيء على النفس الفارغة بالباطلة وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة.
وقد ركب الله سبحانه في الإنسان نفسين نفسا أمارة ونفسا مطمئنة وهما متعاديتان فكلما خف على هذه ثقل على هذه وكل ما التذت به هذه
ص -185- تألمت به الأخرى فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله وإيثار رضاه على هواها وليس لها أنفع منه وكذا النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله وإجابة داعي الهوى. وليس عليها شيء أضر منه. والملك مع هذه عن يمنة القلب والشيطان مع تلك عن يسرة القلب والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلاّ أن يستوفى أجلها من الدنيا والباطل كله يتحيز مع الشيطان والأمارة والحق كله يتحيز مع الملك والمطمئنة والحرب دول وسجال والنصر مع الصبر ومن صبر وصابر ورابط واتقى الله فله العاقبة في الدنيا والآخرة وقد حكم الله تعالى حكما لا يبدل أبدا: أن العاقبة للتقوى. والعاقبة للمتقين. فالقلب لوح فارغ والخواطر نقوش تنقش فيه فكيف يليق بالعاقل أن تكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخدع وأماني باطلة وسراب لا حقيقة له؟ فأي ولا كمل وعلم وهدي ينتقش مع هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة مالا منفعة فيه فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الردية لم تستقر فيه الخواطر النافعة فإنها لا تستقر إلاّ في محل فارغ كما قيل:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوي فصادف قلبا فارغا فتمكنا
وهذا كثير من أرباب السلوك بنوا سلوكهم على حفظ الخواطر وأن لا يمكنوا خاطر يدخل قلوبهم حتى تصير القلوب فارغة قابلة للكشف وظهور حقائق العلويات فيها وهؤلاء حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء فإنهم أخلوا القلوب من أن يطرقها خاطر فبقيت فارغة لا شيء فيها فصادفها الشيطان خالية فبذر فيها الباطل في قوالب أوهمهم أنها أعلى الأشياء وأشرفها وعوضهم بها عن الخواطر التي هي مادة العلم والهدي وإذا خلى القلب عن هذه الخواطر جاء الشيطان فوجد المحل خاليا فشغله بما يناسب حال صاحبه حيث لم يستطع
ص -186- أن يشغله بالخواطر السفلية فكيف بالعلوية فشغله بإرادة التجريد والفراغ من وإنهم التي لا صلاح للعبد ولا فلاح إلاّ بأن تكون هي قلبه وهي إرادة مراد الله الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه وشغل القلب واهتمامه بمعرفته على التفصيل به والقيام به وتنفيذه في الخلق والتطرق إلى ذلك والتوصل إليه بالدخول في الخلق لتنفيذه فيظلهم الشيطان عن ذلك بأن دعاهم إلى تركه وتعطليه من باب الزهد في خواطر الدنيا وأسبابها. وأوهمهم أن كمالهم في ذلك التجريد والفراغ. وهيهات هيهات إنما الكمال في امتلاء القلب من الخواطر والإرادات والفكر في تحصيل مراضي الرب تعالي من العبد ومن الناس والفكر في طرق ذلك التوصل إليه فأكمل الناس أكثرهم خواطر وفكر وإرادات لذلك كما أن أنقص الناس أكثرهم خواطر وفكرا وإرادات لحظوظه وهواه وأين كانت والله المستعان.
ولهذا فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت تتزاحم عليه الخواطر في مرضات الرب تعالى فربما استعملها في صلاته فكان يجهز جيشه وهو في صلاته فيكون قد جمع بين الصلاة والجهاد وهذا من باب تداخل العبادات في
فصل:
وأما اللفظات: فحفظها بأن لا يخرج لفظه ضائعة بأن لا يتكلم إلاّ فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح أو فائدة أم لا؟ فان لم يكن فيها ربح أمسك عنها وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوته بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه وإذا أردت أن تستدل
ص -187- على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان فإنه يطلعك على ما في القلب شاء مصاحبه أم أبى.
قال: يحيى بن معاذ”القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها”. فانظر الرجل حين يتكلم فرن لسانه يغترف لك به مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج وغير ذلك ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه أي كما تطعم بلسانك فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدر بلسانك.
وفي حديث أنس المرفوع”لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال:”الفم والفرج”. قال: الترمذي حديث حسن صحيح. وقد سأل معاذ النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره صلى الله عليه وسلم برأسه وعموده وذروة سنامه ثم قال:”ألا أخبركم بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله فأخذ بلسان نفسه ثم قال: كف عليك هذا فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوهم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم”قال: الترمذي حديث حسن صحيح.
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى يري الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بال يزال بالكلمة الواحدة بين المشرق والمغرب وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم
ص -188- ولسانه يفري في أعراضه الأحياء والأموات ولا يبالى ما يقول.
وإذا أردت أن تعرف ذلك فأنظر إلى ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم”قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي إني لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك”فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله.
وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك ثم قال أبو هريرة:”تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته”.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم”إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوي بها في نار جهنم”. وعند مسلم”أن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المغرب والمشرق”.
وعند الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بلال بن الحارث المزني”إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه”. فكان علقمة يقول”:كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث”؟
وفي جامع الترمذي أيضا من حديث أنس قال:”توفى رجل من الصحابة فقال رجل: أبشر بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بمالا ينقصه”قال: حديث حسن.
ص -189- وفي لفظ”أن غلاما ما استشهد يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت هنيئا لك يا بني الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا الايعنيه ويمنع مالا يضره”.
في الصحيحين من حديث أبى هريرة يرفعه”من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.
وفي لفظ لمسلم”من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمرا فليتكلم بخير أو ليسكت”.
وذكر الترمذي بإسناد صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”من حسن إسلام المرأ تركه ما لا يعنيه”.
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال:”قل آمنت بالله ثم استقم”قال: قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:”هذا”والحديث صحيح.
وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”كل كلام ابن آدم عليه لا له إلاّ أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر لله عز وجل”قال: الترمذي حديث حسن. وفي حديث آخر”إذا أصبح العبد فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: اتق الله فإنما نحن بك فإذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا”.
وقد كان بعض السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله: يوم حار ويوم بارد ولقد روى بعض الأكابر من أهل العلم في النوم بعد موته فسئل عن حاله فقال: أنا موقوف على كلمة قلتها قلت ما أحوج الناس إلى غيث فقيل لي: وما يدريك؟
ص -190- أنا أعلم بمصلحة عبادي. وقال بعض الصحابة لخادمه يوما: هات لي السفرة نعبث بها ثم قال: استغفر الله ما أتكلم بكلمة إلاّ وأنا أخطمها وأزمها إلاّ هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام أو كما قال: والأيسر حركات الجوارح حركة اللسان وهي أضرها على العبد.
واختلف السلف والخلف هل يكتب جميع ما يلفظ به أو الخير والشر فقط؟ على قولين أظهرهما الأول.
وقال بعض السلف: كل كلام بن آدم عليه لا له إلاّ ما كان من ذكر الله وما والاه وكان الصديق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول:”هذا أوردني الموارد”والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أسيره. والله عند لسان كل قائل {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
وفي اللسان آفتان عظيمتان إن خلص العبد من احدهما لم يخلص من الأخرى. آفة الكلام وآفة السكوت وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته فهم بين هذين النوعين وأهل الوسط وهم أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل واطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة فلا ترى أحدهم أنه يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة فضلا أن تضره في آخرته وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله عز وجل وما اتصل به.
ص -191- فصل:
وأما الخطوات: فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلاّ فيما يرجوا ثوابه عند الله تعالى فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قربة يتقرب بها وينويها لله فتقع خطاه قربة.
ولما كانت العثرة عثرتين: عثرة الرجل وعثرة اللسان جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم كما جمع بين اللحظات والخطوات في قوله تعالى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
فصل:
وهذا كله ذكرناه مقدمة بين يدي تحريم الفواحش ووجوب حفظ الفرج وقد قال: صلى الله عليه وسلم”أكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج”.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم”لا يحل دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة”. وهذا الحديث في اقتران الزنا بالكفر وقتل النفس نظير الآية التي في الفرقان ونظير حديث ابن مسعود.
بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكثر وقوعا ثم بالذي يليه فالزنا أكثر وقوعا النفس وقتل النفس أكثر وقوعا من الردة نعوذ بالله منها وأيضا فإنه انتقال من الأكبر إلى ما هو أكبر منه مفسدة ومفسدة الزنى مناقضة لصلاح العالم فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين الناس
ص -192- وإن حملت من الزنى فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل وإن حملته الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم فورثهم وليس منهم ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها وأما زنا الرجل فإنه يوجد اختلاط الأنساب أيضا وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين وإن عمرت القبور في البرزخ والنار في الآخرة فكم في الزنى من استحلال لحرمات وفوات حقوق ووقوع مظالم!.
ومن خاصيته: أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.
ومن خاصيته أيضا: أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.
وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه:”لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن”متفق عليه.
وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسلم”إن الله يغار وإن المؤمن يغار غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه”.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم”لا أحد أغير من الله من
ص -193- أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثني على نفسه”.
وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال:”يا أمة محمد والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ثم رفع يديه فقال: اللهم هل بلغت؟”.
وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله وظهور الزنى من أمارات خراب العالم وهو من أشراط الساعة كما في الصحيحين عن أنس بن مالك أنه قال:”لأحدثكم حديثا لا يحدثكموه أحد بعدي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول:”من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنى ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد”.
وخص سبحانه حد الزنى من بين سائر الحدود بثلاث خصائص:
أحدها القتل فيه بأشنع القتلات وحيث خففه فجمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.
ص -194- الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمتعهم من إقامة الحد عليهم فإنه سبحانه من رأفته بهم ورحمته بهم شرع هذه العقوبة فهو أرحم بكم منكم بهم ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.
وهذا -وإن كان عاما في سائر الحدود- ولكن ذكر في حد الزنى خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلطة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم من أرباب الجرائم والوقائع والواقع شاهد بذلك فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله عز وجل.
وسبب هذه الرحمة: أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأراذل وفي النفوس أقوى الدواعي إليه والمشارك فيه كثير وأكثر أسبابه العشق والقلوب مجبولة على رحمة العاشق وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقرية وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليها ولا يستنكر هذا الأمر: فهو مستقر عند من شاء الله من أشباه الأنعام ولقد حكى لنا من ذلك شيء كثيرا كثرة عن ناقصي العقول كالخدام والنساء.
وأيضا فإن هذا ذنب غالب ما يقع مع التراضي من الجانبين فلا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه وفيها شهوة غالبة له فتصور ذلك لنفسها فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد وهذا كله من ضعف الإيمان, وكمال الإيمان أن تقوم به قوة يقيم أمر الله ورحمة يرحم بها المحدود فيكون موافقا لربه سبحانه في أمره ورحمته.
الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين فلا يكون في خلوة حيث لا يراهما أحد وذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر وحد
ص -195- الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة وذلك لاشتراك الزنى واللواط في الفحش وفي كل منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتي فإنه يفسد فسادا لا يرجى له بعده صلاح أبدا ويذهب خيره كله وتمص الأرض ماء الحياء من وجهه فلا يستحي بعد ذلك لا من الله ولا من خلقه وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السم في البدن.
وقد اختلف الناس: هل يدخل الجنة مفعول به؟ على قولين سمعت شيخ الإسلام رحمه الله يحكيهما.
والذين قالوا لا يدخل الجنة احتجوا بأمور:
منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”لا يدخل الجنة ولد زنا”فإذا كان هذا حال ولد الزنى مع أنه لا ذنب له في ذلك ولكنه مظنة كل شر وخبث وهو جدير أن لا يجيء منه خيرا أبدا لأنه مخلوق من نطفة خبيثة وإذا كان الجسد الذي تربى على الحرام النار أولى به فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام؟.
قالوا: والمفعول به شر من ولد الزنى وأخزى وأخبث وأوسخ وهو جدير أن لا يوفق للخير وأن يحال بينه وبينه وكلما عمل خيرا قيض الله ما يفسده عقوبة له وقل أن ترى من كان كذلك في صغره إلاّ وهو في كبره شر مما كان ولا يوفق ولا لعلم نافع ولا عمل الصالح ولا توبة نصوح.
والتحقيق في هذه المسألة أن يقال: إن تاب المبتلى بهذا البلاء وتاب ورزق توبة نصوحا وعملا صالحا وكان في كبره خيرا منه في صغره وبدل سيئآته بحسنات وغسل عار ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات وغض بصره وحفظ فرجه عن المحرمات وصدق الله في معاملته فهذا مغفور له وهو من
ص -196- أهل الجنة فإن الله يغفر الذنوب جميعا وإذا كانت التوبة تمحو كل ذنب حتى الشرك بالله وقتل أنبيائه وأوليائه والسحر والكفر وغير ذلك فلا تقصر عن محو هذا الذنب وقد استقرت حكمة الله به عدلا وفضلا”أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له”وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنا أنه يبدل سيئاته حسنات وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب وقد قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ولكن هذا في حق التائبين خاصة.
وأما مفعول به إن كان في كبره شرا مما كان في صغره: لم يوفق لتوبة نصوحا ولا لعمل صالح ولا استدرك ما فات ولا أبدل السيئات بالحسنات فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل بها الجنة عقوبة له على عمله فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب على السيئة بسيئة أخرى وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى فتضاعف الحسنات.
وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبة لهم على أعمال السيئة.
قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله:”وأعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسباب ولها طرق وأبواب أعظمها الإنكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها والإعراض عن الأخرى والإقدام معاصي الله عز وجل وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض ونصيب من الجرأة والإقدام فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجحت فيه موعظة فربما جاءه الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد وإن كرر عليه الداعي وأعاد.
ص -197- ولا أعلم ما أراد وإن كرر عليه الداعي وأعاد.
قال: ويروي أن بعض رجال الناصر نزل به الموت فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلاّ الله فقال الناصر مولاي فأعاد عليه القول فقال مثل ذلك أصابته غشية فلما أفاق قال: الناصر مولاي وكان هذا دأبه كلما له قيل لا إله إلاّ الله قال: الناصر مولاي ثم قال: لابنه يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك والقتل القتل ثم مات على ذلك. قال: عبد الحق رحمه الله -وقيل لآخر ممن أعرفه- قل لا إله إلاّ الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا.
وقال: وفيما أذن أبو طاهر السلفي أن أحدث به عنه أن رجلا نزل به الموت فقيل له: قل لا إله إلاّ الله فجعل يقول بالفارسية: ده يازده ده وزداه تفسيره: عشر بإحدى عشر. وقيل لآخر: قل لا إله إلاّ الله فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب؟.
قال: وهذا الكلام له قصة وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره وكان بابها يشبه باب هذا الحمام فمرت به جارية لها منظر فقالت: أين السلام إلى حمام منجاب؟ فقال هذا حمام منجاب فدخلت الدار ودخل وراءها. فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه. وقالت له: خدعة منها له وتحيلا لتتخلص مما أوقعها فيه وخوفا من فعل الفاحشة يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقربه عيوننا فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها فأخذ ما يصلح ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت ولم تخنه في شيء فهام الرجل وأكثر الذكر لها وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول:
يارب قائلة يوما وقد تعبت أين الطريق إلي حمام منجاب
فبينما يقول ذلك وإذا بجاريته أجابته من طاق:
ص -198- هل لا جعلت سريعا إذ ظفرت بها حرزا على الدار أو قفلا على الباب
فازداد هيمانه واشتد هيجانه ولم يزل كذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا.
ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفا من الذنوب؟ فأخذ تنبة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه وإنما أبكى خوفا من”سوء”الخاتمة.
وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبى الدرداء أنه لما احتضر جعل يغمى عليه ثم يفيق ويقرأ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.
قال: وأعلم أن سوء الخاتمة- أعاذنا الله تعالى منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة أو إصرار على الكبيرة وإقدام على العظائم فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطلم قبل الإنابة فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله.
قال: ويروي أنه كان بمصر رجل يلزم المسجد للأذان والصلات فيه وعليه بهاء الطاعة وأنور العبادة فرقى يوما المنارة على عادته للأذان وكان تحت المنارة دارا لنصراني فاطلع فيها فرأي إبنة صاحب الدار فافتن بها فترك الأذان
ص -199- ونزل إليها ودخل الدار عليها فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ قال: أريدك. قالت: لماذا؟ قال: قد سلبت لبي وأخذت بمجامع قلبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبدا. قال: أتزوجك. أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك. قال: أتنصر. قالت: إن فعلت أفعل فتنصر الرجل ليتزوجها وأقام معهم في الدار فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلم يظفر بها وفاته دينه.
وقال: ويروى أن رجلا عشق شخصا فاشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه حتى وقع ألما به ولزم الفراش بسببه وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده أن يعوده فأخبر بذلك الناس. ففرح واشتد سروره وانجلى غمه وجعل ينتظر الميعاد الذي ضربه له فبينا هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما فقال: أنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع فرغبت إليه وكلمته فقال: أنه ذكرني وفرح بي ولا أدخل مداخل الريب ولا أعرض نفسي لمواقع التهم فعاودته فأبى وانصرف فلما سمع البائس ذلك أسقط في يده إلى أشد مما كان به وبدت عليه علائم الموت فجعل يقول في تلك الحال:
أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنف النحيل
رضاك أشهى إلي فؤادي من رحمة الخالق الجليل
فقلت: له يا فلان اتق الله قال: قد كان فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت فعياذا بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة.
فصل:
ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات.
ص -200- وقد أختلف الناس هل هو أغلظ عقوبة من الزنى أو الزنى أغلظ عقوبة منه أو عقوبتهما سواء؟ على ثلاثة أقوال:
فذهب أبو بكر الصديق وعلى بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وخالد بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك وإسحق بن راهويه والإمام أحمد في أصح الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه إلى أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنى وعقوبته القتل على كل حال محصنا كان أو غير محصن.
وذهب عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والأوزاعى والشافعي في ظاهر مذهبه والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه وأبو يوسف ومحمد إلى أن عقوبته وعقوبة الزانى سواء.
وذهب الحاكم والإمام أبو حنيفة إلى أن عقوبته دون عقوبة الزانى وهي التعزير.
قالوا: لأنه معصية من المعاصي لم يقدر الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فيه حدا مقدرا فكان فيه التعزير كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا: ولأنه وطأ في محل لا تشتهيه الطبائع بل ركبها الله تعالى على النفرة منه حتى الحيوان البهيم فلم يكن فيه حد كوطء الأتان وغيرها.
قالوا: ولأنه لا يسمى زانيا لغة ولا شرعا ولا عرفا فلا يدخل في النصوص من الدلالة على حد الزانيين.
قالوا: وقد رأينا قواعد الشريعة أن المعصية إذا كان الوازع عنها طبعيا اكتفى بذلك الوازع من الحد وإذا كان في الطبائع تقاضيها جعل فيها الحد بحسب اقتضاء الطبائع لها ولهذا جعل الحد في الزنى والسرقة وشرب المسكر دون أكل الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا: وطرد هذا أنه في وطيء البهيمة ولا الميتة وقيل: جبل الله
ص -201- سبحانه الطبائع على النفرة من وطيء الرجل”رجلا”مثله أشد نفرة كما جبلها على النفرة من استدعاء الرجل من يطؤه بخلاف الزنى فإن الداعي فيه من الجانبين.
قالوا: ولأن أحد النوعين إذا استمتع بشكله لم يجب عليه الحد كما لو تساحقت المرأتان واستمتعت كل واحدة منهما بالأخرى.
قال أصحاب القول الأول وهم جمهور الأمة وحكاه غير واحد إجماعا للصحابة: ليس في المعاصي مفسدة أعظم من مفسدة اللواط وهي تلي مفسدة الكفر وربما كانت أعظم من مفسدة القتل كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قالوا: ولم يبتل الله تعالى بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحدا من العالمين وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدا غيرهم وجمع عليهم أنواعا من العقوبات من الإهلاك وقلب ديارهم عليهم والخسف بهم ورجمهم بالحجارة من السماء وطمس
قالوا: والدليل على هذا: أن الله سبحانه جعل حد القاتل إلى خيرة الولي أن وإن شاء عفا وحتم قتل اللوطي حدا كما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ص -202- الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بل عليها عمل أصحابه وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.
وقد ثبت عن خالد بن الوليد”أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فكتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فاستشار أبو بكر الصديق الصحابة رضي الله عنهم فكان على بن أبي طالب أشدهم قولا فيه فقال: ما فعل هذا إلاّ أمة من الأمم واحدة وقد علمتم ما فعل الله بها أرى أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد فحرقه”.
وقال عبد الله بن عباس:”أن ينظر أعلا ما في القرية فيرمى اللوطي منها منكسا ثم يتبع بالحجارة”وأخذ ابن عباس هذا الحد من عقوبة الله للوطية قوم لوط وابن عباس هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به”رواه أهل السنن وصححه ابن حبان وغيره واحتج الإمام أحمد بهذا الحديث وإسناده على شرط البخاري.
قالوا: وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:”لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط”ولم تجيء عنه لعنة الزانى ثلاث مرات في حديث واحد وقد لعن جماعة من أهل الكبائر فلم يتجاوز بهم في اللعن مرة واحدة وكرر لعن اللوطية فأكده ثلاث مرات وأطبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتله لم يختلف منهم فيه رجلان وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله فظن بعض الناس ذلك اختلاف منهم في قتله فحكاها مسألة نزاع بين الصحابه وهي بينهم مسألة إجماع لا مسألة نزاع.
قالوا: ومن تأمل قوله سبحانه {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}. وقوله في اللواط {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ
ص -203- أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}. تبين له تفاوت ما بينهما فانه سبحانه نكر الفاحشة في الزنا أي هو فاحشة من الفواحش وعرفها في اللواط وذلك يفيد أنه جامع لمعاني اسم الفاحشة كما تقول زيد الرجل ونعم الرجل زيد أي تأتون الخصلة التي استقر فحشها عند كل أحد فهي لظهور فحشها وكماله غنية عن ذكرها بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها وهذا نظير قول الفرعون لموسى {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} أي الفعلة الشنعاء الظاهرة المعلومة لكل أحد.
ثم أكد سبحانه شأن فحشها بأنها لم يعملها احد من العالمين قبلهم فقال: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} ثم زاد في التأكيد بان صرح بما تشمئز منه القلوب وتنبوا عنها الأسماع وتنفر منه أشد النفور وهو إتيان الرجل رجلا مثله ينكحه كما ينكح الأنثى فقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ}. ثم نبه على استغنائهم عن ذلك. وأن الحامل لهم عليه ليس إلاّ مجرد الشهوة لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع وحصول المودة والرحمة التي تنسي المرأة لها أبويها وتذكر بعلها وحصول النسل الذي هو حفظ هذا النوع الذي هو أشرف المخلوقات وتحصين المرأة وقضاء للوطر وحصول علاقة المصاهرة التي هي أخت النسب وقيام الرجال على النساء وخروج أحب الخلق إلى الله من جماعهن كالأنبياء والأولياء والمؤمنين ومكاثرة النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء بأمته إلى غير ذلك من مصالح النكاح والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذلك كله وتربى عليه بما لا يمكن حصره وفساده ولا يعلم تفصيله إلاّ الله عز وجل.
ثم أكد سبحانه قبح ذلك بأن اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر عليه الرجال
ص -204- وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور وهي شهوة النساء دون الذكور فقلبوا الأمر وعكسوا الفطرة والطبيعة فاتوا الرجال شهوة من دون النساء ولهذا قلب الله سبحانه عليهم ديارهم فجعل عاليها سافلها وكذلك قلبوهم ونكسوا في العذاب على رؤوسهم
ثم أكد سبحانه قبح ذلك بأن حكم عليهم بالإسراف وهو مجاوزة الحد فقال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} فتأمل هل جاء ذلك أو قريبا منه في الزنا؟ وأكد سبحانه ذلك عليهم بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} ثم أكد سبحانه عليهم الذم بوصفين في غاية القبح فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} وسماهم مفسدين في قول نبيهم فقال: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} وسماهم ظالمين في قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}. فتأمل من عوقب بمثل هذه العقوبات ومن ذمه الله بمثل هذه المذمات ولما جادل فيهم خليله إبراهيم الملائكة وقد أخبروه بإهلاكهم فقيل له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.
وتأمل خبث اللوطية وفرط تمردهم على الله حيث جاؤا نبيهم لوطا لما سمعوا بأنه قد طرقه أضياف هم من أحسن البشر صورا فأقبل اللوطية إليهم يهرعون. فلما رآهم قال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ففدا أضيافه ببناته يزوجهم بهم خوفا على نفسه وعلى أضيافه من العار الشديد. فقال: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}. فردوا عليه ولكن رد جبار عنيد {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}. فنفث نبي الله نفثه مصدور وخرجت من قلب مكروب فقال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}
ص -205- فنفس له رسل الله وكشفوا له عن حقيقة الحال وأعلموه إنه ممن ليس يوصل إليهم ولا إليه بسببهم فلا تخف منهم ولا تعبأ بهم وهون عليك فقالوا: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} ومبشروه بما جاؤا به من الوعد له ولقومه من الوعيد المصيب فقالوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} فاستبطأ نبي الله عليه السلام موعد هلاكهم وقال: أريد أعجل من هذا فقالت الملائكة: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}. فوالله ما كان بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إلاّ ما بين السحر وطلوع الفجر وإذا بديارهم قد اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير فبرز المرسوم الذي لا يرد من عند الرب الجليل إلى عبده ورسوله جبرائيل بان يقلبها عليهم كما أخبر به في محكم التنزيل فقال عز من قائل: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} فجعلهم آية للعالمين وموعظة للمتقين ونكالا وسلفا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين وجعل ديارهم بطريق السالكين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أخذهم على غرة وهم نائمون وجاءهم بأسه وهم في سكرتهم يعمهون فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون تلك اللذات آلاما فأصبحوا بها يعذبون.
مآرب كانت في الحياة لأهلها عذبا فصارت في الممات عذابا
ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثه الشقوات تمتعوا قليلا وعذبوا طويلا رتعوا مرتعا وخيما فأعقبهم عذابا
ص -206- أليما أسكرتهم خمرة تلك الشهوات فما استقاموا منها إلاّ في ديار المعذبين وأرقدتهم تلك الغفلة فما استيقظوا منها إلاّ وهم في منازل الهالكين فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم فلو رأيت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة والنار تخرج من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم ويقال لهم وهم على وجوههم يسحبون: ذوقوا ما كنتم تكسبون {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولقد قرب الله سبحانه مسافة العذاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في العمل فقال مخوفا لهم بأعظم الوعيد {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
فيا ناكح الذكران يهنيكم البشرى فيوم معاد الناس إن لكم أجرا
كلوا واشربوا وازنو ولوطوا وأبشروا فإن لكم زفا إلى الجنة الحمراء
فإخوانكم قد مهدوا الدار قبلكم وقالوا إلينا عجلوا لكم البشرى
وها نحن أسلاف لكم في انتظاركم سيجمعنا الجبار في ناره الكبرى
ولا تحسبوا أن الذين نكحتموا يغيبون عنكم بل ترونهم جهرا
ويلعن كلا منهم لخليله ويشقى به المحزون في الكرةالأخرى
يعذب كل منهم بشريكه كما اشتركا في لذة توجب الوزر
فصل:
في الأجوبة عما احتج به من جعل عقوبة هذه الفاحشة دون عقوبة الزنى. أما قولهم إنها معصية لم يجعل الله فيه حدا معينا فجوابه من وجوه: أحدها: أن المبلغ عن الله جعل حد صاحبها القتل حتما وما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما شرعه عن الله فان أردتم أن حدها غير معلوم بالشرع
ص -207- فهو باطل وإن أردتم أنه غير ثابت بنص الكتاب لم يلزم من ذلك انتفاء حكمه لثبوته بالسنة.
والثاني: أن هذا ينتقض عليكم بالرجم فانه إنما ثبت بالسنة.
فان قلتم: بل ثبت بقرآن نسخ لفظه وبقى حكمه.
قلنا: فينقض عليكم بحد شارب الخمر.
والثالث: أن نفى دليل معين لا يستلزم نفى مطلق الدليل ولا نفي المدلول فكيف وقد قدمنا أن الدليل الذي نفيتموه غير منتف؟
وأما قولكم إنه وطء في محل لا تشتهيه الطباع بل ركب الله الطباع على النفرة منه فهو كوطء الميتة والبهيمة فجوابه من وجوه:
أحدها: أنه قياس فاسد الاعتبار مردود بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة. كما تقدم بيانه.
الثاني: أن قياس وطء الأمرد الجميل الذي تربي فتنته على كل فتنة على وطء أتان أو امرأة ميتة من أفسد القياس وهل تعدل ذلك أحد قط باتان أو بقرة أو ميتة أو سبي ذلك عقل عاشق قلبه أو استولى على فكره ونفسه فليس في القياس أفسد من هذا.
وقد روى أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال:”لقيت عمى ومعه الراية فقلت له إلى أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وأخذ ماله”. قال الترمذي:
ص -208- هذا حديث حسن قال الجوزجاني: عم البراء اسمه: الحارث بن عمرو.
في سنن أبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من وقع على ذات محرم فاقتلوه”.
ورفع إلى الحجاج رجلا اغتصب أخته على نفسها فقال: أحبسوه واسألوا من ها هنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عبد الله بن مطرف فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”من تخطى حرم المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف”وفيه دليل على القتل بالتوسيط وهذا دليل مستقل في المسألة وهو أن من لا يباح وطؤه بحال فحد واطئه القتل دليله: من وقع على أمه وابنته وكذلك يقال في وطء ذوات المحارم من وطء من لا يباح وطؤه بحال فكان حده القتل كاللوطي.
والتحقيق: أن يستدل على المسألتين بالنص والقياس يشهد لصحة كل منهما وقد إتفق المسلمون على أن من زنا بذات محرم فعليه الحد وإنما اختلفوا في صفة الحد هل هو القتل بكل حال أو حده حد الزاني؟ على قولين:
فذهب الشافعي ومالك وأحمد -في إحدى روايتيه- أن حده حد الزاني. وذهب أحمد وإسحق وجماعة من أهل الحديث إلى أن حده القتل بكل حال وكذلك اتفقوا كلهم على أنه لو أصابها باسم النكاح عالما بالتحريم أنه يحد إلاّ أبا حنيفة وحده فانه رأي ذلك شبهة مسقطة للحد.
والمنازعون يقولون: إذا أصابها باسم النكاح فقد زاد الجريمة غلظا وشدة. فإنه ارتكب محذورين عظيمين: محذور العقد ومحذور الوطء فكيف تخفف عنه العقوبة بضم محذور العقد إلى محذور الزنى؟.
وأما وطء الميتة ففيه قولان للفقهاء وهما في مذهب أحمد وغيره:
ص -209- أحدهما: أنه يجب به الحد وهو قول الأوزاعي فان فعله أعظم جرما وأكثر ذنبا لأنه انضم إلى هتك فاحشة حرمة الميتة.
فصل:
وأما وطء البهيمة فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يؤدب ولا حد عليه وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه وهو قول إسحق.
والقول الثاني: أن حكمه حكم الزاني يجلد أن كان بكرا ويرجم أن كان محصنا وهذا قول الحسن.
والقول الثالث: أن حكمه حكم اللوطي نص عليه أحمد ويخرج على الروايتين في حده هل هو القتل حتما أو هو كالزاني؟
والذين قالوا”حده القتل”احتجوا بما رواه أبو داود من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم”من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه”.
قالوا: ولأنه وطء لا يباح بحال فكان فيه القتل حدا للوطي. ومن لم يرد عليه الحد قالوا: لم يصح فيه الحديث ولو صح لقلنا به ولم يحل لنا مخالفته.
قال إسمعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن الذي يأتي البهيمة فوقف عندها ولم يثبت حديث عمرو بن أبي عمرو في ذلك.
وقال الطحاوي: الحديث ضعيف وأيضا فرواية ابن عباس وقد أفتى بأنه لا حد عليه قال أبو داود: وهذا يضعف الحديث.
ولا ريب أن الزاجر الطبعي عن إتيان البهيمة أقوى من الزاجر الطبعي عن التلوط وليس الأمران في طباع الناس سواء فإلحاق أحدهما بالآخر من أفسد القياس كما تقدم.
ص -210- فصل:
وأما قياسكم وطء الرجل لمثله على سحاق المرأتين فمن أفسد القياس إذ لا إيلاج هناك وإنما نظير مباشرة الرجل الرجل من غير إيلاج على أنه قد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة”إذا أتت المرأة المرأة فهم زانيتان”ولكن لا يجب الحد بذلك لعدم الإيلاج وإن أطلق عليهما اسم الزنى العام كزنى العين واليد والرجل والفم.
وإذا ثبت هذا: فاجمع المسلمون على أن حكم التلوط مع المملوك كحكمه مع غيره ومن ظن أن تلوط الإنسان مع مملوكه جائز واحتج على ذلك بقوله تعالى {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وقاس ذلك على أمته المملوكة فهو كافر يستتاب كما يستتاب المرتد فان تاب و وإلاّ ضرب عنقه وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره في الإثم والحكم
فصل:
فإن قيل: مع هذا كله فهل من دواء لهذا الداء العضال؟ ورقية لهذا السحر القتال؟ وما الاحتيال لدفع هذا الخيال؟ وهل من طريق قاصد إلى التوفيق؟ وهل يمكن السكران بخمرة الهوى أن يفيق؟ وهل يملك العاشق قلبه والعشق قد وصل إلى سويدائه؟ وهل للطبيب بعد ذلك حيلة في برئه من سويداه؟ إن لامه لائم التذ بملامه لذكره لمحبوبه وان عذله عذل أغراه عذله وسار به في طريق مطلوبه ينادي عليه شاهد حاله بلسان مقاله:
وقف الهوى بي فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا ما من يهون عليك ممن يكرم
ص -211- أشهبت أعدائي فصرت أحبهم إذ كان حظي منك حظي منهم
أجد الملامة في هواك لذيذة حبا لذكرك فليلمني اللوم
ولعل هذا هو المقصود بالسؤال الأول الذي وقع عليه الاستفتاء عليه والداء الذي طلب له الدواء.
قيل: نعم الجواب من أصله و”ما أنزل الله سبحانه من داء إلاّ وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهلة”. والكلام في دواء داء تعلق القلب بالمحبة الهوائية من طريقين:
أحدهما: جسم مادته قبل حصولها.
والثاني: قلعها بعد نزولها وكلاهما يسير على من يسره الله عليه ومتعذر على من لم يعنه الله فان أزمة الأمور بيديه.
وأما الطريق المانع من حصول هذا الداء فأمران:
أحدهما: غض البصر كما تقدم فان النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ومن أطلق لحظاته دامت حسراته وفي غض البصر عدة منافع:
أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة إلاّ بامتثال أوامره وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلاّ بتضييع أوامره.
الثاني: أنه يمنع من وصول أثر السم المسموم -الذي لعل فيه هلاكه- إلى قلبه.
الثالث: أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية على الله فان إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه.
ص -212- الرابع: أنه يقوي القلب ويفرحه كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
الخامس: أنه يكسب القلب نورا كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقب الأمر بغض البصر فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} ثم قال: إثر ذلك {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان فما شئت من بدعة وضلالة واتباع هوى واجتناب هدى وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب الشقاوة فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب فإذا فقد ذلك النور بقى صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام.
السادس: أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والباطل والصادق والكاذب وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات واعتاد أكل الحلال لم تخط له فراسة وكان شجاع هذا لا تخطي له فراسة.
والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله ومن ترك شيئا عوضه عن حبسه بصره لله ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تنال ببصيرة القلب وضد هذا ما وصف الله به اللوطيين من العمه الذي هو ضد البصيرة فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل والعمه الذي هو فساد البصيرة فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل وعمه البصيرة يسكر القلب كما قال القائل:
ص -213- سكران سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران؟
وقال الآخر:
قالوا: جننت بمن تهوى؟ فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
السابع: إنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة ويجمع الله له بين سلطان النصرة البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة كما في الأثر”الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله”وضد هذا تجده في المتبع هواه -من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها- وما جعله الله سبحانه فيمن عصاه كما قال: الحسن”إنهم وان طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا تفارق رقابهم أبي الله إلاّ أن يذل من عصاه”وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته والذل قرين معصيته فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أي من كان يريد العزة فيطلبها بطاعة الله وذكره من الكلم الطيب والعمل الصالح وفي دعاء القنوت”إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت”ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه وله من العز بحسب طاعته ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه وله من الذل بحسب معصيته.
الثامن: أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي فيمثل له صورة
ص -214- المنظور إليه ويزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة ويلقى عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة فيصير القلب في اللهب فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار وتلك الزفرات والحرقات فإن القلب قد أحاطت به النيران بكل جانب فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور لهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة: أن جعل لهم في البرزخ
التاسع: أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه قال تعالى: {لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحبسه.
العاشر: أن بين العين والقلب منفذا أو طريقا يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر وإن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده فإذا فسد القلب فسد النظر وإذا فسد النظر فسد القلب وكذلك في جانب الصلاح فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ فلا يصلح لسكني معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
الطريق الثاني:المانع من حصول تعلق القلب: اشتغال القلب بما يصده عن ذلك ويحول بينه وبين الوقوع فيه وهو إما خوف مقلق أو حب مزعج
ص -215- فمتى خلا القلب من خوف ما فواته أضر عليه من حصول هذا المحبوب أو خوف ما حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب أو محبته ما هو أنفع له وخير له من هذا المحبوب لم يجد بدا وفواته أضر عليه من فوات هذا المحبوب لم يجد بدا من عشق الصور.
وشرح هذا: أن النفس لا تترك محبوبا إلاّ لمحبوب أعلى منه أو خشية مكروه حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين إن فقدهما أو حدهما لم ينتفع بنفسه.
أحدهما: بصيرة صحيحة يفرق بها بين درجات المحبوب والمكروه فيؤثرا على المحبوبين على أدناهما ويحتمل أدنى المكروهين لتخلص من أعلاهما وهذا خاصة العقل ولا يعد عاقلا من كان بضد ذلك بل قد تكون البهائم أحسن حالا منه.
الثاني: قوة عزم وصبر يتمكن بهما من هذا الفعل والترك فكثير ما يعرف الرجل قدر التفاوت ولكن يأبي له ضعف نفسه وهمته وعزيمته على أشياء الأنفع من خسته وحرصه ووضاعة نفسه وخسة همته ومثل هذا لا ينتفع بنفسه ولا ينتفع به غيره وقد منع الله سبحانه إمامة الدين إلاّ من أهل الصبر واليقين فقال تعالى: وبقوله يهتدي المهتدون منهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} وهذا هو الذي ينتفع بعلمه وينتفع به غيره من الناس وضد ذلك لا ينتفع بعلمه ولا ينتفع به غيره ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه ولا ينتفع به غيره فالأول يمشي في نوره ويمشي الناس في نوره والثاني قد طفئ نوره فهو يمشي في الظلمات ومن تبعه والثالث يمشي في نوره وحده.
ص -216- فصل:
إذا عرفت هذه المقدمة فلا يمكن أن يجتمع في القلب حب المحبوب الأعلى وعشق الصور أبدا بل هما ضدان لا يجتمعان. بل لا بد أن يخرج أحدهما صاحبه فمن كانت قوة حبه كلها للمحبوب الأعلى الذي محبة ما سواه باطلة وعذاب على صاحبها صرفه ذلك عن محبة ما سواه وإن أحبه لن يحبه إلاّ لأجله أو لكونه وسيلة له إلى محبته أو قاطعا له عما يضاد محبته وينقصها والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يشرك في محبته غيره ويمقته لذلك ويبعده ولا يحظيه بقربه ويعده كاذبا في دعوي محبته مع أنه ليس أهلا لصرف قوة المحبة إليه فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تنبغي المحبة إلاّ له وحده وكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال؟ ولهذا لا يغفر سبحانه أن يشرك به في هذه المحبة ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
فمحبة الصور تفوت محبة ما هو أنفع للعبد منها بل يفوت محبة ما ليس له صلاح ولا نعيم ولا حياة نافعة إلاّ بمحبته وحده فليختر إحدى المحبتين فإنهما لا يجتمعان في القلب ولا يرتفعان منه بل من أعرض عن محبة الله وذكره والشوق إلى لقائه إبتلاه بمحبة غيره فيعذب به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة إما بمحبة الأوثان أو محبته الصلبان أو بمحبة النيران أو بمحبة المردان أو بمحبة النسوان أو بمحبة الأثمان أو بمحبة العشراء والخلان أو بمحبة ما هو دون ذلك مما هو في غاية الحقارة والهوان فالإنسان عبد محبوبه كائنا ما كان كما قيل:
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
فمن لم يكن إلهه مالكه ومولاه كان إلهه هواه قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ
ص -217- اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلي عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلي سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلي بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟.
فصل:
وخاصية التعبد: الحب مع الخضوع والذل للمحبوب فمن أحب شيئا وخضع له فقد تعبد قلبه له بل التعبد آخر مراتب الحب ويقال له التتيم أيضا فإن أول مراتبه العلاقة وسميت علاقة لتعلق الحب بالمحبوب قال الشاعر:
وعلقت ليلي وهي ذات تمائم ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
وقال الآخر:
أعلاقة أم الوليد بعد ما أفنان رأسك كالثغام المجلس
ثم بعدها الصبابة وسميت بذلك لانصباب القلب إلي المحبوب قال الشاعر:
يشكى المحبون الصبابة ليتني تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحب كلها فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي
ثم الغرام وهو لزوم الحب للقلب لزوما لا ينفك عنه ومنه سمى الغريم غر يما لملازمته صاحبه ومنه قوله تعالي: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} وقد أولع المتأخرون باستعمال هذا اللفظ في الحب وقل أن تجده في أشعار العرب ثم العشق وهو سفر إفراط المحبة ولهذا لا يوصف به الرب تبارك وتعالي ولا يطلق في حقه ثم الشوق وهو سفر القلب إلي المحبوب أحث السفر وقد جاء إطلاقها في حق الرب تعالي كما في مسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر
ص -218- أنه صلا صلاة فأوجز فيه فقيل له في ذلك فقال: أما إني دعوت فيها بدعوات كان النبي صلي الله عليه وسلم يدعو بهن:”اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك علي الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الرضاء والغضب وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضاء بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسأل لذة النظر إلى وجهك الكريم وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين”وفي أثر آخر”طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشد شوقا”وهذا هو المعنى الذي عبر عنه صلي الله عليه وسلم بقوله”من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه”وقال بعض أهل البصائر في قوله تعالي {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فإن أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} لما علم سبحانه شدة شوق أوليائه إلى لقائه وأن قلوبهم لا تهتدي دون لقائه ضرب لهم أجلا موعدا للقائه تسكن نفوسهم به وأطيب العيش واللذة علي الإطلاق عيش المحبين المشتاقين المستأنسين فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها فهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالي {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار والأبرار والفجار من طيب المأكل والمشرب والملبس والمنكح بل ربما زاد أعلمكم الله علي أوليائه في ذلك أضعافا مضاعفة وقد ضمن الله سبحانه لكل من عمل صالحا أن يحييه حياة طيبة فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده وأي حياة أطيب من حياة اجتمعت همومه كلها وصارت هما واحدة في مرضات الله؟ ولم يتشعب قلبه بل أقبل علي الله واجتمعت إرادته وأفكاره التي كانت متقسمة بكل واد منها شعبة علي الله فصار ذكره بمحبوبه الأعلى
ص -219- وحبه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه وهو المستولي عليه وعليه. تدور همومه وإرادته وتصوره بل خطرات قلبه فإن سكت سكت بالله وإن نطق نطق بالله وإن سمع فبه يسمع وإن أبصر فيه يبصر وبه يبطش وبه يمشى وبه يتحرك وبه يسكن وبه يحيى وبه يموت وبه يبعث كما في صحيح البخاري عنه صلي الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالي أنه قال:”ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها بي يسمع بي يبصر بي يبطش وبي يمشى ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن من يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه”.
فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي- الذي حرام علي غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه والمراد به- حصر أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه والتقرب إليه بالنوافل.
وأخبر سبحانه إن أداء فرائضه أحب مما يتقرب إليه المتقربون ثم بعدها النوافل وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله فإذا صار محبوبا لله أوجبت محبة الله له محبة منه أخرى فوق المحبة الأولى فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه وملكت عليه روحه ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكا لزمام قلبه مستوليا علي روحه استيلاء المحبوب علي محبه الصادق في محبته التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له.
ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع لمحبوبه وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشي مشي به فهو في قلبه ومعه ومؤنسه وصاحبه
ص -220- فالباء هاهنا باء المصاحبة وهي مصاحبة لا نظير لها ولا تدرك أنزل الأخبار عنها والعلم بها فالمسألة حالية لا علمية محضة.
وإذا كان المخلوق يجد هذا في محبة المخلوق التي لم يخلق لها ولم يفطر عليها كما قال بعض المحبين:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقال الآخر:
ومن عجب أني أحن إليهم فأسئل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعى
وهذا ألطف من قول الآخر:
أو قلت ما غبت قال: الطرف: ذا كذب فقد تحيرت بين الصدق والكذب
فليس شيء أدني من المحب لمحبوبه وربما تمكنت المحبة حتى يصير في المحبة أدنى إلىه من نفسه بحيث ينسي نفسه ولا ينساه كما قال:
أريد لأنسي ذكره فكأنما تمثل لي ليلي بكل سبيل
وقال الآخر:
يراد من القلب نسيانكم وتأبي الطباع علي الناقل
وخص في الحديث السمع والبصر واليد والرجل بالذكر فإن هذه الآلات آلات الإدراك وآلات الفعل والسمع والبصر يوردان علي القلب الإرادة والكراهة ويجلبان إليه الحب والبغض فتستعمل اليد والرجل فإذا كان سمع العبد بالله وبصره به كان محفوظا في آلات إدراكه فكان محفوظا في حبه وبغضه فحفظ في بطشه ومشيه.
ص -221- وتأمل كيف اكتفي بذكر السمع والبصر واليد والرجل عن اللسان فإنه إذا كان إدراك السمع الذي يحصل باختياره تارة وبغير اختياره تارة وكذلك البصر قد يقع بغير الاختيار فجأة وكذلك حركة اليد والرجل التي لا بد للعبد منها فكيف بحركة اللسان التي لا تقع إلاّ بقصد واختيار؟ وقد يستغنى العبد عنها إلاّ حيث أمر بها.
وأيضا فانفعال اللسان عن القلب أتم من انفعال سائر الجوارح فإنه ترجمانه ورسوله.
وتأمل كيف حقق تعالي كون العبد به عند سمعه وبصره الذي يبصر به وبطشه ومشيه بقوله”كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها. ورجله التي يمشي بها”تحقيقا لكونه مع عبده وكون عبده في إدراكاته بسمعه وبصره وحركته بيديه ورجله.
وتأمل كيف قال:”بي يسمع وبي يبصر وبي يبطش”ولم يقل: فلي يسمع ولي يبصر ولي يبطش وربما يظن الظان إن اللام أولي بهذا الموضع إذ هي أدل علي الغاية ووقوع هذه الأمور لله وذلك أخص من وقوعها به وهذا من الوهم والغلط إذ ليست الباء هاهنا أنزل الاستعانة فإن حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنما هي بمعونة الله لهم وان الباء هاهنا للمصاحبة إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشى وأنا صاحبه ومعه كقوله في الحديث الآخر”أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه”وهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في قوله تعالي{لا تَحْزَنْ إن اللَّهَ مَعَنَا} وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم”ما ظنك باثنين الله ثالثهما”وقوله تعالي {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقوله {وَاصْبِرُوا إن اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقوله {قَالَ كَلا إن مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} وقوله تعالي لموسى وهارون {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
ص -222- فهذه الباء مفيدة بمعني هذا المعية دون اللام ولا يتأتى للعبد الإخلاص والصبر والتوكل ونزوله في منازل العبودية إلاّ بهذه الباء وهذه المعية.
فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاق وانقلبت المخاوف في حقه أمانا فبالله يهون كل صعب ويسهل كل عسير ويقرب كل بعيد وبالله تزول الأحزان والهموم والغموم: فلا هم مع الله ولا غم مع الله ولا حزن مع الله وحيث يفوت العبد معني هذه الباء فيصير قلبه حينئذ كالحوت إذا فارق الماء يثب وينقلب حتى يعود إليه.
ولما حصلت هذه الموافقة من العبد لربه تعالي في محابه حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه فقال”ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه”أي كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إلى بمحابي فإنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني إن أفعل به ويستعيذني إن يناله مكروه وحقق هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى ذلك تردد الرب سبحانه في إماتة عبده ولأنه يكره الموت والرب تعالي يكره ما يكره عبده ويكره مساءته فمن هذه الجهة تقتضى أنه لا يميته ولكن مصلحته في إماتته فإنه ما أماته إلاّ ليحييه وما أمرضه إلاّ ليصحه وما أفقره إلاّ ليغنيه وما منعه إلاّ ليعطيه ولم يخرج من الجنة في صلب أبيه إلاّ ليعيده إليها علي أحسن الأحوال ولم يقل لأبيه”أخرج منها”إلاّ ليعيده إليها فهذا هو الحبيب علي الحقيقة لا سواه بل لو كان في كل منبت شعرة لعبد محبة تامة لله لكان بعض ما يستحقه علي عبده.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلاّ للحبيب الأول
كم منزل في الارض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل
فصل:
ثم التتيم وهو آخر مراتب الحب وهو تعبد المحب لمحبوبه يقال:
ص -223- تيمه الحب إذا عبده ومنه تيم الله أي عبد الله وحقيقة التعبد الذل والخضوع للمحبوب ومنه قولهم: طريق معبد أي مذلل قد ذللته الأقدام فالعبد هو الذي ذللته الحب والخضوع لمحبوبه ولهذا كانت أشرف أحوال العبد ومقاماته في العبودية فلا منزل له أشرف منها.
وقد ذكر الله سبحانه أكرم الخلق عليه وأحبهم إليه وهو رسوله محمد صلي الله عليه وسلم بالعبودية في أشرف مقاماته وهي مقام الدعوة إليه ومقام التحدي بالنبوة ومقام الإسراء فقال سبحانه {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} وقال {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلي عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وقال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} وفي حديث الشفاعة”اذهبوا إلى محمد صلي الله عليه وسلم عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر”فنال مقام الشفاعة بكمال عبوديته وكمال مغفرة الله له والله سبحانه خلق الخلق لعباديته وحده لا شريك له التي هي أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع والذل وهذا هو حقيقة الإسلام وملة إبراهيم التي من رغب عنها فقد سفه نفسه قال تعالي: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إن اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية ولهذا كان أعظم الذنوب عند الله و الشرك بالله لا يغفر إن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء واصل الشرك بالله إلاّ شراك مع الله في المحبة كما قال تعالي: {وَمِنَ النَّاسِ
ص -224- مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} وأخبر سبحانه إن من الناس من يشرك به من دونه فيتخذ الأنداد من دونه يحبهم كحب الله وأخبر إن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وقيل: بل المعنى أنهم أشد حبا لله من أصحاب الأنداد فإنهم وان أحبوا الله لكن لما أشركوا بينه وبين أندادهم في المحبة ضعفت محبتهم لله والموحدون لله لما خلصت محبتهم له كانت أشد من محبة أولئك والعدل برب العالمين والتسوية بينه وبين الأنداد هو في هذه المحبة كما تقدم.
ولما كان مراد الله من خلقه هو خلوص هذه المحبة له أنكر علي من اتخذ من دونه وليا أو شفيعا غاية الإنكار وجمع ذلك تارة وأقر واحدهما عن الآخر تارة بالإنكار فقال تعالي: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلي الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالي: الله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلي الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقال تعالي: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ إن يُحْشَرُوا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وقال في الإفراد {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وقال تعالي: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فإذا والى العبد ربه وحده وأقام له الشفعاء وعقد الموالاة بينه وبين عباده المؤمنين فصاروا أولياءه في الله بخلاف من اتخذ مخلوقا ولياء من دون الله. فهذا لون وذاك لون والشفاعة الشركية الباطلة لون والشفاعة الحق
ص -225- الثابتة التي إنما تنال بالتوحيد لون وهذا موضع فرقان بين أهل التوحيد وأهل الشرك بالله والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والمقصود: إن حقيقة العبودية وموجباته لا تخلص مع الإشراك بالله في المحبة بخلاف المحبة لله فإنها من لوازم العبودية وموجباتها فإن محبة -رسول الله صلي الله عليه وسلم بل تقديمه في الحب علي الأنفس وعلي الآباء والأبناء- لا يتم الإيمان إلاّ بها إذ محبته من محبة الله وكذلك كل حب في الله ولله كما في الصحيحين عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال:”ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان”. وفي لفظ في الصحيح”لا يجد عبد طعم الإيمان إلاّ من كان في قلبه ثلاث خصال-: إن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرأ لا يحبه إلاّ الله وأن يكره إن يرجع إلى الكفر بعد اذ أنقذه الله منه كما يكره إن يقذف في النار”.
وفي الحديث الذي في السنن”من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان”.
وفي حديث آخر”ما تحاب رجلان في الله إلاّ كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه”. فإن هذه المحبة من لوازم محبة الله وموجباتها وكل ما كانت أقوى كان أصلها كذلك.
فصل:
وهاهنا أربعة أنواع من الحب يجب التفريق بينهما وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينهما.
أحدها: محبة الله ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله.
الثاني: محبة ما يحب الله وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها.
ص -226- الثالث: الحب لله وفيه وهي من لوازم محبة ما يحب الله ولا يستقيم محبة ما يحب الله إلاّ بالحب فيه وله.
الرابع: المحبة مع الله وهي المحبة الشركية وكل من أحب شيئا مع الله لا لله ولا من أجله ولا فيه فقد اتخذه ندا من دون الله وهذه محبة المشركين وبقى قسم خامس ليس مما نحن فيه وهي المحبة الطبيعية وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه كمحبة العطشان للماء والجائع للطعام ومحبة النوم والزوجة والولد فتلك لا تذم إلاّ إذا ألهت عن ذكر الله وشغلته عن محبته كما قال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وقال تعالي: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}
فصل:
ثم الخلة وهي تتضمن كمال المحبة ونهايتها بحيث لا يبقى في القلب لمحبه سعة لغير محبوبه وهي منصب المشاركة بوجه ما وهذا المنصب خاصة للخليلين صلوات الله وسلامه عليهما: إبراهيم ومحمد كما قال: صلي الله عليه وسلم”إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا”.
وفي الصحيح عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال:”لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله”.
وفي حديث آخر”أني أبرىء إلى كل خليل من خلته”
ولما سأل إبراهيم عليه السلام الولد فأعطيه فتعلق حبه بقلبه فاخذ منه شعبه غار الحبيب علي خليله إن يكون في قلبه موضع لغيره فأمره بذبحه
ص -227- وكان الأمر في المنام ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاء وامتحانا ولم يكن المقصود ذبح الولد ولكن المقصود ذبحه من قلبه ليخلص القلب للرب فلما بادر الخليل عليه الصلات والسلام إلى الامتثال وقدم محبة الله علي محبة ولده حصل المقصود فرفع الذبح وفدى بذبح عظيم فإن الرب تعالي ما أمر بشيء ثم أبطله رأسا بل لا بد إن يبقى بعضه أو بدله كما أبقى شريعة الفداء وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة وكما أبقى الخمس صلوات بعد رفع الخمسين وأبقى ثوابها وقال”لا يبدل القول لدي وهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر”.
وأما ما يظنه بعض الغالطين إن المحبة أكمل من الخلة وأن إبراهيم خليل الله ومحمد صلي الله عليه وسلم حبيب الله فمن جهله فإن المحبة عامة والخلة خاصة والخلة نهاية المحبة وقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم إن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ونفى إن يكون له خليل غير ربه مع إخباره لحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم.
وأيضا فإن الله سبحانه {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ويحب الصابرين ويحب المحسنين ويحب المتقين ويحب المقسطين وخلته خاصة بالخليلين عليهما الصلاة والسلام والشاب التائب حبيب الله وإنما هذا عن قلة العلم والفهم عن الله ورسوله صلي الله عليه وسلم.
فصل:
قد تقدم إن العبد لا يترك ما يحب ويهواه إلاّ لما يحبه ويهواه ولكن يترك أضعفهما محبة
وتقدم إن خاصية العقل إيثار علي المحبوبين علي أدناهما وأيسر المكروهين علي أقواهما وتقدم إن هذا من الكمال قوة الحب والبغض.
ولا يتم له هذا إلاّ بأمرين قوة الإدراك وشجاعة القلب فإن التخلف عن ذلك والعمل بخلافه يكون إما بضعف الإدراك بحيث أنه لم يدرك مراتب المحبوب والمكروه علي ما كان عليه إما لضعف في النفس وعجز في القلب بحيث لا يطاوعه الإيثار الأصلح له مع علمه بأنه الأصلح فإذا علمني إدراكه وقويت نفسه وتشجع قلبه علي إيثار المحبوب الأعلى والمكروه الأدنى فقد وفق لأسباب السعادة.
فمن الناس من يكون سلطان شهوته أقوي من سلطان عقله وإيمانه فيقهر الغالب الضعيف ومنهم من يكون سلطان إيمانه وعقله أقوى من سلطان شهوته وإذا كان كثير من المرضى يحميه الطبيب عما يضره فتأبى عليه نفسه وشهوته إلاّ تناوله ويقدم شهوته علي عقله وتسميه الأطباء: عديم المروءة فهكذا أكثر مرضى القلب يؤثرون ما يزيد مرضهم لقوة شهوتهم له.
فأصل الشر من ضعف الإدراك وضعف النفس ودناءتها وأصل الخير من كمال الإدراك وقوة النفس وشرفها وشجاعتها.
فالحب والإرادة أصل كل فعل ومبدأه والبغض والكراهة أصل كل ترك ومبدأه وهاتان القوتان في القلب أصل سعادته وشقاوته.
ووجود الفعل الاختياري لا يكون إلاّ بوجود سببه من الحب والإرادة.
وأما عدم الفعل فتارة يكون لعدم مقتضاه وسببه وتارة يكون لوجود البغض والكراهة المانع منه وهذا متعلق الأمر والنهى وهو الذي يسمى الكف
ص -229- وهو متعلق الثواب والعقاب وبهذا يزول الاشتباه في مسألة الترك هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والتحقيق أنه قسمان فالترك المضاف إلى عدم السبب المقتضي عدمي والمضاف إلى السبب المانع من الفعل وجودي.
فصل:
وكل واحد من الفعل والترك الاختياريين فإنما يؤثر الحي لما فيه من الحصول والمنفعة التي يلتذ بحصولها أو زوال الألم الذي يحصل له الشفاء بزواله ولهذا يقال شفاء صدره وشفاء قلبه قال:
هي الشفاء لداء لوظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول
وهذا مطلوب يؤثره العاقل حتى الحيوان البهيم ولكن يغلط فيه أكثر الناس غلطا قبيحا فيقصد حصول اللذة بما يعقب عليه أعظم الألم فيؤلم نفسه من حيث يظن أنه يحصل لذتها ويشفى قلبه بما يعقب عليه غاية المرض وهذا شأن من قصر نظره علي العاجل ولم يلاحظ العواقب وخاصة العقل النظر في العواقب فأعقل الناس من أثر لذة نفسه وراحته في الآجلة الدائمة علي العاجلة المنقضية الزائلة وأسفه الخلق من باع نعيم الأبد وطيب الحياة الدائمة واللذة العظمى التي لا تنغيص فيها ولا نقص بوجه ما بلذة منقضية مشوبة بالآلام والمخاوف وهي سريعة الزوال وشيكة الانقضاء.
قال بعض العلماء: فكرت في سعي العقلاء فرأيت سعيهم كلهم في مطلوب واحد وإن اختلفت طرقهم في تحصيله رأيتهم جميعهم إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم فهذا في الأكل والشرب وهذا في التجارة والكسب وهذا بالنكاح وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة وهذا باللهو واللعب فقلت: هذا المطلوب مطلوب العقلاء ولكن الطرق كلها غير موصلة إليه بل
ص -230- لعل أكثرها إنما يوصل إلى ضده ولم أر في جميع هذه الطرق طريقا موصلا إليه إلاّ الإقبال علي الله وحده ومعالمته وحده وإيثار مرضاته علي كل شيء فإن سالك هذا السلام فاته حظه من الدنيا فقد ظفر بالحظ العالي الذي لا فوت معه وإن حصل للعبد حصل له كل شيء وإن فاته فاته كل شيء وإن ظفر بحظه من الدنيا ناله علي أهني الوجوه فليس للعبد أنفع من هذه الطريق ولا أوصل منها إلى لذته وبهجته وسعادته وبالله التوفيق”
فصل:
والمحبوب قسمان: محبوب لنفسه ومحبوب لغيره ولا بد إن ينتهي إلى المحبوب لنفسه دفعا للتسلسل المحال وكل ما سوى المحبوب الحق فهو محبوب لغيره وليس شيء يحب لذاته لنفسه إلاّ الله وحده وكل ما سواه مما يحب فإنما محبته تبعا لمحبة الرب تبارك وتعالي كمحبة ملائكته وأنبيائه وأوليائه فإنها تبع لمحبته سبحانه وهي من لوازم محبته فإن محبة المحبوب توجب محبة ما يحبه وهذا موضع يجب الاعتناء به فإنه محل فرقان بين المحبة النافعة لغيره والتي لا تنفع بل قد تضر.
فاعلم أنه لا يحبه لذاته إلاّ من كماله من لوازم ذاته وإلهيته وربوبيته وغناه من لوازم ذاته وما سواه فإنما يبغض ويكره لمنافاته محابه ومضادته لها وبغضه وكراهته بحسب قوة هذه المنافاة وضعفها فما كان أشد منافاة لمحابه كان أشد كراهة من الأعيان والأوصاف والأفعال والإرادات وغيرها فهذا ميزان عادل يوزن به موافقة الرب ومخالفته وموالاته ومعاداته فإذا رأينا شخصا يحب ما يكرهه الرب تعالي ويكره ما يحبه علمنا إن فيه من معاداته بحسب ذلك وإذا رأينا الشخص يحب ما يحبه الرب ويكره ما يكرهه وكلما كان الشيء أحب إلى الرب كان أحب إليه وأثره عنده وكلما كان أبغض إليه كان
ص -231- أبغض إليه وأبعد منه علمنا إن فيه من موالاة الرب بحسب ذلك. فتمسك بهذا الأصل غاية التمسك في نفسك وفي غيرك فالولاية عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه ليست بكثرة صوم ولا صلاة ولا تمزق ولا رياضة.
والمحبوب لغيره قسمان أيضا: أحدهما ما يلتذ المحب بإدراكه وحصوله والثاني: ما يتألم به ولكن يحتمله لإفضائه إلى المحبوب كشرب الدواء الكريه قال تعالي: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى إن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى إن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
فأخبر سبحانه إن القتال مكروه لهم مع إنهم خير لهم لإفضائه إلى أعظم محبوب وأنفعه والنفوس تحب الراحة والدعة والرفاهية وذلك شر لها لإفضائه إلى فوات هذا المحبوب فالعاقل لا ينظر إلى لذة المحبوب العاجل فيؤثرها وألم المكروه العاجل فيرغب عنه فإن ذلك قد يكون شرا له بل قد يجلب عليه غاية الألم وتفوته أعظم اللذة بل عقلاء الدنيا يتحملون المشاق المكروهة لما يعقبهم من اللذة بعدها وإن كانت منقطعة.
فالأمور أربعة: مكروه يوصل إلى مكروه ومكروه يوصل إلى محبوب ومحبوب يوصل إلى محبوب ومحبوب يوصل إلى مكروه فالمحبوب الموصل إلى المحبوب قد اجتمع فيه داعي الفعل من وجهين والمكروه الموصل إلى مكروه قد اجتمع فيه داعي الترك من وجهين.
بقي القسمان الآخران يتجاوز بهما الداعيان- وهما معترك الابتلاء والامتحان- فالنفس توثر أقربهما جوارا منهما وهو العاجل والعقل والإيمان يؤثرا نفعهما وإبقائها والقلب بين الداعيين وهو إلى هذا مرة إلى هذا مرة وهاهنا
ص -232- محل الابتلاء شرعا وقدرا فداعي العقل والإيمان ينادي كل وقت: حي علي الفلاح عند الصباح يحمد القوم السري وفي الممات يحمد العبد التقى فإن اشتد ظلام ليل المحبة وتحكم سلطان الشهوة والإرادة يقول: يا نفس اصبري فما هي إلاّ ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول.
فصل:
وإذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل فأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما إن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله وكل إرادة تمنع كمال حب الله ورسوله وتزاحم هذه المحبة وشبهه منع كمال التصديق في معارضة لأصل الإيمان أو مضعفة له فإن قويت حتى عارضت أصلي الحب والتصديق كانت كفرا وشركا أكبر وإن لم تعارضه قدحت في كماله وأثرت فيه ضعفا وفتورا في العزيمة والطلب وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكي الراغب فلا تصلح الموالاة إلاّ بالمعاداة كما قال تعالي: عن إمام الحنفاء المحبين انه قال لقومه {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فإنهمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلم يصح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلاّ بتحقيق هذه المعاداة فإنه لا ولائه إلاّ لله ولا ولائه إلاّ بالبراءة من كل معبود سواه قال تعالي: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وقال تعالي: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فإنه سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
ص -233- أي جعل هذه الموالاة لله والبراءة من كل معبود سواه كلمته باقية في عقبه يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض وهي كلمة: لا إله إلاّ الله وهي التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات وعليها أسست الملة ونصبت القبلة وجردت سيوف الجهاد وهي محض حق الله علي جميع العباد وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار وهي المنشور الذي لا تدخل الجنة إلاّ به والحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق بسببه وهي كلمة الإسلام ومفتاح دار الطريق وبها تنقسم الناس إلى شقي وسعيد ومقبول وطريد وبها انفصلت دار الكفر من دار الإسلام وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان وهي العمود الحامل للفرض والسنة”ومن كان آخر كلامه لا إله إلاّ الله دخل الجنة”.
وروح هذه الكلمة وسرها: إفراد الرب حبل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالي جده ولا إله غيره. بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء وتوابع ذلك: من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة فلا يحب سواه بل كان ما كان يحب غيره فإنما هو تبعا لمحبته وكونه وسيلة إلى زيادة محبته ولا يخاف سواه ولا يرجي سواه ولا يتوكل إلاّ عليه ولا يرغب إلاّ إليه ولا يرهب إلاّ منه ولا يحلف إلاّ باسمه ولا ينذر إلاّ له ولا يتاب إلاّ إليه ولا يطاع إلاّ أمره ولا يحتسب إلاّ به ولا يستغاث في الشدائد إلاّ به ولا يلتجئ إلاّ إليه ولا يسجد إلاّ له ولا يذبح إلاّ له وباسمه يجتمع ذلك في حرف واحد وهو: إن لا يعبد إلا إياه بجميع أنواع العبادة هذا هو تحقيق شهادة إن لا إله إلاّ الله ولهذا حرم الله علي النار من شهد إن لا إله إلاّ الله حقيقة الشهادة ومحال أن يدخل النار من خطبته بحقيقة هذه الشهادة وقام
ص -234- بها كما قال تعالي: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} فيكون قائما بشهادته في باطنه وظاهره وفي قلبه وقالبه فإن من الناس من تكون شهادته ميتة ومنهم من تكون نائمة إذا نبهت انتبهت ومنهم من تكون مضطجعة ومنهم من تكون إلى القيام أقرب وهي في القلب بمنزلة الروح في البدن فروح ميتة وروح مريضة إلى الموت أقرب وروح إلى الحياة أقرب وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن وفي الحديث الصحيح عنه صلي الله عليه وسلم”إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلاّ وجدت روحه لها روحا”فحياة هذه الروح بهذه الكلمة فيها فكما إن حياة البدن بوجود الروح فيه وكما إن من مات علي هذه الكلمة فهو في الجنة يتقلب فيها فمن عاش علي تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلب في جنة المأوى وعيشها أطيب عيش قال تعالي: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فإن الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} فالجنة مأواه يوم اللقاء؟ وجنة المعرفة والمحبة والأنس بالله والشوق إلى لقائه والفرح به والرضا عنه وبه مأوى روحه في هذه الدار فمن كانت هذه الجنة مأواه هاهنا كانت جنة الخلد مأواه يوم المعاد ومن حرم هذه الجنة فهو لتلك الجنة أشد حرمانا والأبرار في نعين وإن اشتد بهم العيش وضاقت بهم الدنيا والفجار في جحيم وإن اتسعت عليهم الدنيا قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} جنة الدنيا قال تعالي: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ إن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسلام وَمَنْ يُرِدْ إن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}
ص -235- الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشا وأنعمهم بالا وأشرحهم صدرا وأسرهم قلبا وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة.
قال النبي صلي الله عليه وسلم:”إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة؟ وقال: حلق الذكر”. ومن هذا قوله صلي الله عليه وسلم”ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة”. ومن هذا قوله -وقد سألوه عن وصاله في الصوم- وقال: إني لست كهيئتكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني”فأخبر صلي الله عليه وسلم إن ما يحصل له من الغذاء عند ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسي وإن ما يحصل له من ذلك أمر مختصا به لا يشركه فيه غيره فإذا أمسك عن الطعام والشراب فله عوض عنه يقوم مقامه وينوب منابه ويغنى عنه كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضيء به ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا اشتكت من كلال السير أوعدها روح اللقاء فتحي عند ميعادى
وكل ما كان وجود الشيء أنفع للعبد وهو إليه أحوج كان تألمه بفقده أشد وكل ما كان عدمه أنفع كان تألمه بوجوده أشد ولا شيء علي الإطلاق أنفع للعبد من إقباله علي الله واشتغاله بذكره وتنعمه بحبه وإيثاره لمرضاته بل لا حياة له ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلاّ بذلك فعدمه آلم شيء له وأشد عذابا عليه وإنما تغيب الروح عن شهود هذا الألم والعذاب لاشتغالها بغيره واستغراقها في ذلك الغير فتغيب به عن شهود ما هي فيه من ألم الفوات بفراق أحب شيء
ص -236- إليها وأنفعه لها وهذا بمنزلة السكران المستغرق في سكره الذي احترقت داره وأمواله وأهله وأولاده وهو لاستغراقه في السكر لا يشعر بألم ذلك الفوات وحسرته حتى إذا صح وكشف عنه غطاء السكر وانتبه من رقدة الخمر فهو أعلم بحاله حينئذ وهكذا الحال سواء عند كشف الغطاء ومعاينة طلائع الآخرة والإشراف علي مفارقة الدنيا والانتقال منها إلى الله بل الألم والحسرة والعذاب هناك أشد بأضعاف أضعاف ذلك فإن المصاب في الدنيا يرجو جبر مصيبته في الدنيا بالعوض ويعلم أنه قد أصيب بشيء زائل لا بقاء له فكيف بمن مصيبته بما لا عوض عنه ولا بدل منه ولا نسبة بينه وبين الدنيا جميعا؟ فلو قضي الله سبحانه”عليه”بالموت من هذه الحسرة والألم لكان العبد جديرا به وان الموت ليعود أكبر أمنيته وأكبر حسراته هذا لو كان الألم علي مجرد الفوات كيف وهناك عن العذاب علي الروح والبدن أمور أخرى وجودية مالا يقدره قدره؟ فتبارك من حمل هذا الخلق الضعيف هذين الألمين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي.
فأعرض علي نفسك”الآن”أعظم محبوب لك في الدنيا بحيث لا تطيب لك الحياة إلاّ معه فأصبحت وقد أخذ منك وحيل بينك وبينه أحوج ما كنت إليه كيف يكون حالك؟ هذا ومنه كل عوض فكيف بمن لا عوض عنه كما قيل:
من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض
وفي أثر إلهي”ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم أطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء”.
فصل:
ولما كانت المحبة جنسا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف كان أغلب ما يذكر فيها في حق الله تعالي ما يختص به ويليق به من أنواعها وما لا تصلح
ص -237- إلاّ له وحده مثل العبادة والإنابة ونحوهما فإن العبادة لا تصلح إلاّ له وحده وكذا الإنابة وقد ذكر المحبة باسمها المطلق كقوله تعالي {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقوله تعالي {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} وأعظم أنواع المحبة المذمومة: المحبة مع الله التي سوى فيها المحب بين محبة الله ومحبته للند الذي اتخذه من دون الله.
وأعظم أنواعها المحمودة محبة الله وحده وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها التي لا ينجو أحد من العذاب إلاّ بها والمحبة المذمومة الشركية هي أصل الشقاوة ورأسها التي لا يبقي في العذاب إلاّ أهلها فأهل المحبة الذين أحبوا الله وعبدوه وحده لا شريك له لا يدخلون النار من دخلها منهم بذنوبه فإنه لا يبقى فيها منهم أحد.
ومدار القرآن علي الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهى عن المحبة الأخرى ولوازمها وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين وذكر قصص النوعين وتفصيل أعمال النوعين وأوليائهم ومعبود كل منهما واخباره عن فعله ولنوعين وعن حال النوعين في الدور الثلاثة: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار والقرآن باقي شأن النوعين.
وأصل دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم: إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له المتضمنة لكمال حبه وكمال الخضوع والذل له والإجلال والتعظيم ولوازم ذلك من الطاعة والتقوى.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:”والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”.
ص -238- وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:”يا رسول الله والله لانت أحب إلى من كل شيء إلاّ من نفسي فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال: والذي بعثك بالحق لأنت أحب إلى من نفسي فقال: الآن يا عمر”فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم ووجوب تقديمها علي محبة النفس ووالده وولده الكراهة أجمعين فما الظن بمحبة مرسله سبحانه وتعالي ووجوب تقديمها علي محبة ما سواه؟
ومحبة الرب تعالي تختص عن محبة غيره في قدرها وصفتها وإفراده سبحانه بها فإن الواجب له من ذلك كله إن يكون إلى العبد أحب إليه من ولده ووالده بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه فيكون إلهه الحق ومعبوده أحب إليه من ذلك كله والشيء قد يحب من وجه دون وجه وقد يحب بغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلاّ الله وحده ولا تصلح الألوهية إلاّ له {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} والتأله: هو المحبة والطاعة والخضوع.
فصل:
وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة فهي علتها الفاعلية والغائبة وذلك لأن الحركات ثلاثة أنواع: حركة اختيارية إرادية وحركة طبيعية وحركة قسرية.
فالحركة الطبيعية أصلها السكون وإنما يتحرك الجسم إذا خرج عن مستقره ومركزه الطبيعي فهو يتحرك للعود إليه وخروجه عن مركزه ومستقرة وإنما يتحرك بتحرك القاسر المحرك له فله حركة قسرية تتحرك بتحريك محركه وقاسره وحركة طبيعية بذاتها تطلب بها العود إلى مركزه وكلا حركتيه تابعة
ص -239- للقاسر المحرك فهو أصل الحركتين.
والحركة الاختيارية الإرادية هي أصل الحركتين الأخريين وهي تابعة للإرادة والمحبة.
والدليل علي انحصار فصارت الحركات الثلاث: تابعة للمحبة والإرادة يشير علي انحصار الحركات في هذه الثلاث إن المتحرك إن كان له شعور الجزري فهي الإرادية وان لم يكن له شعور بها فإما أن يكون على وفق طبيعته الأولى فالأولى هي الطبيعية والثانية هي القسرية إذا فهمت هذا فما في السموات والأرض وما بينهما من حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر والنبات وحركات الأجنة في بطون أمهاتها فإنما هي بواسطة الملائكة المدبرات أمرا والمقسمات أمرا كما دل علي نصوص القرآن والسنة في غير موضع والإيمان بذلك من تمام الإيمان بالملائكة: فإن الله وكل بالرحم ملائكة وبالقطر ملائكة وبالنبات ملائكة وبالرياح ملائكة وبالأفلاك والشمس والقمر والنجوم ووكل بكل عبد أربعة من الملائكة كاتبين علي يمينه وعلي شماله وحافظين من بين يديه ومن خلفه ووكل ملائكة بقبض روحه وتجهيزها إلى مستقرها من الجنة والنار وملائكة بمسألته وامتحانه في قبره وعذابه هناك أو نعيمه وملائكة تسوقه إلى المحشر إذا قام من قبره وملائكة بتعذيبه في النار أو نعيمه في الجنة ووكل بالجبال ملائكة وبالسحاب ملائكة تسوقه إلى حيث أمرت به وملائكة بالقطر تنزله بأمر الله بقدر معلوم كما شاء الله ووكل ملائكة بغرس الجنة وعمل آلاتها وفرشها وثيابها والقيام عليها وملائكة بالنار كذلك فأعظم جند الله الملائكة ولفظ”الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر فليس لهم من الأمر شيء بل الأمر كله لله وهم يدبرون الأمر ويقسمونه بإذن الله وأمره قال تعالي: إخبارا عنهم {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وقال
ص -240- تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ إن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وأقسم سبحانه بطوائف من الملائكة المنفذين لأمره في الخليقة كما قال تعالي: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} وقال {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً} وقال تعالي: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} وقد ذكرنا معني ذلك وسر الأقسام في كتاب”التبيان في أقسام القرآن”.
وإذا عرف ذلك فجميع تلك المحبات والحركات والإرادات والأفعال هي عباداتهم لرب الأرض والسموات وجميع الحركات الطبيعية والقسرية تابعة لها: فلولا الحب ما دارت الأفلاك ولا تحركت الكواكب النيرات ولا هبت الرياح المسخرات ولا مرت السحاب الحاملات ولا تحركت الأجنة في بطون الأمهات ولا انصدع عن الحب أنواع النبات ولا اضطربت أمواج البحار الزاجرات ولا تحركت المدبرات والمقسمات ولا سبحت بحمد فاطرها الأراضون والسموات وما فيها من أنواع المخلوقات فسبحان من {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
فصل:
فإذا عرف ذلك فكل حي له إرادة ومحبة وعمل بحسنه وكل متحرك فأصل حركته المحبة والإرادة ولا صلاح للموجودات إلاّ بان تكون حركاتها ومحبتها لفاطرها وباريها وحده كما لا وجود لها إلاّ بإبداعه وحده.
ص -241- ولهذا قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} ولم يقل سبحانه: لما وجدتا ولكانتا معدومتين ولا قال: لعدمتا إذ هو سبحانه قادر علي إن يبقيهما علي وجه الفساد لكن لا يمكن إن تكون علي وجه الصلاح والاستقامة إلاّ بان يكون الله وحده وهو معبود لهما ومعبود ما حوتاه وسكن فيهما فلو كان للعالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد فإن كل إله يطلب مغالبة الآخر والعلو عليه وتفرده دونه بالإلهية إذ الشرك نقص في كمال الإلهية والإله لا يرضى لنفسه إن يكون إلها ناقصا فإن قهر أحدهما الآخر كان هو الإله وحده والمقهور ليس بإله وان لم يقهر أحدهما الآخر لزم عجز كل منهما ونقصه ولم يكن تام الإلهية فيجب إن يكون فوقهما إله قاهر لهما حاكم عليهما وإلا ذهب كل منهما بما خلق وطلب كل منهما العلو علي الآخر وفي ذلك فساد أمر السموات والأرض ومن فيهما كما هو المعهود من فساد البلد إذا كان فيها ملكان متكافئان وفسد الزوجة إذا كان لها بعلان (والشول إذا كان فيه فحلان).
وأصل فساد العالم إنما هو من فساد اختلاف الملوك والخلفاء ولهذا لم يطمع أعداء الإسلام فيهم في زمن من الأزمنة إلاّ في زمن تعدد الملوك من المسلمين واختلافهم وانفراد كل واحد منهم ببلاد وطلب بعضهم العلو علي بعض فصلاح السموات والأرض واستقامتهما وانتظام أمر المخلوقات علي أتم نظام ومن أظهر الأدلة علي أنه لا إله إلاّ الله
ص -242- رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} قيل المعني لابتغوا السبيل إليه بالمغالبة والقهر كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض ويدل عليه قوله في الآية الأخرى {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلي بَعْضٍ}.
قال شيخنا: والصحيح إن المعنى لابتغوا إليه سبيلا بالتقرب إليه وطاعته فكيف تعبدونهم من دونه؟ وهم لو كانوا آلهة كما يقولون لكانوا عبيدا له قال: ويدل علي هذا وجوه:
منها: قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} أي هؤلاء الذين يعبدونهم من دوني هم عبادي كما أنتم عبادي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تعبدونهم من دوني؟.
الثاني: أنه سبحانه لم يقل لابتغوا عليه سبيلا. بل قال: {لابْتَغَوْا إلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} وهذا اللفظ إنما يستعمل في القرب كقوله تعالى {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إليه الْوَسِيلَةَ} وأما في المغالبة فإنما يستعمل بعلي كقوله {فإن أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}.
الثالث: أنهم لم يقولوا إن آلهتهم تغالبه وتطلب العلو عليه وهو سبحانه قال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} وهم إنما كانوا يقولون إن آلهتهم تبتغي التقرب إليه وتقربهم زلفى إليه قال تعالى: لو كان الأمر كما تقولون لكانت تلك الآلهة عبيدا له فلماذا تعبدون عبيده من دونه؟
فصل:
والمحبة لها آثار وتوابع ولوازم وأحكام سواء كانت محمودة أو مذمومة
ص -243- نافعة أو ضارة من الوجه والذوق والحلاوة والشوق والإنس والاتصال بالمحبوب والقرب منه والانفصال عنه والبعد منه والصد والهجران والفرح والسرور والبكاء والحزن وغير ذلك من أحكامها ولوازمها
والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة التي تجلب لصاحبها ما ينفعه في دنياه وآخرته وهذه المحبة هي عنوان السعادة وضدها هي التي تجلب لصاحبها ما يضره في دنياه وآخرته وهي عنوان الشقاوة.
ومعلوم إن الحي العاقل لا يختار محبة ما يضره ويشقيه وإنما يصدر ذلك عن جهله وظلمه فإن النفس قد تهوي ما يضرها ولا ينفعها وذلك ظلم من الإنسان لنفسه إما إن تكون النفس جاهلة بحال محبوبها بأن تهوي الشيء وتحبه غير عالمة بما في محبته من المضرة وهذا حال من اتبع هواه بغير علم وأما عالمة بما في محبته من الضرر لكن يؤثر هواها علي علمها وقد تتركب محبتها من أمرين: من اعتقاد فاسد وهوي مذموم وهذا حال من اتبع الظن وما تهوي الأنفس فلا تقع المحبة الفاسدة إلاّ من جهل أو اعتقاد فاسد وهو غالب أو ما تركب من ذلك فأعان بعضه بعضا فتنفق شبهة يشتبه بها الحق بالباطل يزين له أمر المحبوب وشهوة تدعوه إلى وصوله فيتساعد جيش الشبهة والشهوة علي جيش العقل والإيمان والغلبة لأقواهما.
وإذا عرف هذا فتوابع كل نوع من أنواع المحبة له حكم متبوعه فالمحبة النافعة المحمودة التي هي عنوان سعادة العبد وتوابعها كله نافعة له حكمها حكم متبوعها. فإن بكي نفعه وإن حزن نفعه وإن فرح نفعه وإن انبسط نفعه وإن انقبض نفعه فهو يتقلب في منازل المحبة وأحكامها في مزيد وربح وقوة.
ص -244- والمحبة والمضرة المذمومة توابعها وآثارها كلها ضارة لصاحبها مبعدة له من ربه كيف ما تقلب في آثارها ونزل في منازلها فهو في خسارة وبعد.
وهذا شأن كل فعل تولد عن طاعة ومعصية فكل ما تولد من الطاعة فهو زيادة لصاحبه وقربة وكل ما تولد من المعصية فهو خسران لصاحبه وبعد قال تعالى: {ذَلِكَ بأنه لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إن اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
فأخبر الله سبحانه في الآية الأولي: إن المتولد عن طاعتهم وأفعالهم يكتب لهم به عمل صالح وأخبر في الثانية: إن أعمالهم الصالحة التي باشروها تكتب لهم أنفسها والفرق بينهما: إن الأول ليس من فعلهم وإنما تولد عنه فكتب لهم به عمل صالح والثاني: نفس أفعالهم فكتب لهم.
فليتأمل قتيل المحبة هذا الفصل حق التأمل ليعلم ما له وما عليه.
سيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع وعند الوزن ما كان حصلا
فصل:
وكما إن المحبة والإرادة أصل كل فعل كما تقدم فهي أصل كل دين سواء كان حقا أم باطلا فإن الدين من الأعمال الباطنة والظاهرة والمحبة والإرادة أصل ذلك كله والدين هو الطاعة والعبادة والخلق فهو الطاعة اللازمة الدائمة التي صارت خلقا وعادة ولهذا فسر الخلق بالدين في قوله تعالى
ص -245- {وَإِنَّكَ لَعَلي خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال الإمام أحمد عن ابن عيينة قال ابن عباس:”لعلي دين عظيم”وسئلت عائشة عن خلق النبي صلي الله عليه وسلم فقالت:”كان خلقه القرآن”والدين فيه معنى الإذلال والقهر فيه معنى الذل والخضوع والطاعة فلذلك يكون من الأعلى إلى الأسفل كما يقال: دنته فدان أي قهرته فذل قال الشاعر:
هو دان الرباب إذ كرهوا الد ين فأضحوا بعزة وصيال
ويكون من الأدنى إلى الأعلى كما يقال: دنت الله ودنت لله وفلان لا يدين الله دينا ولا يدين الله بدين فدان الله أي أطاع الله وأحبه وخافه ودان لله أي خشع له وخضع وذل وانقاد.
والدين الباطل لا بد فيه من الخضوع والحب كالعبادة سواء بخلاف الدين الظاهر فإنه لا يستلزم الحب وإن كان فيه انقياد وذل في الظاهر.
وسمى الله تعالى يوم القيامة”يوم الدين”لأنه اليوم الذي يدين فيه الناس فيه بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر وذلك يتضمن جزاؤهم وحسابهم فلذلك فسروا بيوم الجزاء ويوم الحساب.
وقال تعالى: {فَلَوْلا إن كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي هلا تردون الروح إلى مكانها إن كنتم غير مربوبين ولا مقهورين ولا مجزيين وهذه الآية تحتاج إلى تفسير فإنها سيقت للاحتجاج عليهم في إنكارهم البعث والحساب ولا بد إن يكون الدليل مستلزم لمدلوله بحيث ينتقل الذهن منه إلى المدلول. لما بينهما من التلازم فيكون الملزوم دليل علي لازمه ولا يجب العكس.
ووجه الاستدلال: أنهم إذا أنكروا البعث والجزاء فقد كفروا بربهم
ص -246- وأنكروا قدرته وربوبيته وحكمته فإما إن يقروا بأن لهم ربا قاهرا متصرفا فيهم يميتهم إذا شاء ويحييهم إذا شاء ويأمرهم وينهاهم ويثيب محسنهم ويعاقب مسيئهم وأما إن لا يقروا برب هذا شأنه فإن أقروا آمنوا بالبعث والنشور والدين ألأمري والجزائي وإن أنكروه وكفروا به فقد زعموا أنهم غير مربوبين ولا محكوم عليهم ولا لهم رب يتصرف فيهم كما أراد فهلا يقدرون علي دفع الموت عنهم إذا جاءهم وعلي رد الروح إلى مستقرها إذا بلغت الحلقوم؟ وهذا خطاب للحاضرين وهم عند المحتضر وهم يعاينون موته: أي فهلا يردون الروح إلى مكانها إن كان لهم قدرة وتصرف ولستم بمربوبين ولا مقهورين لقاهر قادر يمضي عليكم أحكامه وينفذ فيكم أوامره وهذه غاية التعجيز لهم إذا تبين عجزهم عن رد نفس واحدة إلى مكانها, ولو اجتمع علي ذلك الثقلان فيا لها من آية دالة علي وحدانيته وربوبيته سبحانه وتصرفه في عباده ونفوذ أحكامه فيهم وجريانها عليهم.
والدين دينان. دين شرعي أمري ودين حسابي جزائي. وكلاهما لله وحده فالدين كله أمرا أو جزاء والمحبة أصل كل واحد من الدينين فإن ما شرعه وأمر به يحبه وبرضاه وما نهى عنه فإنه يكرهه ويبغضه لمنافاته لما يحبه ويرضاه فهو يحب ضده فعاد دينه الأمري كله إلى محبته ورضاه ودين العبد لله به إذا كان عن محبة ورضي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:”ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا”وهذا الدين قائم بالمحبة وبسببها شرع ولأجلها أسس وكذلك دينه الجزائي فإنه يتضمن مجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وكل من الأمرين محبوب للرب فإنهما عدله وفضله وكلاهما من صفات كماله وهو سبحانه يحب صفاته
ص -247- وأسمائه ويحب من يحبها وكل واحد من الدينين فهو صراطه المستقيم الذي هو عليه فهو سبحانه علي صراط مستقيم في أمره ونهيه وثوابه وعقابه كما قال تعالى: إخبارا عن نبيه هود عليه السلام إنه قال لقومه: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلي اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إن رَبِّي عَلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ولما علم نبي الله إن ربه علي صراط مستقيم في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وقضائه وقدره ومنعه وعطائه وعافيته وبلائه وتوفيقه وخذلانه لا يخرج في ذلك عن موجب كماله المقدس الذي تقتضيه أسماؤه وصفاته من العدل والحكمة والرحمة والإحسان والفضل ووضع الثواب في مواضعه والعقوبة في موضعها اللائق بها ووضع التوفيق والخذلان والعطاء والمنع والهداية والإضلال كل ذلك في أماكنه ومحاله اللائقة به بحيث يستحق علي ذلك كمال الحمد والثناء أوجب له ذلك العلم والعرفان إذ نادي علي رؤوس الملإ من قومه بجنان ثابت وقلب غير خائف بل متجرد لله {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلي اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إن رَبِّي عَلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الآية
ثم أخبر عن عموم قدرته وقهره بكل ما سواه وذل كل شيء لعظمته فقال: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إن رَبِّي عَلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فكيف أخاف من ناحيته بيد غيره وهو في قبضته وتحت قهره وسلطانه دونه وهل هذا الأمر إلاّ من أجهل الجهل وأقبح الظلم؟
ثم أخبر أنه سبحانه علي صراط مستقيم فكل ما يقضيه ويقدره
ص -248- فلا يخاف العبد جوره ولا ظلمه فلا أخاف ما دونه فإن ناصيته بيده ولا أخاف جوره وظلمه فإنه علي صراط مستقيم وهو سبحانه ماض في عبده حكمه عدل فيه قضاؤه له الملك وله الحمد لا يخرج في تصرفه في عباده عن العدل والفضل إن أعطي وأكرم وهدي ووفق فبفضله ورحمته وإن منع وأهان وأضل وخذل وشقي فبعدله وحكمته وهو علي صراط مستقيم في هذا وهذا.
وفي الحديث الصحيح”ما أصاب عبد قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك إن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء همي وحزني وذهاب همي وغمي إلاّ أذهب الله همه وغمه وأبدله فرجا مكانه قالوا: يا رسول الله ألا نتعلمهن؟ قال: بلي ينبغي لمن سمعهن إن يتعلمهن”وهذا يتناول حكم الرب الكوني والأمر والقضاء الذي يكون باختيار العبد وبغير اختياره وكلا الحكمين ماض في عبده وكلا القضائين عدل فيه فهذا الحديث مشتق من هذه الآية بينهما أقرب نسب وبالله التوفيق.
فصل:
ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر فإنه يفسد القلب بالذات وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال وفسد ثغر التوحيد كما تقدم وسنقرره أيضا إن شاء الله تعالى.
والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس وهم اللوطية
ص -249- والنساء فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه مع إن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلاّ من صبره الله عليه فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك من وجوه:
أحدها: ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء والجائع إلى الطعام حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء وهذا لا يذم إذا صادف حلال بل يحمد كما في كتاب الزهد للإمام أحمد من حديث يوسف بن عطية الصغار عن ثابت ألبناني عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم”حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن”
الثاني: إن يوسف عليه الطريق كان شبا وشهوة الشباب وحدته أقوى.
الثالث: أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة.
الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه وأهله ومعارفه.
الخامس: إن المرأة كانت ذات منصب وجمال بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى موافقتها.
السادس: أنها غير آبية ولا ممتنعة فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها وكثير من الناس يزيده الآباء والامتناع زيادة حب كما قال الشاعر:
وزادني كلفا في الحب إن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
فطباع الناس مختلفة في ذلك الآفات من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها وتضمحل عند إبائها وامتناعها وأخبرني بعض القضاة إن إرادته وشهوته
السابع: أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها بل كانت هي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب إليه.
الثامن: إنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث يخشى إن لم يطاوعها من إذا هاله فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
التاسع: إنه لا يخشى إن تنم عليه هي ولا أحد من جهتها فإنها هي الطالبة والرغبة وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء.
العاشر: أنه كان مملوكا لها في الدار بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه وكان الأنس سابقا علي الطلب وهو من أقوى الدواعي كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب: ما حملك علي الزنا؟ قالت: قرب الوسادة وطول السرار تعني قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السرار بيننا.
الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه فاستعان هو بالله عليهن فقال: {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إليهنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
الثاني عشر: أنها تواعدته بالسجن والصغار وهذا أنواع إكراه إذ هو تهديد ممن يغلب علي الظن وقوع ما هدد به فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
ص -251- الثالث عشر: إن الزوج لم يظهر منه الغيرة والنخوة ما راحم به بينهما ويبعد كلا منهما عن صاحبه بل كان غاية ما قابلها به إن قال ليوسف: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} وللمرأة {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع وهذا لم يظهر منه غيرة.
ومع هذه لدواعي كلها فآثر مرضات الله وخوفه وحمله حبه لله علي إن اختار السجن علي الزنا {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلى مِمَّا يَدْعُونَنِي إليه} وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه وأن ربه تعالى لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه وكان من الجاهلين وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه.
وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد علي ألف فائدة لعلنا إن وفقنا الله إن نفردها في مصنف مستقل.
فصل:
والطائفة الثانية الذين حكى الله عنهم العشق: هم اللوطية كما قال تعالى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إن هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} فهذه الأمة عشقت حكاه سبحانه عن طائفتين عشق كل منهما ما حرم عليه من الصور ولم يبال بما في عشقه من الضرر.
وهذا داء أعيا الأطباء دواؤه وعز عليهم شفاؤه وهو والله الداء العضال والسم القتال الذي ما علق بقلب إلاّ وعز علي الورى استنقاذه من إساره ولا اشتعلت نار في مهجة إلاّ وصعب علي الخلق تخليصها من ناره وهو أقسام:
ص -252- تارة يكون كفرا لمن اتخذ معشوقه ندا يحبه كما يحب الله فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفر لصاحبه فإنه من أعظم الشرك. والله لا يغفر إن يشرك به وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك وعلامة هذا العشق الشركي الكفرى: إن يقدم العاشق رضاء معشوقه علي رضاء ربه وإذا تعارض عنده حق معشوقه وحقه وحق ربه وطاعته قدم حق معشوقه علي حق ربه وآثر رضاه علي رضاه وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه وبذل لربه إن بذل أردى ما عنده وستفرغ وسعه في مرضات معشوقه وطاعته والتقرب إليه وجعل لربه إن أطاعه الفضلة التي تفضل عن معشوقه من ساعاته.
فتأمل حال أكثر عشاق الصور هل تحدها مطابقة لذلك ثم ضع حالهم في كفة وتوحيدهم في كفة وإيمانهم في كفة ثم زن وزنا يرضي الله ورسوله ويطابق العدل وربم صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من توحيد ربه كما قال العاشق الخبيث:
يترشفن من فمي رشفات هن أحلي فيه من التوحيد
وكما صرح الخبيث الآخر إن وصله أشهى إليه من رحمة ربه فعياذا بك اللهم من هذا الخذلان ومن هذا الحال قال الشاعر:
وصلك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
ولا ريب أن هذا العشق من أعظم الشرك وكثير من العشاق يصرح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة بل قد ملك معشوقه عليه قلبه كله فصار عبدا مخلصا من كل وجه لمعشوقه: فقد رضي هذا من عبودية الخالق جل جلاله بعبودية المخلوق مثله فإن العبودية أي كمال الحب والخضوع وهذا قد استغرق قوة حبه وخضوعه وذله لمعشوقه فقد أعطاه حقيقة العبودية.
ص -253- ولا نسبة بين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة فإن تلك ذنب كبير لفاعله حكمه حكم أمثاله ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك وكان بعض الشيوخ من العارفين يقول: لئن أبتلي بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إلى من إن أبتلي فيها بعشق يتعبد لها قلبي ويشغله عن الله.
فصل:
ودواء هذا الداء القتال إن يعرف إنما ما بتلي به من الداء المضاد للتوحيد (إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن الله فعليه إن يعرف توحيد ربه وسننه وآياته أولا) ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بم يشغل قلبه عن دوام الفكر فيه ويكثر اللجاء والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يرجع بقلبه إليه وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
وأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه فإن القلب إذا خلص وأخلص عمله لله لم يتمكن منه عشق الصور فإنه إنما يتمكن من قلب فارغ كما قال:
أتاني هواها قبل إن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وليعلم العاقل إن العقل والشرع قد يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها وإعدام المفاسد وتقليلها فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه المصلحة والمفسدة وجب عليه أمران: أمر علمي وأمر عملي فالعلمي طلب معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إيثار الأصلح له.
ص -254- ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدر فيه من المصلحة وذلك من وجوه:
أحدها: الاشتغال بذكر المخلوق وحبه عن حب الرب تعالى وذكره فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلاّ ويقهر أحدهما صاحبه ويكون السلطان والغلبة له.
لثاني: عذاب قلبه به فإن من أحب شيئا غير الله عذب به ولا بد كما قيل:
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حين مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم ويبكي إن دنو خوف الفراق
فتسخن عينه عند الفراق وتسخن عينه عند التلاقي
والعشق وإن استلذ به صاحبه فهو من أعظم عذاب القلب.
الثالث: إن العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه يسومه الهوان ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه فقلبه كالعصفورة في كف الطفل يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب كما قال بعض هؤلاء:
ملكت فؤادي بالقطيعة والجفا وأنت خلي البال تلهو وتلعب
فيعيش العاشق عيش الأسير الموثق المطلقويعيش الخلي عيش المسيب
طليق برأي العين وهو أسير عليل علي قطب الهلاك يدور
وميت يرى في صورة الحي غاديا وليس له حتى النشور نشور
أخو غمرات ضاع فيهن قلبه فليس له حتى الممات حضور
الرابع: أنه يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه فليس شيء أضيع لمصالح
ص -255- الدين والدنيا من عشق الصور إما مصالح الدين فإنها منوطة بلم شعث القلب وإقباله علي الله وعشق الصور أعظم شيئا تشعيثا وتشتيتا له وأما مصالح الدنيا فهي تابعة في الحقيقة لمصالح الدين فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه فمصالح دنياه أضيع وأضيع.
الخامس: إن آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشاق الصور من النار في يابس الحطب وسبب ذلك إن القلب كلما قرب من العشق قوى اتصاله به بعد من الله فأبعد القلوب من الله قلوب عشاق الصور وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات من كل ناحية فإن الشيطان يتولاه من تولاه عدوه واستولي عليه لم يدع أذى يمكنه إيصاله إليه إلاّ أوصله فما الظن من قلب تمكن منه عدوه وأحرص الخلق علي عيبه وفساده وبعده من وليه ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلاّ بقربه وولايته.
السادس: أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوى سلطانه أفسد الذهن وأحدث الوساوس وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون به وأخبار العشاق في ذلك موجودة في مواضعها بل بعضها يشاهد بالعيان وأشرف ما في الإنسان عقله وبه يتميز عن سائر الحيوانات فإن عدم عقله التحق بالبهائم بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله وهل أذهب عقل مجنون ليلي وأضرابه إلاّ العشق؟ وربما زاد جنونه علي جنون غيره كما قيل:
قالوا: جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون بالحين
السابع: أنه ربما أفسد الحواس أو نقصها إما فسادا معنويا أو صوريا إما الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب فإن القلب إذا فسد فسدت العين
هويتك إذ عينى عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
والداخل في الشيء لا يرى عيوبه والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه ولا يرى عيوبه إلاّ من دخل فيه ثم خرج منه ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خير من الذين ولدوا في الإسلام.
قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه”إنما ينتقض عرى الإسلام عروة عروة إذا ولد في الإسلام من لا يعرف الجاهلية”.
وأما فساده للحواس ظاهرا فإنه يمرض البدن وينهكه وربما أدى إلى تلفه كما هو المعروف في أخبار من قتله العشق.
وقد رفع إلى ابن عباس وهو بعرفة شاب قد انتحل حتى عاد جلدا علي عظم فقال: ما شأن هذا؟ قالوا: به العشق, فجعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق عامة يومه.
الثامن:أن العشق كما تقدم هو الإفراط في المحبة بحيث يستولي المعشوق علي القلب من العاشق حتى لا ولو من تخيله وذكره والفكر فيه بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه فعند ذلك تشتغل النفس عن استخدام القوة الحيوانية
ص -257- النفسانية فتتعطل تلك القوى فيحدث بتعطيلها من الآفات علي البدن والروح ما يضر دواؤه ويتعذر أفعاله وصفاته ومقاصده ويختل جميع ذلك فتعجز البشر عن صلاحه كما قيل:
الحب أول ما يكون لجاجة يأتي بها وتسوقه الأقدار
حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى جاءت أمور لا تطاق كبار
والعشق مبادئه سهلة حلوة وأوسطه هم وشغل قلب وسقم وآخره عطب وقتل إن لم يتداركه عناية من الله كما قيل:
وعش خاليا فالحب أوله عنا وأوسطه سقم وآخره قتل
وقال آخر:
تولع بالعشق حتى عشق فلما استقل به لم يطق
رأى لجة ظنها موجة فلما تمكن منها غرق
والذنب له فهو الجاني علي نفسه وقد قعد تحت المثل السائر”يداك أوكتا وفوك نفخ”.
فصل:
والعاشق له ثلاث مقامات: مقام ابتداء ومقام توسط ومقام انتهاء.
فأما مقام ابتدائه قالوا: فالواجب عليه مدافعته بكل ما يقدر عليه إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذرا قدرا وشرعا فإن عجز عن ذلك وأبى قلبه إلاّ السفر إلى محبوبه -وهذا مقام التوسط والانتهاء- فعليه كتمانه ذلك وأن لا يفشيه إلى الخلق ولا يشمت بمحبوبه ويهتكه بين الناس فيجمع بين الظلم والشرك
ص -258- فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم وربما كان أعظم ضررا علي المعشوق وأهله من ظلمه فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه وانقسامهم إلى مصدق ومكذب وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة وإذا قيل فلان فعل بفلان أو بفلانه كذبه واحد وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعين وخبر العاشق للهتك عن المتهتك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع اليقيني بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه كذبا وافتراء علي غيره جزموا بصدقة جزما لا يحتمل النقيض بل لو جمعهما مكانا واحدا اتفاقا جزموا إن ذلك عن وعد واتفاق بينهما وجزمهم في هذا الباب علي الظنون والتخييل والشبهة والأوهام والأخبار الكاذبة كجزمهم بالحسيات المشاهدة وبذلك وقع أهل الإفك في الطيبة المطيبة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرأة من فوق سبع سموات بشبهة مجيء صفوان بن المعطل بها وحده خلف العسكر حتى هلك من هلك ولولا إن تولي الله سبحانه براءتها والذب عنها وتكذيب قاذفها لكان أمرا آخر.
والمقصود: إن في إظهار المبتلي عشق من لا يحل له الاتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلي أهله وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه فإن استعان عليه ممن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم وانتشر وصار ذلك الواسطة بين الراشي والمرتشي وصار ذلك الواسطة ظالم وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الرائش وهو الواسطة ديوثا ظالما بين الراشي أو المرتشي لإيصال الرشوة فما الظن بالديوث الواسطة بين العاشق والمعشوق في الوصلة المحرمة فيتساعد العاشق علي ظلم المعشوق وغيره ممن يتوقف حصول غرضهما علي ظلمه في نفس ومال أو عرض فإن كثيرا ما يتوقف حصول المطلوب غرضه نفس يكون حياتها مانعة من غرضه وكم قتيل طل دمه بهذا السبب من زوج وسيد قريب وكم
ص -259- خبثت امرأة على بعلها وجارية وعبد على سيدهما وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك وتبرأ منه وهو من أكبر الكبائر وإذا كان النبي صلى الله على ه وسلم قد نهى إن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته وأمته حتى يتصل بهما وعشاق الصور ومساعدوهم من الدياثة لا يرون ذلك ذنبا فإن في طلب العاشق وصل معشوقه ومشاركة الزوج والسيد ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يرب على ها ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة فإن التوبة وإن أسقطت حق الله فحق العبد باق له المطالبة به يوم القيامة فإن من ظلم الوالد بإفساد ولده وفلذة كبده ومن هو أعز عليه من نفسه وظلم الزوج بإفساد حبيبته والجناية على فراشه أعظم من ظلمه كله ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه ولا يعدل ذلك عنده إلاّ سفك دمه فيا له من ظلم أعظم إثماً من فعل الفاحشة فإن كل ذلك حقا لغاز في سبيل الله وقف له الجاني الفاعل يوم القيامة وقيل له:”خذ من حسناته ما شئت”كما أخبر بذلك النبي صلى الله على ه وسلم ثم قال صلى الله على ه وسلم:”فما ظنكم؟”أي فما تظنون تبقى له من حسناته فإن انضاف إلى ذلك إن يكون المظلوم جارا أو ذا رحم محرم تعدد الظلم وصار ظلما مؤكدا لقطيعة الرحم وإيذاء الجار ولا يدخل الجنة قاطع رحم ولا من لا يأمن جاره بوائقه.
فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن إما بسحر
ص -260- أو استخدام أو نحو ذلك ضم إلى الشرك والظلم كفر السحر فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده وهذا ليس ببعيد من الكفر.
والمقصود: إن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان.
وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدي لا يخفى فإنه إذا حصل له مقصوده من المعشوق فللمعشوق أمور أخر يريد من العاشق إعانته على ها فلا يجد من إعانته بدا فيبقى كل منهما يعين الأخ على الظلم والعدوان فالمعشوق يعين العاشق على ظلم من اتصل به من أهله وأقاربه وسيده وزوجه والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقفا على ظلمه فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون فيها ظلم الناس فيحصل العدوان والظلم للناس بسبب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم وكما جرت به العادة بين العشاق والمعشوقين من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وعدوان وبغي حتى ربما يسعى له في منصب لا يليق به ولا يصلح لمثله في تحصيل مال من غير حله وفي استطالته على غيره فإذا اختصم معشوقه وغيره أو تشاكيا لم يكن إلاّ في جانب المعشوق ظالما كان أو مظلوما هذا إلى ما ينضم إلى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحيل على أخذ أموالهم والتوصل بهما إلى معشوقه بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك وربما أدى ذلك النفس التي حرم الله ليتوصل به إلى معشوقه.
فكل هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور وربما حمله على الكفر الصريح وقد تنصر جماعة ممن نشأ في الإسلام بسبب العشق كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر وهو على سطح مسجد امرأة جميلة ففتن بها ونزل
ص -261- ودخل على ها وسألها نفسها فقالت: هي نصرانية فإن دخلت في ديني تزوجت بك ففعل فرقي في ذلك اليوم على درجة عندهم فسقط منها فمات ذكر هذا عبد الحق في كتاب العاقبة له.
وإذا أراد النصارى إن ينصروا الأسير أروه امرأة جميلة وأمروها إن تطمعه في نفسها حتى إذا تمكن حبها من قلبه بذلت له نفسها إن دخل في دينها فهنالك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.,في وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه لمعاونته له على الفاحشة وظلمه لنفسه فكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه وظلمهما متعد إلى الغير كما تقدم وأعظم من ذلك ظلمهما بالشرك فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها والمعشوق إذا لم يتق الله فإنه يعرض العاشق للتلف وذلك ظلم منه بأن يطمعه في نفسه ويتزين له ويستميله بكل طريق حتى يستخرج ونفعه ولا يمكنه من نفسه لئلا يزول غرضه بقضاء وطره منه فهو يسومه سوء العذاب والعاشق معشوقه ليشفي نفسه منه ولا سيما إذا جاد بالوصال لغيره وكم للعشق من قتيل من الجانبين وكم قد أزال من نعمة وأفقر من غني وأسقط من مرتبة وشتت من شمل وكم أفسد من أهل للرجل وولد فإن المرأة إذا رأت بعلها عاشقا لغيرها اتخذت هي معشوقا لنفسها فيصير الرجل مترددا بين خراب بيته بالطلاق وبين القيادة فمن الناس من يؤثر هذا ومنهم من يؤثر هذا.
فعلى العاقل إن يحكم على نفسه سد عشق الصور لئلا يؤذيه ويؤديه ذلك إلى الهلاك يبك هذه المفاسد وأكثرها أو بعضها فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه والمغرر بها فإذا هلكت فهو الذي أهلكها فلولا تكراره النظر إلى وجه معشوقه وطمعه في
ص -262- وصاله لم يتمكن عشقه من قلبه فإن أول أسباب العشق الاستحسان سواء تولد عن نظر أو سماع فإن لم يقارنه طمع في الوصال وقارنه الإياس من ذلك لم يحدث له العشق فإن اقترن به الطمع فصرفه عن فكره ولم يشغل قلبه به لم يحدث له ذلك فإن أطاع مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصاله إما خوف ديني كخوف النار وغضب الجبار واجتناب الأوزار وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع والفكر لم يحدث له العشق فإن فاته هذا الخوف وقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه وماله وذهاب جاهه وسقوط مرتبته عند الناس وسقوطه من عين من يعز عليه وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه وأنفع له من ذلك المعشوق وقدم محبته على محبة المعشوق اندفع عنه العشق فإن انتفى ذلك كله أو غلبت محبة المعشوق لذلك انجذب إليه القلب بالكلية ومالت إليه النفس كل الميل فإن قيل: قد ذكرتم آفات العشق ومضاره ومفاسده فهلا ذكرتم منافعه وفوائده التي من جملتها: رقة الطبع وترويح النفس وخفتها وزوال تلفها ورياضتها وحملها على مكارم الأخلاق من الشجاعة والكرم والمروءة ورقة الحاشية ولطف الجانب؟
وقد قيل ليحيى بن معاذ الرازي: إن ابنك قد عشق فلانة فقال: الحمد لله الذي صيره إلى الطبع الآدمي.
وقال غيره: العشق لا يصلح إلاّ لذي مروءة طاهرة وخليقة ظاهرة أو لذي لسان فاضل وإحسان كامل أو لذي أدب بارع وحسب ناصع.
ص -263- وقال آخر: العشق حنان الجبان ويصفي ذهن الغبي ويسخ كف البخيل ويذل عزة الملوك ويسكن نوافر الأخلاق وهو أنيس من لا أنيس له وجليس من لا جليس له.
وقال آخر: العشق يزيل الأثقال ويلطف الروح ويصفي كدر القلب ويوجب الارتياح لأفعال الكرام كما قال الشاعر:
سيهلك في الدنيا شفيق على كم إذا غاله من حادث الحب غائله
كريم يميت السر حتى كأنه إذا استفهموه عن حديثك جاهله
يود بأن يمسي سقيما لعلها إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
ويهتز للمعروف في طلب العلا لتحمد يوما عند ليلي شمائله
فالعشق يحمل على مكارم الأخلاق.
وقال بعض الحكماء: العشق يروض النفس ويهذب الأخلاق إظهاره طبعي وإضماره تكلفي.
وقال آخر: من لم تبتهج نفسه بالصوت الشجي والوجه البهي فهو فاسد المزاج يحتاج إلى علاج وأنشد في ذلك:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فما لك في طيب الحياة نصيب
وقال آخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فأنت وعير في الفلاة سواء
وقال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرى ما الهوى فقم فاعتلف تبنا فأنت حمار
وقال بعض العشاق أولو العفة والصيانة: إذ عفوا تشرفوا وإذا عشقوا تظرفوا.
وقيل لبعض العشاق: ما كنت تصنع بمن تهوى به؟ فقال: كنت
ص -264- أمتع طرفي بوجهه وأروح قلبي بذكره وحديثه واستر منه مالا يحب كشفه ولا أصير بقبح الفعل إلى ما ينقض عهده ثم أنشد:
أخلو به فأعف عنه تكرما خوف الديانة لست من عشاقه
كالماء في يد صائم يلتذه ظمأ فيصبر عن لذيذ مذاقه
وقال أبو إسحق بن إبراهيم: أرواح العشاق عطرة لطيفة وأبدانهم رقيقة خفيفة نزهتهم الموانسة وكلامهم يحيي موات القلوب ويزيد في العقول ولولا العشق والهوى لبطل نعيم الدنيا.
وقال آخر: العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان إن تركته ضرك وإن أكثرت منه قتلك وفي ذلك قيل:
خليلي إن الحب فيه لذاذة وفيه شقاء دائم وكروب
علي ذاك ما عيش يطيب بغيره ولا عيش إلاّ بالحبيب يطيب
ولا خير في الدنيا بغير صبابة ولا في نعيم ليس فيه حبيب
وذكر الخرائطي عن أبي غسان قال: مر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجارية وهي تقول:
وهويته من قبل قطع تمائمي متمايلا مثل القضيب الناعم
فسألها: أحرة أنت أم مملوكة؟ قالت: بل مملوكة فقال:من تهوين؟ فتلكأت فأقسم على ها فقالت:
وأنا التي لعب الهوى بفؤادها قتلت بحب محمد بن القاسم
فاشتراها من مولاها وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب فقال: هؤلاء والله فتن الرجال. وكم والله قد مات بهن كريم وعطب بهن سليم.
ص -265- وجاءت جارية عثمان بن عفان رضي الله عنه تستدعي على رجل من الأنصار قال لها عثمان: ما قصتك؟ قالت: كلفت يا أمير المؤمنين بابن أخيه فما انفك أداعبه فقال له عثمان: إما إن تهبها إلى ابن أخيك أو أعطيك ثمنها من مالي فقال: أشهدك يا أمير المؤمنين إنها له.
ونحن لا ننكر فساد العشق الذي يتعلق به فعل الفاحشة بالمعشوق وإنما الكلام في العشق العفيف من الرجل الظريف الذي يأبى له إيمانه ودينه وعفته ومروءته إن يفسد ما بينه وبين الله وما بينه وبين معشوقة بالحرام وهذا عشق السلف الكرام والأئمة الأعلام فهذا عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة عشق حتى اشتهر أمره على ه وعد ظالما من لامه ومن شعره:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم ولامك أقوام ولومهم ظلم
فنم عليك الكاشحون وقبلهم عليك الهوى قد نم ما ينفع الكتم
فأصبحت كالهندي إذ مات حسرة علي أثر هند أو كمن شفه سقم
تجنبت إتيان الحبيب تأثما إلاّ إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها قد كنت تزعم أنه رشاد ألا ياء ربما كذب الزعم
وهذا عمر بن عبد العزيز وعشقه لجارية فاطمة بنت عبد الملك بن مروان وامرأته مشهورة وكانت جارية بارعة الجمال وكان معجبا بها وكان يطلبها من امرأته ويحرص على إن تهبها له فتأبى ولم تزل الجارية في نفس عمر فلما استخلف أمرت فاطمة بالجارية فأصلحت وكانت مثلا في حسنها وجمالها ثم دخلت على عمر وقالت: يا أمير المؤمنين إنك كنت معجبا بجاريتي فلانة وسألتها فأبيت
ص -266- عليك والآن فقد طابت نفسي لك بها فلما قالت له ذلك استبان الفرح في وجهه وقال: عجلي فلما دخلت بها عليه ازداد به عجبا وقال لها: ألقي ثيابك ففعلت ثم قال: لها على رسلك أخبريني لمن كنت؟ ومن أين صرت لفاطمة؟ فقالت: أغرم الحجاج عاملا له بالكوفة مالا وكنت في رفيقة ذلك قالت فأخذني وبعث بي إلى عبد الملك فوهبني لفاطمة قال: وما فعل ذلك العامل؟ قالت هلك قال: وهل ترك ولدا؟ قالت: نعم قال: فما حالهم؟ قالت: سيئة قال: شدي إليك ثيابك واذهبي إلى مكانك ثم كتب إلى عامله على العراق: إن يبعث إلى فلان بن فلان على البريد فلما قدم قال له: ارفع إلى جميع ما أغرمه الحجاج لأبيك فلم يرفع إليه شيئا إلاّ دفعه إليه ثم أمر بالجارية فدفعت إليه ثم قال له: إياك وإياها فلعل أباك قد وقع بها فقال الغلام: هي لك يا أمير المؤمنين قال: لا حاجة لي بها قال: فابتعها مني قال: لست إذا ممن نهى نفسه عن الهوى فلما عزم الفتى على الانصراف قالت: أين وجدك بي يا أمير المؤمنين؟ قال:على حاله ولقد زادني ولم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات رحمه الله.
وهذا أبو بكر بن محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب وله قول في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور.
قال نفطويه: دخلت على ه في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف نجدك؟ قال: حب من تعلم أورثني ما ترى فقلت: وما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح والآخر: اللذة المحظورة فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى وأما اللذة المحظورة يمنعني منها ما حدثني أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى
ص -267- القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه”من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة”.
ثم أنشد:
انظر إلى السحر يجري من لواحظه وانظر إلى دعج في طرفه الساجي
وانظر إلى شعرات فوق عارضه كأنهن نمال دب في عاج
ثم أنشد:
ما لهم أنكروا سوادا بحديه ولا ينكرون ورد الغصون
أن يكن عيب خده برد الشعر فعيب العيون شعر الجفون
فقلت له: نفيت القياس في الفقه وأثبته في الشعر؟ فقال غلبة الوجد وملكة الوجه النفس دعت إليه ثم مات من ليلته وبسبب معشوقه صنف كتاب الزهرة.
ومن كلامه فيه:”من ييأس بمن يهواه ولم يمت من وقته سلاه وذلك إن أول روعات الناس تأتي القلب وهو غير مستعد لها فأما الثانية تأتي القلب وقد وطأت لها الروعة الأولي”.
والتقى هو وأبو العباس بن سريج في مجلس أبي بن عيسى الوزير فتناظرا في مسألة من الإيلاء قال: له ابن بأن تقول: من دامت لحظاته كثرت حسراته أحذق منك بالكلام على الفقه فقال: الآن كان ذلك فإني أقول:
أنزه في روض المحاسن مقلتي وأمنع نفسي إن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه يصب على الصخر الأصم تهدما
ص -268- رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم فلست أرى ودا صحيحا مسلما
فقال له أبو العباس بن سريج:بما تفخر على ؟ ولو شئت لقلت:
مطاعمه كالشهد في نغماته قد بت أمنعه لذيذ سناته
بصبابه وبحسنه وحديثه وأنزه اللحظات عن وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ولي بخاتم ربه وبراته
فقال أبو بكر: يحفظ عليه الوزير ما أقر به حتى يقيم شاهدين على أنه ولي بخاتم ربه وبراءته فقال ابن سريج: يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك:
أنزه في روض المحاسن مقلتي وأمنع نفسي إن تنال محرما
فضحك الوزير فقال: لقد جمعتما لطفا وظرفا ذكر ذلك أبو بكر الخطيب في تاريخه وجاءته يوما فتيا مضمونها:
يا ابن داود يا فقيه العراق أفتنا في قواتل الأحداق
هلعلى ها بما أتت من جناح أم حلال لها دم العشاق
فكتب تحت البيتين بخطه فقال:
عندي جواب سائل العشاق فاسمعه من قرح الحشا مشتاق
لما سئلت عن الهوى هيجتني وأرقت دمعا لم يكن مهراق
إن كان معشوقا يعذب عاشقا كان المعذب أنعم العشاق
قال: صاحب كتاب منازل الأحباب شهاب الدين محمود بن سليمان بن مهدي صاحب كتاب الإنشاء وقلت: في جواب البيتين على قافيتهما مجيبا للسائل:
قل لمن جاء سائلا عن لحاظ هن يلعبن في دم العشاق
ص -269- ما على السيف في العدا من جناح أن ثني الخد عن دم مهراق
وسيوف اللحاظ أولي بأن تـ صفح عما جنت على العشاق
إنما كل من قتلن شهيد ولهذا يفني فنا وهو باق
ونظير ذلك فتوى وردت على الشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني شيخ الحنابلة في وقته رحمه الله:
قل للإمام أبي الخطاب مسألة جاءت إليك وما أخال سواك لها
ماذاعلى رجل رام الصلاة فمذ لاحت مخاطرة ذات الجمال لها
فأجابه تحت سؤاله:
قل للأديب الذي وافى بمسألة سرت فؤادي لما إن أصخت لها
إن الذي فتنته عن عبادة ربه خريدة ذات حسن فانثنى ولها
إن تاب ثم قضا عنه عبادة ربه فرحمة الله تغشى من عصى ولها
وقال عبد الله بن معمر القيسي: حججت سنة ثم دخلت مسجد المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله على ه وسلم فبينما أنا جالس ذات ليلة بين القبر والمنبر إذا سمعت أنينا فأصغيت إليه فإذا هو يقول:
أشجاك نوح حمائم السدر فأهجن منك بلابل الصدر
أم عز نومك ذكر غانية أهدت إليك وساوس الفكر
يا ليلة طالت على دنف يشكو السهاد وقلة الصبر
أسلمت من تهوى لحر جوى متوقد كتوقد الجمر
فالبدر يشهد ومعناه كلف مغرم بحب شبيهة البدر
ص -270- ما كنت أحسبني أهيم بحبها حتى بليت وكنت لا أدري
ثم انقطع الصوت فلم أدر من أين جاء وإذا به قد عاد البكاء والأنين ثم أنشد يقول:
أشجاك من ريا خيال زائر والليل مسود الذوائب عاكر
واغتال مهجتك الهوى برسيسة واهتاج مقلتك الخيال الزائر
ناديت ريا والظلام كأنه يم تلاطم فيه موج زاخر
والبدر يسري في السماء كأنه ملك ترجل والنجوم عساكر
ترى به الجوزاء ترقص في الدجى رقص الحبيب علاه سكر طاهر
ا ليل طلت على محب ما له إلاّ الصباح مساعد وموازر
فأجابني: مت حتف أنفك واعلمن أن الهوى لهو الهوان الحاضر
قال: وكنت ذهبت عند ابتدائه بالأبيات فلم يتنبه إلاّ وأنا عنده فرأيت شابا مقتبلا شبابه قد خرق الدمع في خده خرقين فسلمت عليه فقال: إجلس من أنت؟ فقلت: عبد الله بن معمر القيسي قال: ألك حاجة؟ قلت: نعم كنت جالسا في الروضة فما راعني إلاّ صوتك فبنفسي أفديك فما الذي تجده فقال: أنا عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري غدوت يوما إلى مسجد الأحزاب فصليت فيه. ثم اعتزلت غير بعيد فإذا بنسوة قد أقبلن يتهادين مثل القطا وإذا في وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة وقالت: يا عتبة ما تقول في وصل من يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبرا ولم أقف لها على أثر فإنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان ثم صرخ وأكب مغشيا عليه ثم أفاق كأنما أصبغت وجنتاه بورس ثم أنشد يقول:
ص -271- أراكم بقلبي من بلاد بعيدة فيا هل تروني بالفؤاد على بعدي
فؤادي وطرفي يأسفان على كم وعندكم روحي وذكركم عندي
ولست ألذ العيش حتى أراكم ولو كنت في الفردوس جنة الخلد
فقلت يا ابن أخي تب إلى ربك واستغفره من ذنبك فبين يديك هول المطلع فقال: ما أنا بسائل حتى يذوب العارضان فلم أزل معه حتى طلع الصباح فقلت: قم بنا إلى مسجد الأحزاب فلعل الله إن يكشف كربتك فقال: أرجوا ذلك إن شاء الله ببركة طاعتك فذهبنا حتى أتينا مسجد الأحزاب فسمعته يقول:
يا للرجال ليوم الأربعاء أما ينفك يحدث لي بعد النهار طربا
ما إن يزال غزال منه يقلقني يأتي إلى مسجد الأحزاب منتقبا
يخبر الناس إن الأجر همته وما أنا طالبا للأجر محتسبا
لو كان يبغي ثوابا ما أتى صلفا مضمخا بفتيت المسك مختضبا
ثم جلسنا حتى صلينا الظهر فإذا بالنسوة قد أقبلن وليست الجارية فيهن فوقفنعلى ه وقلن له: يا عتبة ما ظنك بطالبة وصلك وكاشفة بالك قال: وما بالها قلن: أخذها أبوها وارتحل بها إلى أرض السماوة فسألتهن عن الجارية فقلن: هي ريا بنت الغطريف السلمي فرفع عتبة إليهن رأسه وقال:
خليلي ريا قد أجد بكورها وسارت إلى أرض السماوة وغيرها
خليلي إني قد غشيت من البكى فهل عند غيري مقلة أستعيرها
فقلت له: إني قد وردت بمال جزيل أريد به أهل الستر ووالله لأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضاء فقم بنا إلى مسجد الأنصار فقمنا وسرنا حتى
ص -272- أشرفنا على ملأ منهم فسلمت فأحسنوا الرد فقلت: أيها الملأ ما تقولون في عتبة وأبيه قالوا: من سادات العرب قلت: فإنه قد رمى بداهية من الهوى وما أريد منكم إلاّ المساعدة إلى السماوة فقالوا: سمعا وطاعة فركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على منازل بني سليم فأعلم الغطريف بنا فخرج مبادرا فاستقلبنا وقال: حييتم بالإكرام فقلنا: وأنت فحياك الله إنا لك أضياف فقال: نزلتم أكرم منزل فنادى: يا معشر العبيد أنزلوا القوم
ص -273- بقي بيننا وبين المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الغارة أحسبها من سليم فحمل عليها عتبة فقتل منهم رجالا وجندل منهم آخرين ثم رجع وبه طعنة تفور دما فسقط إلى الأرض وأتانا نجدة فطردت الخيل عنا وقد قضى عتبة نحبه فقلنا: واعتبتاه فسمعتنا الجارية فألقت نفسها عن البعير وجعلت تصيح بحرقة وأنشدت:
تصبرت لا أني ثبرت وإنما أعلل نفسي أنها بك لاحقة
فلو أنصفت روحي لكانت إلى الردى أمامك من دون البرية سابقة
فما أحد بعدي وبعدك منصف خليلا ولا نفس لنفس موافقة
ثم شهقت وقضت نحبها فاحتفرنا لهما قبرا واحدا ودفناهما فيه ثم رجعت إلى المدينة فأقمت سبع سنين ثم ذهبت إلى الحجاز ووردت المدينة فقلت والله لآتين قبر عتبة أزوره فأتيت القبر فإذا عليه شجرة عليها عصائب حمر وصفر فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ قالوا شجرة العروسين.
ولو لم يكن في العشق من الرخصة المخالفة للتشديد إلاّ الحديث الوارد بالحسن من الأسانيد وهو حديث سويد بن سعيد عن علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن العباس يرفعه”من عشق وعف وكتم فمات فهو شهيد”ورواه سويد أيضا عن ابن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا ورواه الخطيب عن الأزهري عن المعافا بن زكريا عن قطبة عن ابن الفضل عن أحمد بن مسروق عنه ورواه الزبير بن بكار عن عبد العزيز الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس.
وهذا سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم نظر إلى
ص -274- إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها فقال :”سبحان مقلب القلوب” وكانت تحت زيد بن حارثة مولاه فلما هم بطلاقها قال له: “اتق الله وامسك عليك زوجك” فلما طلقها زوجها الله سبحانه من رسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سموات فكان هو وليها وولي تزويجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد عقد نكاحها من فوق عرشه وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.
وهذا داود نبي الله عليه السلام لما كان تحته تسعة وتسعين امرأة ثم أحب تلك المرأة وتزوجها وأكمل بها المائة
وقال: الزهري أول حب كان في الإسلام حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وكان مسروق يسميها: حبيبة رسول صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو القيس مولي عبد الله ابن عمرو: “وأرسلني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة أسألها. أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل أهله وهو صائم؟ فقالت: لا فقال: إن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها وهو صائم فقالت: أم سلمة رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأي عائشة لم يتمالك نفسه عنها”.
وذكر سعيد بن إبراهيم عن عامر بن سعيد عن أبيه قال: كان إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم يزوره جبرائيل في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها.
وذكر الخرائطي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما اشترى جارية رومية فكان يحبها حبا شديدا فوقعت ذات يوم عن بغلة له فجعل يمسح التراب عن وجهها ويفديها ويقبلها وكانت تكثر من أن يقول له: يا بطرون أنت قالون تعني
ص -275- يا مولاي أنت جيد ثم إنها هربت منه فوجد عليها وجدا شديدا فقال:
قد كنت أحسبني قالون فانصرفت فاليوم أعلم أني غير قالون
قال أبو محمد بن حزم: وقد أحب من الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين كثير وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين رأيت امرأة فعشقتها فقال: ذلك ما لا تملك.
فالجواب وبالله التوفيق: إن الكلام في هذا الباب لا بد فيه من التمييز بين الواقع والجائز والنافع والضار ولا يستعجل عليه بالذم والإنكار ولا بالمدح والقبول من حيث الجملة وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر متعلقه وإلا فالعشق من حيث هو لا يحمد ولا يذم ونحن نذكر النافع من الحب والضار والجائز والحرام.
اعلم إن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلت القلوبعلى محبته وفطرت الخليقة على تألهه وبها قامت الأرض والسموات وعليها فطر المخلوقات وهي سر شهادة إن لا إله إلاّ الله فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع وتعبده والعبادة لا تصح إلاّ له وحده والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله والله سبحانه يحب لذاته من سائر الوجوه وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته.
وقد دل على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة ودعوة جميع رسله صلى الله عليه وسلم أجمعين وفطرته التي فطر على ها عباده وما ركب فيها من العقول وما أسبغ على هم من النعم فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم على ها وأحسن إليها فكيف بمن كل الإحسان منه وما بخلقه جميعهم من نعمه وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ
ص -276- تَجْأَرُونَ} الآية وما تعرف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العليا وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته.
والمحبة له داعيين: الجلال والجمال والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك فإنه جميل يحب الجمال بل الجمال كله له والإجلال كله منه فلا يستحق إن يحب لذاته من كل وجه سواه قال الله تعالى: {قُلْ إن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عليمٌ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فإن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} الآية.
والولاية أصلها الحب فلا موالاة إلاّ بحب كما إن العداوة أصلها البغض والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه فهم يوالونه بمحبتهم له وهو مواليهم بمحبته لهم فالله يوالي عبده المؤمن بحسب محبته له.
ولهذا أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه أولياء بخلاف من يبك أولياءه فإنه لم يتخذهم من دونه بل موالاته لهم من تمام موالاته.
وقد أنكر على من سوى بينه وبين غيره في المحبة وأخبر إن من فعل ذلك فقد اتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} وأخبر عمن سوي بينه وبين الأنداد في المحبة أنهم يقولون في النار لمعبوديهم {تَاللَّهِ إن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
ص -277- وبهذا التوحيد في الحب أرسل الله سبحانه جميع رسله صلى الله عليه وسلم وأنزل جميع كتبه وأطبقت عليه دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم ولأجله خلقت السموات والأرض والجنة والنار فجعل الجنة لأهله والنار للمشركين به فيه.
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه:”لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”فكيف بمحبة الرب جل جلاله؟ وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:”لا حتى أكون أحب إليك من نفسك”أي لا تؤمن حتى تصل محبتك لي إلى هذه الغاية.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولي بنا من أنفسنا بالمحبة ولوازمها أفليس الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالي جده ولا إله غيره أولي بمحبته وعبادته من أنفسهم؟ وكل ما منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبة مما يحب العبد ويكرهه فعطاؤه ومنعه ومعافاته وابتلائه وقبضه وبسطه وعدله وفضله وأمانته وإحياؤه ولطفه وبره ورحمته وإحسانه وستره وعفوه وحلمه وصبره على عبده وإجابته لدعائه وكشف كربه وإغاثة لهفته وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه كل ذلك داع للقلوب إلى تألهه ومحبته بل تمكينه عبده من معصيته وإعانته عليه وستره حتى يقضي وطره منها وكلائته وحراسته له وهو يقضي وطره من معصيته وهو يعينه ويستعين عليها بنعمه من أقوى الدواعي إلى محبته فلو إن مخلوقا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس مع إساءته؟ فخيره إليك نازل وشرك إليه صاعد يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه والعبد يتبغض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته ولا معصية العبد ولومه يقطع إحسان ربه عنه.
ص -278- فالأم اللؤم تخلف القلوب عن محبة من هذا شأنه وتعلقها بمحبة سواه.
وأيضا فكل من تحبه من الخلق أو يحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك والرب سبحانه وتعالي يريد لك كما في الأثر الإلهي”عبدي كل يريدك لنفسه وأنا أريدك لك”فكيف لا يستحيي العبد إن يكون ربه له بهذه المنزلة وهو معرض عنه مشغول بحب غيره وقد استغرق قلبه محبة ما سواه؟
وأيضا فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يعاملك ولا بدله من نوع من أنواع الربح والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوا.
وأيضا فهو سبحانه خلقك لنفسه وخلق كل شيء خلق لك في الدنيا والآخرة فمن أولي منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟
وأيضا فمطالبك -بل مطالب الخلق كلهم جميعا- لديه وهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين ويعطي عبده قبل إن يسأله فوق ما يؤمله يشكر على القليل من العمل وينميه ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ويسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن لا يشغله سمع عن سمع ولا يغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين بل يجب الملحين في الدعاء ويجب إن يسأل ويغضب إذا لم يسأل فيستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه ويستره حيث لا يستر نفسه وبرحمة حيث لا يرحم نفسه دعاه بنعمته وإحسانه وناداه إلى كرامته ورضوانه فأبي فأرسل صلى الله
ص -279- وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلاّ هو ولا يذهب بالسيئات إلاّ هو ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكربات ويغيث اللهفات وينيل الطلبات سواه؟ فهو أحق من ذكر وأحق من شكر وأحق من حمد وأحق من عبد وأنصر من ابتغى وأرأف من ملك وأجود من سئل وأوسع من أعطي وأرحم من استرحم وأكرم من قصد وأعز من التجأ إليه وأكفي من توكل عليه أرحم بعبده من الوالدة بولدها وأشد فرحا بتوبة عباده التائبين من الفاقد لراحلته التي عليها طعامها وشرابه في الأرض المهلكة إذا يأس من الحياة فوجدها وهو الملك فلا شريك له والفرد فلا ندله كل شيء هالك إلاّ وجهه لن يطاع إلاّ بإذنه ولن يعصي إلاّ بعلمه يطاع فيشكر وبتوفيقه ونعمته أطيع ويعصي فيغفر ويعف وحقه أضيع فهو أقرب شهيد وأدنى حفيظ وأوفى وفي بالعهد وأعدل قائم بالقسط حال دون النفوس وأخذ بالنواصي وكتب الآثار ونسخ الآجال فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية والعلانية والغيوب لديه مكشوف وكل أحد إليه ملهوف وعنت الوجوه لنور وجهه وعجزة القلوب عن إدراك كنهه ودلت الفطرة والأدلة كلها على امتناع مثله وشبهه أشرقت لنور وجهه الظلمات استنارت له الأرض والسموات وصلحت عليه جميع المخلوقات لا ينام ولا ينبغي له إن ينام يحفظ القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه بالنور لو كشفه لا حرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ما اعتاض باذل حبه لسواه من عوض ولو ملك الوجود بأسره
ص -280- فصل:
وهاهنا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به وهو إن كمال اللذة والسرور والفرح ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين:
أحدهما: كمال المحبوب في نفسه وجماله وإنه أولي بإيثار المحبة من كل ما سواه.
والأمر الثاني: كمال محبته واستفراغ الوسع في حبه وإيثار قربه والوصول إليه على كل شيء.
وكل عاقل يعلم إن اللذة بحصول المحبوب بحسب قوته ومحبته فكل ما كانت المحبة أقوى كانت لذة المحب أكمل فلذة من اشتد ظمؤه بادراك الماء الزلال ومن اشتد جوعه بأكل الطعام الشهي ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته.
وإذا عرفت هذا فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه بل هو مقصود كل حي وعاقل وإذا كانت لذة مطلوب في نفسها فهي تذم إذا أعقبت ألم أعظم منها. أو منعت لذة خيرا منها وأجل فكيف إذا أعقبت أعظم الحسرات وفوتت أعظم اللذات والمسرات؟ وتحمد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجه ما وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الآية وقال السحرة لفرعون لما آمنوا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنما تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عليهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
والله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليبتليهم هذه اللذة الدائمة في دار الخلد وأما الدنيا فمنقطعة ولذاتها لا تصفو أبدا ولا تدوم بخلاف الآخرة فإن
ص -281- لذاتها دائمة ونعيمها خالص من كل كدر وألم وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مع الخلود أبدا فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين بل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهذا المعني الذي قصده الناصح لقومه بقوله {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إنما هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} فاخبرهم إن الدنيا متاع ليستمتع بها إلى غيرها وأن الآخرة هي المستقر.
وإذا عرفت إن لذات الدنيا متاع وسبيل إلى لذات الآخرة ولذلك خلقت الدنيا لذاتها فكل لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلت إليها لم يذم تناولها بل يحمد لحسب إيصالها إلى لذة الآخرة.
إذا عرف هذا فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها: النظر إلى وجه الله جل جلاله وسماع كلامه والقرب منه كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية “فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه”وفي حديث آخر”إنه إذا تجلي لهم ورأوه نسوا ما هم فيه من النعيم”
وفي النسائي ومسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه”وأسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك”.
وفي كتاب السنة العبد الله بن الإمام أحمد مرفوعا”كأن الناس يوم القيمة لم يسمعوا القرآن من الرحمن فإذا سمعوه من الرحمن فكأنهم لم يسمعوا قبل ذلك”.
وإذا عرف هذا فأعظم الأسباب التي تحصل هذه اللذة هو أعظم لذات الدنيا على الإطلاق وهي لذة معرفته سبحانه ولذة محبته فإن ذلك هو لذة الدنيا ونعيمها العالي ونسبة لذاتها الفانية إليه كتفلة في بحر فإن الروح والقلب والبدن إنما خلق لذلك فأطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته فمحبته ومعرفته قرة العيون ولذة الأرواح وبهجة القلوب
ص -282- ونعيم الدنيا وسرورها من اللذة القاطعة عن ذلك تتقلب آلاما وعذابا ويبقى صاحبها في المعيشة الضنك فليس الحياة الطيبة إلاّ بالله وكان بعض المحبين تمر به أوقات فيقول: إن كان أهل الجنة في نعيم مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وكان غيره يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجلدونا عليه بالسيوف.
وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحب يقول في حاله:
وما الناس إلاّ العاشقون ذوو الهوى فلا خير فمن لا يحب ويعشق
ويقول آخر:
أف للدنيا متى ما لم يكن صاحب الدنيا محب أو حبيبا
ويقول الآخر:
ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها وأنت وحيد مفرد غير عاشق
ويقول الآخر:
أسكن إلى سكن تلذ بحبه ذهب الزمان وأنت منفرد
ويقول الآخر:
تشكي المحبون الصبابة ليتني تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحب كلها فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي
فيكف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الأرواح وليس للقلب لذة ولا نعيم ولا فلاح ولا حياة إلاّ بها؟ وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها والأذن إذا فقدت سمعها والأنف إذا فقد شمها واللسان إذا فقد نطقه بل فساد القلب إذا خلي من محبة فاطره وبارئه وإلهه
ص -283- الحق أعظم من فساد البدن إذا خلي منه الروح وهذا الأمر لا يصدق به الأمن فيه حياة وما لجرح ميت إيلام.
والمقصود: إن أعظم لذات الدنيا هي السبب الموصل إلى أعظم لذة في الآخرة ولذات الدنيا ثلاثة أنواع:
فأعظمها وأكملها: ما أوصل إلى لذة الآخرة ويثاب الإنسان على هذه اللذة أتم ثواب ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله من أكله وشربه ولبسه ونكاحه وشفاء غيظ لقهر عدو الله وعدوه فكيف بلذة إيمانه ومعرفته بالله ومحبته له وشوقه إلى لقائه وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم؟
النوع الثاني: لذة تمنع لذة الآخرة وتعقب آلاما أعظم منها كلذة الذين اتخذوا من دون الله أوثانا مودة بينهم في الحياة الدنيا يحبونهم كحب الله ويستمع بعضهم ببعض كما يقولون في الآخرة إذا لقوا ربهم {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إن رَبَّكَ حَكِيمٌ عليمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ولذة أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلو بغير الحق وهذه اللذات في الحقيقة إنما هي استدراج من الله لهم ليذيقهم بها أعظم الآلام ويحرمهم بها أكمل اللذات بمنزلة من قدم لغيره طعام لذيذا مسموم يستدرجه به إلى هلاكه قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إن كَيْدِي مَتِينٌ}.
قال بعض السلف في تفسيرها: كل ما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
ص -284- وقال تعالى: لأصحاب هذه اللذة {أَيَحْسَبُونَ إنما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ}.
وقال في حقهم {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} الآية
وهذه اللذة تنقلب آلاما من أعظم الآلام كما قيل:
مآرب كانت في الحياة لأهلها عذابا فصارت في المعاد عذابا
النوع الثالث: لذة لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما يمنع وصول لذة دار القرار وإن منعت كمالها وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة فهذه زمانها يسير وليس لتمتع النفس بها قدر ولا بد إن يشتغل عما هو خير وأنفع منها.
وهذا القسم هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله”كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلاّ رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق”فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حق وما لم يعن عليها فهو باطل.
فصل:
ص -285- بليت السرائر يوم اللقاء كانت سريرة صاحبها من خير سرائر العباد كما قيل:
سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبلي السرائر
وهذه المحبة هي التي تنور الوجه وتشرح الصدر وتحيي القلب وكذلك محبة كلام الله فإنه من علامة حب الله وإذا أردت إن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله فإنظر محبة القرآن من قلبك والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم فإنه من المعلوم إن من أحب حبيبا كان كلامه وحديثه أحب شيئا إليه كما قيل
إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي
أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي
وقال عثمان ابن عفان رضي الله عنه:”لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله”وكيف يشبع المحب من كلام من هو غاية مطلوبه؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يوما لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال:”أقرأ على فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: إني أحب إن أسمعه من غيري فاستفتح فقرأ سورة النساء حتى قوله {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً} قال: حسبك الآن فرفع رأسه فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان من البكاء”وكان الصحابة إذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى يقولون: يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون فلمحبي القرآن -من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور- أضعاف ما لمحبي السماع الشيطاني فإذا رأيت الرجل ذوقه وشدة وجده وطربه وشوقه سماعه الأبيات دون سماع الآيات في سماع الألحان دون سماع القرآن وهو كما قيل:
تقرأ عليك الختمة وأنت جامد كالحجر وبيت من الشعر ينشد تميل كالسكران
ص -286- فهذا أقوى الأدلة على فراغ قلبه من محبة الله وكلامه وتعلقه بمحبة سماع الشيطان والمغرور يعتقد أنه على شيء.
ففي محبة الله وكلامه ورسوله صلى الله عليه وسلم أضعاف أضعاف ما ذكر السائل من فوائد العشق ومنافعه بل لا حب على الحقيقة أنفع منه وكل حب سوى ذلك باطل إن لم يعن عليه ويسوق المحب إليه.
فصل:
وأما محبة النسوان: فلا لوم على المحب فيها بل هي من كماله وقد من الله سبحانه بهاعلى عباده فقال {وَمِنْ آيَاتِهِ إن خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إليها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إن فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الآية فجعل المرأة سكنا للرجل يسكن إليه قلبه وجعل بينهما خالص الحب وهو المودة المقترنة بالرحمة وقد قال تعالى: عقب ذكره ما أحل لنا من النساء وما حرم منهن {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ على كُمْ وَاللَّهُ عليمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ إن يَتُوبَ عليكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ إن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ إن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً}.
وذكر سفيان الثوري في تفسيره عن ابن طاوس عن أبيه: كان إذا نظر إلى النساء لم يصبر عنهن.
وفي الصحيح من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم”أنه رأى امرأة فأتى زينب فقضى حاجته منها وقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة الشيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه”ففي هذا الحديث عدة فوائد.
ص -287- منها: الإرشاد إلى التسلي عن المطلوب بجنسه كما يقوم الطعام مكان الطعام والثوب مقام الثوب.
ومنها: الأمر بمداواة الإعجاب بالمرأة المورث لشهوتها بأنفع الأدوية وهو قضاء وطره من أهله وذلك ينقض شهوته بها وهذا كما أرشد المتحابين إلى النكاح كما في سنن ابن ماجه مرفوعا”لم ير للمتحابين مثل النكاح”ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواء شرعا وقد تداوى به داود نبي الله داود صلى الله عليه وسلم ولم يرتكب نبي الله محرما وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلو مرتبته ولا يليق بنا المزيد على هذا.
وأما قصة زينب بنت جحش: فزيد كان قد عزم على طلاقها ولم توافقه وكان يستشير رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراقها وهو يأمره بإمساكها فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيفارقها ولا بد. فأخفى في نفسه إن يتزوجها إذا فارقها زيد وخشي مقالة الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج زوجة ابنه فإنه كان قد تبني زيد قبل النبوة والرب تعالى يريد إن يشرع شرعا عاما فيه مصالح عباده فلما طلقها زيد وانقضت عدتها منه أرسله إليها يخطبها لنفسه فجاء زيد واستدبر الباب بظهره وعظمت في صدره لما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداها من وراء الباب”يا زينب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك”فقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي وقامت إلى محرابها فصلت فتولي الله عز جل نكاحها من رسوله صلى الله عليه وسلم بنفسه وعقد النكاح له من فوق عرشه وجاء الوحي بذلك {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقته فدخل عليها فكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وتقول:”أنتن زوجكن
ص -288- أهاليكن وزوجني الله عز وجل من فوق سبع سموات”فهذه قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زينب.
ولا ريب إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد حبب إليه النساء كما في الصحيح من حديث أنس ورواه النسائي في سننه والطبراني في الأوسط عنه صلى الله عليه وسلم قال:”حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة”هذا لفظ الحديث لا ما يرويه بعضهم”حبب إلى من دنياكم ثلاث”زاد الإمام أحمد في كتاب الزهد في هذا الحديث”أصبر عن الطعام والشراب ولا اصبر عنهن”وقد حسده أعداء الله اليهود على ذلك وقالوا: ما همه إلاّ النكاح فرد الله سبحانه عن صلى الله عليه وسلم ونافح عنه فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ على مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} الآية.
وهذا خليل الله إبراهيم كان عنده سارة أجمل نساء العالمين وأحب هاجر وتسرى بها.
وهذا داود عليه السلام كان عنده تسعة وتسعون امرأة فأحب تلك المرأة وتزوجها فكمل المائة وهذا سليمان ابنه عليه السلام كان يطوف في الليلة على تسعين امرأة وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه فقال”عائشة رضي الله عنها وقال: عن خديجة إني رزقت حبها”.
فمحبة النساء من كمال الإنسان قال ابن عباس:”خير هذه الأمة أكثرهم نساء”وقد ذكر الإمام احمد إن عبد الله بن عمر وقع في سهمه يوم جلولاء جارية كان عنقها إبريق فضة قال عبد الله:”فما صبرت عنها إن قبلتها الكراهة ينظرون إلى”وبهذا احتج الإمام أحمد على جواز الاستمتاع من المسبية قبل الاستبراء بغير الوطء بخلاف الأمة المشتراة.
ص -289- والفرق بينهما إن انفساخ الملك في المسبية بخلاف المشتركة فقد ينفسخ فيها الملك فيكون مستمتعا بأمة غيره.
وقد شفع النبي صلى الله عليه وسلم لعاشق إن تواصله معشوقته بأن تتزوج به فأبت وذلك في قصة مغيث وبريرة فإنه رآه يمشي خلفها بعد فراقها ودموعه تجري على خديه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو راجعته”؟ فقالت: أتأمرني؟ قال: لا إنما اشفع فقالت: لا حاجة لي به فقال لعمه: يا عباس ألاّ تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغضها له عليه حبها “ولم ينكر عليه حبها إن كانت قد بانت منه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يساوي بين نسائه في القسم ويقول:”اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك”يعني في الحب. وقد قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا إن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} يعني في الحب والجماع
ولم يزل الخلفاء الراشدين الرحماء من الناس يشفعون للعشاق إلى معشوقهم الجائز وصلهن كما تقدم من فعل أبي بكر وعثمان أتي بغلام من العرب وجد في دار قوم بالليل فقال له: ما قصدك؟ قال: لست بسارق ولكني أصدقك:
والفرق بينهما إن انفساخ الملك في المسبية بخلاف المشتركة فقد ينفسخ فيها الملك فيكون مستمتعا بأمة غيره.
وقد شفع النبي صلى الله عليه وسلم لعاشق إن تواصله معشوقته بأن تتزوج به فأبت وذلك في قصة مغيث وبريرة فإنه رآه يمشي خلفها بعد فراقها ودموعه تجري على خديه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو راجعته”؟ فقالت: أتأمرني؟ قال: لا إنما اشفع فقالت: لا حاجة لي به فقال لعمه: يا عباس ألاّ تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغضها له عليه حبها “ولم ينكر عليه حبها إن كانت قد بانت منه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يساوي بين نسائه في القسم ويقول:”اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك”يعني في الحب. وقد قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا إن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} يعني في الحب والجماع
ولم يزل الخلفاء الراشدين الرحماء من الناس يشفعون للعشاق إلى معشوقهم الجائز وصلهن كما تقدم من فعل أبي بكر وعثمان أتي بغلام من العرب وجد في دار قوم بالليل فقال له: ما قصدك؟ قال: لست بسارق ولكني أصدقك:
تعلقت في دار الرياحى خودة يذل لها من حسن منظرها البدر
لها في بنات الروم حسن ومنصب ذا افتخرت بالحسن خافتها الفخر
فلما طرقت الدار من حر مهجتي بيت وفيها من توقدها الجمر
تبادرا أهل الدار بي ثم صيحوا هو اللص محتوما له القتل والأسر
فلما سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله رق له وقال للمهلب ابن رباح: اسمح له بها فقال: يا أمير المؤمنين سله من هو؟ فقال: النهاس بن عيينة فقال: خذها فهي لك.
ص -290- واشترى معاوية جارية فأعجب بها إعجابا شديدا فسمعها يوما تنشد أبياتا منها
وفارقته كالغصن يهتز في الثرى طريرا وسيما بعد ماطر شاربه
فسألها فأخبرته أنها تحب سيدها فردها إليه وفي قلبه منها.
وذكر الزمخشري في ربيعه إن زبيدة قرأت في طريق مكة على حائط:
أما في عباد الله أو في إمائه كريم يجلي الهم عن ذاهب العقل
له مقلة إما الأماقى قريحة وأما الحشا فالنار منه على رجل
فنذرت إن تحتال لقائلها إن عرفته حتى تجمع بينه وبين من يحبه فبينما هي في المزدلفة إذ سمعت من ينشد البيتين فطلبته فزعم أنه قالهما في ابنة عم له نذر أهلها إن لا يزوجوها منه فوجهت إلى الحي وما زالت تبذل لهم المال حتى زوجوها منه وإذا المرأة أعشق منه لها فكانت تعده من أعظم حسناتها فتقول. ما أنا بشيء أسر مني من جمعي بين ذلك الفتي والفتاة.
وقال الخرائطي: وكان لسليمان بن عبد الملك غلام وجارية يتحابان فكتب الغلام لها يوما:
ولقد رأيتك في المنام كأنما عاطيتنى من ماء فيك البارد
وكان كفك في يدي وكأننا بتنا جميعا في فراش واحد
فطفقت نومي كله متراقدا لأراك في نومي ولست براقد
فأجابته الجارية:
خيرا رأيت وكلما أبصرته ستناله مني برغم الحاسد
إني لأرجو إن تكون معانقي وتبيت مني فوق ثدي ناهد
وأراك بين خلاخلي ودمالجي واراك فوق ترائبى ومجاسدى
فبلغ ذلك سليمان فأنكحها الغلام وأحسن حالهما على فرط غيرته.وقال جامع ابن برخية: سألت سعيد بن المسيب مفتي المدينة: هل في حب
ص -291- دهمنا من وزر؟ فقال سعيد: إنما تلام على ما تستطيع من الأمر فقال سعيد: والله ما سألني أحد عن هذا ولو سألتني ما كنت أجيب إلاّ به.
فعشق النساء ثلاث أقسام: عشق هو قربة وطاعة وهو عشق الرجل امرأته وجاريته وهذا العشق نافع فإنه أدعي إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح: وأكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله ولهذا يحمد هذا العاشق عند الله وعند الناس.
وعشق هو مقت عند الله وبعد من رحمته وهو اضر شيء على العبد في دينه ودنياه وهو عشق المردان فما ابتلي به إلاّ من سقط من عين الله وطرد عن بابه وأبعد قلبه عنه وهو من أعظم الحجب القاطعة عن الله كما قال بعض السلف: إذا سقط العبد من عين الله ابتلاه بمحبة المردان وهذه المحبة هي التي جلبت على قوم لوط ما جلبت وما أتوا إلاّ من هذا العشق قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
ودواء هذا الداء الردى الاستعانة بمقلب القلوب وصدق اللجإ إليه والاشتغال بذكره والتعوض بحبه وقربه والتفكر بالألم الذي يعقبه هذا العشق واللذة التي تفوته به فترتب عليه فوات أعظم محبوب وحصول أعظم مكروه فإذا قدمت نفسه على هذا وآثرته فليكبر على نفسه تكبير الجنازة وليعلم إن البلاء قد أحاط به.
والقسم الثالث: العشق المباح الذي لا يملك كعشق من صورت له امرأة جميلة أو رآها فجأة من غير قصد فأورثته ذلك عشق لها ولم يحدث له ذلك العشق معصية. فهذا لا يملك ولا يعاقب عليه والأنفع له مدافعته والاشتغال بما هو انفع له منه والواجب على هذا إن يكتم ويعف ويصبر على بلواه فيثيبه الله على ذلك ويعوضه على صبره لله وعفته وترك طاعته هواه وإيثار مرضاة الله وما عنده.
ص -292- والناس في العشق ثلاثة أقسام: منهم من يعشق الجمال المطلق وقلبه يهيم في كل واد له في كل صورة مراد ومنهم من يعشق الجمال المقيد سواء طمع بوصاله أو لم يطمع ومنهم من لا يعشق إلاّ من يطمع لوصاله. وبين هذه الأنواع الثلاثة تفاوت في القوة والضعف.
فعاشق الجمال المطلق يهيم قلبه في كل واد وله في كل صورة جميله مراد فيوما بحزورى ويوم بالعقيق وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء.
وتارة ينتحي نجدا وآونة شعب العقيق وطورا قصر تيماء
فهذا عشقه أوسع ولكنه غير ثابت كثير التنقل
وعاشق الجمال المقيد اثبت على معشوقه وأدوم محبة له ومحبته أقوى من محبة الأول لاجتماعهما في واحد ويقسم الأولي ولكن يضعفها عدم الطمع في الوصال وعاشق الجمال الذي يطمع في وصاله أعقل العشاق وأعرفهم وحبه أقوى لأن الطمع يمده ويقويه.
وأما حديث”من عشق وعف”فهذا ممن يرويه سويد بن سعيد وقد أنكره حفاظ الإسلام عليه.
قال ابن عدي في كامله: هذا الحديث احد ما أنكر على سويد. وكذلك ذكره البيهقي وابن طاهر في الذخيرة والتذكرة وأبو الفرج بن الجوزي وعده من الموضوعات وأنكره أبو عبد الله الحاكم على تساهله وقال: أنا أتعجب منه.
قلت: والصواب في الحديث أنه من كلام ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه والغلط سويد في رفعه
قال محمد بن خلف بن المرزبان: حدثنا أبو بكر بن الأزرق عن سويد به فعاتبته على ذلك فأسقط ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وكان بعد ذلك يسأل عنه ولا يرفعه ولا يشبه هذا كلام النبوة
ص -293- وأما ما رواه الخطيب له عن الزهري: حدثنا المعافى بن زكريا حدثنا قطبة بن الفضل حدثنا احمد بن محمد بن مسروق حدثنا سويد حدثنا ابن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا فمن أبين الخطأ ولا يحمل هذا عن هشام عن أبيه عن عائشة مثل هذا عند من شم أدني رائحة من العلم من الحديث ونحن نشهد بالله إن عائشة ما تكلمت بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ولا حدث به عنها عروة ولا حدث به عنه هشام قط.
وأما حديث ابن الماجشون عن عبد الله بن أبي حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا فكذب على بن الماجشون فإنه لم يحدث بهذا ولم يحدث به عنه الزبير بن بكار وإنما هذا من تركيب بعض الوضاعين ويا سبحان الله! كيف يحتمل هذا الإسناد مثل هذا المتن؟ فقبح الله الواضعين.
وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي من حديث محمد بن جعفر بن سهل: حدثنا يعقوب بن عيسى عن ولد عبد الرحمن بن عوف عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مرفوعا وهذا غلط قبيح فإن محمد بن جعفر هذا هو الخرائطي ووفاته سنة سبع وعشرين وثلاث مائة فمحال إن يدرك شيخه يعقوب ابن أبي نجيح لا سيما وقد رواه في كتاب الاعتلال عن يعقوب هذا عن الزبير عن عبد الملك عن عبد العزيز عن ابن أبي نجيح والخرائطي هذا مشهور بالضعف في الرواية ذكره أبو الفرج في كتاب الضعفاء.
وكلام حفاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان وإليهم يرجع في هذا الشأن وما صححه بل ولا حسنه أحد يعول في علم الحديث عليه ويرجع في الصحيح إليه ولا من عادته التساهل والتسامح فإنه لم يصف نفسه له ويكفي إن ابن طاهر الذي يتساهل في أحاديث التصوف ويروي منها الغث والسمين والمنخنقة والموقوذة قد أنكره وحكم ببطلانه.
ص -294- نعم ابن عباس لا ينكر ذلك عنه.
وقد ذكر أبو محمد بن حزم عنه: أنه سئل عن الميت عشقا فقال: “قتيل الهوى لا عقل ولا قود”ورفع إليه بعرفات شاب قد صار كالفرخ فقال: ما شأنه؟ فقالوا: العشق فجعل عامة يومه يستعيذ من العشق.
فهذا نفس ما روي عنه ذلك.
ومما يوضح ذلك: إن النبي صلى الله عليه وسلم عد الشهداء في الصحيح فذكر المقتول في الجهاد والمبطون والحريق والنفساء يقتلها ولدها والغريق وصاحب الهدم فلم يذكر منهم العاشق يقتله العشق.
وحسب قتيل العشق إن يصح له هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما على أنه لا يدخل الجنة حتى يصبر لله ويعف لله ويكتم لله وهذا لا يكون إلاّ مع قدرته على معشوقه وإيثار محبة الله وخوفه ورضاه وهذا أحق من دخل تحت قوله تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فإن الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وتحت قوله تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم إن يجعلنا ممن آثر وابتغى حبه ورضاه.على هواه بذلك قربه ورضاه آمين.