السحر ومس الجان بحث مستفيض ( 1 )Witchcraft & touch of jinn research
فؤاد – فلسطين الاسم
السحر ومسّ الجن.. بحث مستفيض ا
إضطرابات نفسية الموضوع
أخي الكريم، أنا أحمل شهادة ماجستير في علم النفس، وأعمل كرئيس قسم الإرشاد النفسي. واجهتني حالة تشكو من التالي:
هناك شاب خاطب، وهو ملتزم يحب خطيبته جدا، وارتبط بها عن حب، وبعد 7 شهور من الخطبة بدأ يشعر أن مشاعره بدأت تفتر تجاه خطيبته، ولم يشعرها بذلك أبدا، وفجأة أثناء جلوسه مع خطيبته التي تحبه صارحته أنها لا تشعر بمشاعر الحب تجاهه، وأن مشاعرها تجاهه متقلبة.
المشكلة أن خطيبته تقنعه بأنهما معمول لهما عمل، وأن أحدهم سحر لهما وتريد إقناعه بذلك، وهو يسمع عن أحد المشايخ يعالج بالقرآن فقط، ويسأل ما رأي الشرع في ذلك؟ وهل تنصحون بأن يذهبا للمشايخ ولو على الأقل حتى تقتنع خطيبته بعدم وجود مشكلة لديهما؟ أم ماذا؟ نرجو المساعدة حول موضوع الجن ومدى إمكانية تلبسه.. وبوركتم يا منارة الإسلام وجنده.
المشكلة
أ.د. وائل أبو هندي اسم الخبير
الحل
الأخ الزميل، أعانك الله على مهنة الإرشاد النفسي.. الحقيقة أنني بحثت موضوع التلبس بالجن الذي سألت عنه منذ فترة، وتقصيت الحقيقة فيه سعيا نحو تفسير العديد من الظواهر التي يحار فيها الطيبون من أهلنا، وأنا هنا سأعطيك ملخصًا لما وصلت إليه في بحثي ذلك، وإن كنت في بداية الأمر أرى أن عدم التوافق ما بين الشاب الذي استشارك وبين خطيبته واضح، ولا أظن الأمر غريبا، فمن الممكن جدا أن يكون الأمر بهذه البساطة، وقد شعر هو بداية بعدم التوافق هذا ولم يجرؤ على مصارحتها به، وعندما أحسته هي وصارحته أصبح عليهما أن يواجها قرار فسخ الخطبة فحاولا الهروب بمثل هذه التفسيرات التي ما أنزل الله بها من سلطان، خاصة أن الخطيبين ليسا في حكم المرء وزوجه لكي يفرق بينهما السحر كما جاء في القرآن.
يشيع في المجتمعات العربية الاعتقاد بأن الجن إذا ما لمس أو تلبس الإنسان فإنه يسبب الأمراض خاصة الأمراض النفسية والعقلية أو العصبية. والحقيقة أن الأمراض كلها في قديم الزمان كانت تعزى لمثل هذه الأمور الغيبية، لكن انتصارات الطب المتوالية، واكتشاف الجراثيم ثم المضادات الحيوية التي كان اكتشافها مشتملا على طريقة عملها أدت إلى سهولة الفهم على الناس، فلم نعد نسمع بمن يتردد على الشيخ لكي يعالجه من التهاب في شعب صدره الهوائية يسبب له السعال، ولم نعد نسمع بمن يزور الشيخ ليعالجه من الشعور بالحموضة الزائدة بعد تناول الطعام أو من الإسهال أو الإمساك مثلاً إلى آخره… فقد أصبحت أسباب هذه الأمراض ومثيلاتها معروفة مشهورة لدى كل الناس، ولديهم فكرة لا بأس بها عن أسبابها وطرق علاجها، فلا تكاد اليوم تجد من يصدق أن التهاب الحلق مثلاً هو من فعل الجان!! مع أن ذلك كان هو الحادث قبل فهم هذه الأمراض ومعرفة أسبابها.
لكن الأمر ليس كذلك في حالة الأمراض النفسية والعصبية، والسبب أنه في حالة الأمراض النفسية كان التقدم الذي حدث متأخرًا بعض الشيء عن الفروع الأخرى من الطب، وتمثل أولا في اكتشاف الأدوية بالصدفة في أغلب الأحيان، ثم استنتاج أسباب المرض بعد ذلك وإجراء التجارب التي تثبتها أو تنفيها.
وأما في حالة الأمراض العصبية فإن الكثير منها رغم معرفة أسباب حدوثه الباثولوجية فإنـه لم يكتشف له علاج مناسب حتى الآن، ولا يتحسن الكثيرون من المرضى إلا قليلاً وإن كانت السنوات الأخيرة تشير بوضوح إلى قفزات علمية هائلة في هذا المجال.
المهم هنا أن التقدم البطيء في هذين الفرعين من الطب من حيث اكتشاف الأدوية والاتفاق على الأسباب المرضية إضافة إلى طبيعة أعراض الاضطرابات النفسية والعصبية، حيث تبدو غريبة في منظور عامة الناس، فالبرغم من السلامة الظاهرة في شكل جسم المريض فلا هو بالذي ترتفع حرارته ولا هو الذي يحمر جسده إلى آخره، إلا أنه يأتي بتصرفات أو يقول أقوالاً غريبة أحيانا تخالف شخصيته المألوفة أو يفقد جزء من جسده وظيفته كأن يتعطل الذراع أو القدمان أو أن المريض يرتمي مصروعا متشنجا على الأرض من تلقاء نفسه؛ أو أن البنت الصغيرة تعجز عن وقف حركات متتالية لا إرادية في ذراعيها مثلا أو تبدو كمن لا تستطيع منع جسدها من التلوي!! هذه الطبيعة المحيرة بل والموحية بعدم قدرة الإنسان على السيطرة عليها في أعراض الكثير من الأمراض النفسية والعصبية كان لها ولا شك دور في استعداد الناس لقبول تفسير غير مادي لها، ثم في عدم استعدادهم لقبول التفسير المادي إذا سمعوا عنه بطريقة أو بأخرى.
المهم أن الاعتقاد بأن الجن هم سبب منظومة الأعراض النفسية والعصبية أو أن دخولهم في جسد الإنسان يسبب هذه الأعراض لا يستند إلى أيِّ دليل في القرآن ولا في السنة المؤكدة. وإذا دخلت في نقاش مع واحد من مؤيدي ذلك الاعتقاد فإن كل ما لديهم من أدلة من القرآن هو قوله تعالى: “الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (البقرة: 275)، والشاهد هنا كما يقولون هو الذي يتخبطه الشيطان من المس فهذا دليلٌ في رأيهم على وجود المس، مع أن أي طبيب نفسي مسلم لا ينكر أن هنالك مسا، وهو عندهم دليل كذلك على أن مس الشيطان يؤدي إلى التخبط.
وهنا تكمن المشكلة فالتخبط هنا قد يكون تخبطا بالمعنى الفيزيقي أي تخبط الجسد بالأرض مثلا، فيكون المقصود أن آكل الربا لا يقوم يوم القيامة من قبره إلا كالمصاب بنوبة الصرع، وهذا تفسير ابن كثير.
وقد يكون التخبط تخبطا بالمعنى النفسي ويقصد به المعاناة والتيه، وقد لا يكون المقصود أكثر من تشبيه أراد به المولى -عز وجل- أن ينفر العباد من أكل الربا والتعامل به، وهذا رأيي المتواضع.
لكن الواضح على كل حال أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دليلاً على أن ما نقابله كأطباء نفسيين خلال ممارسة مهنتنا من حالات مرضية هو بسبب المس، خصوصا عندما يكون لدينا التفسير العلمي والعلاج؛ فكم تدمى قلوبنا عندما يقنع الشيخ الهمام أهل المريض والمريض نفسه بأن استمراره على عقار مثل عقار الكاربامازيبين مثلا سوف يمنع خروج الجن الذي يصرعه من جسده، وأنه لا بد لكي يعمل القرآن أن يوقف المريض علاجه؛ لأن الصرع مس، والدليل قوله تعالى “كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس”، ولا تكون النتيجة بالطبع إلا حدوث التشنجات بصورة متكررة قد تودي بحياة المريض، في حين يؤكد الشيخ الجهبز أن الجان يعاند ويراوغ ويساوم على الخروج!!
وأما الدليل الثاني فهو قوله تعالى: “وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ*وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ*حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ” (الزخرف: 36-38)، وأظنه واضحًـا كل الوضوح هنا أن الحديث القرآني في وادٍ وشيوخنا في وادٍ آخر؛ فالقرآن الكريم يتحدث عن موضوع غواية الشيطان لمن يتغافل عن ذكر الله -عز وجل- وليس عن أعراض نفسية أو عصبية تحدث بسبب اقتران الشيطان بالإنسان! ومن شاء فليرجع إلى أيٍّ من تفاسير القرآن.
وأما الثالث فقوله -عز وجل-: “وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ” (ص: 41)، وحسب تفسير ابن كثير فإن النُّصْب في البدن والعذاب في المال والولد، ولم يأتِ ذكر للأمراض النفسية هنا، وإن كان مشهوراً أن مرض سيدنا أيوب كان مرضا جلديًّا.. فهل كان المرض الجلديُّ أيضًـا من صنع الشيطان؟ بالطبع ليس هنالك من يقول بذلك، ثم إن النص القرآني في قصة سيدنا أيوب -عليه السلام- في موضع آخرَ كانَ “وأيوبَ إذ نادى ربه أني مَسَّـنِيَ الضُّـرُّ وأنتَ أرحم الراحمين” (الأنبياء: 83) فهنا كان المس من الضر وليس من الشيطان.