السحردراسات وبحوث وتحليل المنتدى

السحر 1

السحر: هو علم بأمر عادي (1) مؤثِّر حقيقةً، عند وقوعه، ضار غير نافع، لكن قد خفي سبب تأثيره وضرره، فلا تُدرَك كيفيةٌ لذلك بالحواس، لكن الأثر حاصل بإذن الله الكوني القَدَري، وهو: [عبارة عن عُقد ورقىً وكلام يتكلم به الساحر أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل، وما يُمرض، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرّق بين المرء وزوجه، وما يُبغّض أحدهما إلى الآخر أو يحبّب بين اثنين] (2) ، وقال ابن القيم رحمه الله: (هو مركب من تأثيرات الأرواح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
(1) المقصود بـ (عادي) : أن السحر يؤثر بعلة عادية، وليس سببًا مولِّدًا مُوجِبًا، لذا فإنه يمكن إبطال تأثيره بوجود مانع سابق، من تحصُّنٍ بذكرِ الله، أو بإبطال أثره بعد وقوعه برقية شرعية.
(2) انظر: المغني، لابن قدامة المقدسي (10/104)

الخبيثة، وانفعال القوى الطبيعية عنها) (1) . فهو: عمل مشترك بين الساحر الذي استرضى شيطاناً، وتقرب إليه بفعل محرم – من الكبائر غالباً – أو باقتراف شرك ظاهر، وذلك الشيطان الذي غايته الصد عن سبيل الله، وإيقاع الساحر ومن تبعه بالكفر، والعياذ بالله، وكلما كان الساحر أشد كفراً كان الشيطان أكثر طاعة له (2) . والسحر – ولا شك – قرين الشرك بالله، وداخل فيه من ناحيتين: الأولى: ما يكون فيه من استخدام الشياطين، بالاستعانة بهم والتقرب إليهم بما يحبونه مما هو شرك بالله العظيم. والثانية: ما فيه من دعوى علم الغيب المستقبلي، ودعوى مشاركة الله في ذلك، وهذا كفر وضلال (3) .
(والساحر، وإن لم يسمّ ذلك عبادةً للشيطان، فهو عبادة له على الحقيقة، وإن سماه استخداماً، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه) (4) .
قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [البقرة: 102] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: زاد المعاد (4/126) .
(2) انظر: الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار. وحيد بالي ص22.
(3) انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد. د. صالح الفوزان ص 83.
(4) انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم (2/259) .


وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيم، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ)) (1) .
وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. – قال سفيان (2) : وهذا أشد ما يكون من السِّحر، إذا كان كذا – فقال صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشَةُ، أَعَلِمْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآْخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلآْخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: وَمَنْ طَبَّه؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ – رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ، كَانَ مُنَافِقًا (3) – قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشاقَةٍ، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِيْ جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ”، قَالَتْ: فَأَتى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبِئْرَ حَتّى اسْتَخْرَجَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “هَذِهِ الْبِئْرُ الّتِي أُرِيتُها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري، واللفظ له، كتاب: الوصايا، باب قول الله تعالى: [النِّسَاء: 10] {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا … } ، برقم (2766) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، برقم (89) ، عنه أيضًا.
وأخرجه البخاري أيضًا بالاقتصار على اثنتين من السبع، بلفظ: “اجتنبوا الموبقات: الشرك بالله، والسحر”. قال ابن حجر في الفتح: 01/232: والنكتة في اقتصاره على اثنتين من السبع هنا الرمز إلى تأكيد أمر السحر. والموبقات: الذنوب المهلكات. اهـ.
(2) هو: ابن عيينة بن ميمون (107 – 198هـ) ، قال الذهبي رحمه الله: كان إمامًا حجة حافظًا واسع العلم كبير القدر … وقد اتفقت الأئمة على الاحتجاج بابن عيينة لحفظه وأمانته … انظر: تذكرة الحفَّاظ (1/193) .
(3) الجمع بين كون ابن الأعصم، يهوديًا ومنافقًا، أنه يهودي بالنظر إلى نفس أمره أو على أنه من حلفاء يهود، وهو منافق نظرًا إلى ظاهر أمره. كما أفاده الإمام ابن حجر رحمه اللهفي الفتح (10/237) .

وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ”. قَالَ صلى الله عليه وسلم: “فَاسْتُخْرِجَ” قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَفَلاَ – أَيْ تَنَشَّرْتَ -؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: “أَمَا وَاللهِ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
(1) متفق عليه، من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها؛ أخرجه البخاري؛ كتاب: الطب، باب: هل يُستخرَج السحر؟ برقم (5765) . ومسلم، كتاب: السلام، باب: السحر، برقم (2189) . … بيان غريب الألفاظ: … – أفتاني، أي: أجابني. … – الرجلان هما: جبريل وميكائيل. … – مطبوب، أي: مسحور. … – مُشْط: بتثليث الميم، الآلة التي يسرّح بها الشعر. … – مُشاقة – كما عند البخاري، وهو المثبت في المتن- وقال البخاري: (عن هشام: في مشط ومُشَاقة، يقال: المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مُشِط، والمُشَاقَة: من مُشَاقَةِ الكَتّان) . اهـ. انظر: البخاري برقم (5763) . … – جُفّ (جبّ) طلعة ذكر: غشاء الطلع الذي يكون فوقه، والطَّلع، ما يطلع من النخلة ثم يصير ثمرًا إن كانت أنثى، وإن كانت النخلة ذكرًا لم يصر ثمرًا، بل يؤكل طريًا، ويُترك على النخلة أيامًا معلومة حتى يصير فيه شيء أبيض مثل الدقيق، وله رائحة زكية فيلقح به الأنثى. … – رعوفة: حجر يوضع على رأس البئر لا يُستطاع قلعُه يقوم عليه المستقي، وقد يكون في أسفل البئر، يجلس عليها الذي ينظف البئر. … – وذَرْوان: أو ذِي أَرْوان، هي: بئر بالمدينة في بستان بني زُرَيق. … – نُقاعة الحِنّاء، أي: لونُ ماء البئر لونُ الماء الذي نقع فيه الحناء، يعني: في حمرة لونه. … – رؤوس الشياطين، أي: في قبح وخبث منظرها، أو الشياطين، بمعنى الحيات، إذ العرب تقوله لبعض الحيات. ويؤيده ما جاء في دلائل البيهقي: «فإذا نخلها الذي يشرب من مائها قد التوى سُعُفُه، كأنه رؤوس الشياطين» . … انظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان. لمحمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله (3/59) . … انظر: في بيان ألفاظ الرواية: فتح الباري (10/245) ، ومتن البخاري بحاشية السندي (4/20) ، ومِنَّة المُنْعِم في شرح صحيح مسلم للمباركفوري (3/449) . والمنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي (14/398) ، واللؤلؤ والمرجان، للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي (3/59) .


مسائل وأحكام مهمة تتعلق بالسحر والسحرة:
إن النصوص السابق إيرادها يمكن اعتبارها – بحقٍ – عمدة الأدلة، فيما يمكن استنباطه من فوائد وأحكام ومسائل متعلقة بالسحر وأهله، وقد لا يكون مناسبًا استيعاب تلك المسائل جميعها، في هذا المقام (1) ، لذا، سوف اقتصر على مهماتها، مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ.
الأولى: أن اليهود لما نبذوا تعاليم التوراة النافعة، ابتلاهم الله تعالى بالاشتغال بما يضرهم، فمن الحكمة الإلهية أن من ترك الحق ابتلي بالباطل (2) .
الثانية: أن تلاوة الشياطين – في قوله تعالى: [البَقَرَة: 102] {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ … } ، هي بمعنى الإخبار والتحديث كذبًا، لذلك عُدّي فعل (تتلو) بـ (على) ، أي: تكذب وتفتري وتتقوّل على سبب ملك سليمان عليه السلام، وتزعم كاذبةً أن سليمان كان يستمد سرَّ مُلْكِه من السحر الذي جعله مسيطرًا على الجن والطير والرياح، وأنه قد وطّد مُلكه بذلك، لا بوحي ورسالة، ومِنَّةٍ وعطاء بغير حساب من الله عزَّ وجلَّ. فكذَّبهم الله تعالى، بأن سليمان عليه السلام لم يكفر كما ادعت الشياطين بتعلم السحر والعمل به، بل إن الشياطين وأتباعهم اليهود – لعنهم الله وقد صدَّقوهم فيما زعموه – هم الذين كفروا؛ فالشياطين كفروا بزعمهم هذا، وبتعليم اليهود السحر، واليهود قد كفروا ابتداءً بنبذهم التوراة وراء ظهورهم وتنكّرهم لتعاليمها، وكذلك بتصديقهم لما ادعاه الشياطين في حق مُلْك سليمان، وأيضًا قد كفروا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر – لتفصيل ذلك -: الفصلَ الأول من كتابنا: (الحِذْر من السِّحْر) .
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم، للإمام ابن كثير (1/138) . وكذا تفسير السعدي (1/117) .


بتعلمهم السحر، وعملهم به، ثم إنهم كفروا بالنبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبرسالته الخاتمة، وبالكتاب الذي أنزل إليه: القرآن الكريم، وأصرّوا على استبدال السحر بالكتب المنزلة، فازدادوا كفراً إلى كفرهم، ورجساً إلى رجسهم، عليهم اللعنة إلى يوم الدين (1) .
الثالثة: أن هاروت وماروت (2) ، هما مَلَكان من الملائكة عليهم السلام (3) ، أنزلهما الله عزَّ وجلَّ ليبينا للناس بأن ما يجري على يد السحرة بما تعلموه من الشياطين إنما هو من أبواب السحر، وأنها مؤثِّرة، ومن أعظم أثرها التفريق بين المرء وزوجه، وأن السحر يدور في فلك الشر المحض والضُّر الخالص، وذلك ليحذر الناس أولئك السحرة وقد كثروا في ذلك الزمان، واستنبطوا أبوابًا غريبة من السحر، وكانوا يدّعون النبوة، ويفترون الكذب بأن ما يجري على أيديهم هو من معجزات التأييد لنبوتهم، فأنزل الله هذين الملكين، لا بالسحر، بل لبيان حقيقة السحر، وبأنه مخالف لدعوى التحدي في المعجزات، حيث تُمْكِنُ معارضته بسحر مثله، والمعجزة لا تمكن معارضتها، وهي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1) انظر: نور الإيمان في تفسير القرآن، للشيخ محمد مصطفى أبي العلاء رحمه الله ص146.
(2) هما غير منصرفين، للعَلَمية، والعُجْمة، لكونهما باللغة السريانية.
(3) ويرى الإمام القرطبي رحمه اللهأن هاروت وماروت شيطانان ساحران، ليسامن الملائكة عليهم السلام، وأن هاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . فيكون التقدير عنده: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، [على أن ما نافية، في الموضعين] ، ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا يعلمون الناس السحر. ولقد أجاب رحمه اللهعن ما يشكل من كون الاثنين قد عُبر عنهما بالجمع، ثم قال رحمه الله: وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها، ولا يلتفت إلى سواه. اهـ. انظر تفسير القرطبي: (2/50) .

تجري على يد نبي مؤيد من الله، لا على يد ساحر أفّاك (1) . فأقبل الناس إذ ذاك على تعلم ذلك منهما لكنهم فُتنوا وابتُلوا، فمنهم من اعتقد أحقية السحر لمَّا تعلمه، فعمل به، فصار كافرًا بذلك، مع أن الملكين ما فتئا يحذِّران كلَّ من رغب بالتعلّم أن في تعلم حقيقة السحر فتنة له، حيث إنه لو اعتقد أحقيته ثم عمل به، صار كافرًا، إلا أن الناس – وبخاصة اليهود – قد تجرؤوا فأقبلوا على التعلم، ثم خانوا العهد – وقد مَرَدُوا على ذلك – فعملوا بالسحر، ولم يلتزموا ما اشترطه عليهم الملكان، فكانت الفتنة واقعة بهم، فخسروا بذلك لمّا باعوا نصيبهم من نعيم الجنة، بعَرَضٍ من الدنيا قليل (2) .
الرابعة: أن ما يرويه بعض المفسرين في خبر الملكين وقصتهما، وأنهما قد فتنا بامرأة لمّا نزلا إلى الأرض، وقد رُكّبت بهما الشهوة امتحانًا لهما، كل ذلك لا أصل له، ولا حجة فيه البتة، وهو من نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل، فلا يُعوَّل عليه، ولا يُركن إليه، وقد أنكر ذلك ثقات الأئمة وعلماء الإسلام، منهم القاضي عياض، والفخر الرازي، والشهاب العراقي، والإمام ابن كثير والعلاّمة الآلوسي، رحم الله الجميع (3) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) ما سطر تحته يعتبر فرقًا بين السحر والمعجزة، كما لا يخفى، وسيأتي تفصيله في المسألة السادسة، إن شاء الله.
(2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) (1/606) . وانظر كذلك: في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب رحمه الله (1/96) .
(3) انظر: نور الإيمان في تفسير القرآن، للشيخ محمد مصطفى أبي العلا رحمه الله. ص 148. … هذا، وقد ذكر الإمام ابن حجر في الفتح (10/235) : أن أصل إنزال هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر في مسند أحمد. اهـ. … وهي في مسند أحمد (2/134) ، في مسند المكثرين، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. … وفيها: ذِكر إنزال الملكين هاروت وماروت إلى الأرض عند خلق آدم عليه السلام، واستعلام الملائكة عليهم السلام عن الحكمة في خلقه عليه السلام، وليس فيها ذكر لإنزالهما لتعليم السحر.

الخامسة: أن السحر ثابت له حقيقة، وهو مؤثر بإذن الله الكوني القَدَري، وذلك بما يخلقه الله سبحانه عند وجود السحر، فلا يكون السحر ولا الساحر مستقلاً بالتأثير، وهذا هو مذهب أهل السنة، وأن القائلين – من أهل العلم – بأنه لا حقيقة للسحر، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من خفة اليدين (الشعوذة أو الشعبذة) (1) ، هؤلاء قد نظروا إلى نوع بعينه من السحر وحسب، كما قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] ، وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنُ النَّاسِ} [الأعراف: 116] . وإن أهل السنة لا ينكرون أن يكون التخييل والمحاكاة من جملة السحر، لكن ثبت وراء ذلك أمور في السحر وتأثيره، جوّزها العقل، وورد بها السمع – أي: النصوص – فمن ذلك ما جاء من ذكر تعليم الملكين ببابل للناس السحر، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلّمونه الناس، وأن من أثره حدوث فرقة بين الزوجين بإذن الله. كما أنه يستدل على ثبوت السحر، وحقيقته، وأنه أعم من كونه تخييلاً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) نقل الإمام ابن كثير عن الفخر الرازي رحمه اللهأن الشعوذة هي نوع من أنواع السحر، ومعناها خفة اليد، بقصد التخييل للناظر، والتأثير على صحة حكم إبصاره، ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعيّن دون غيره إذا تم إظهاره بخفة بالغة، وألحق بمنظر آخر بسرعة شديدة، ويرافق ذلك كلام من المشعوذ يصرف به خواطر الناظرين إلى ما يريد، ويصرفهم عن ضد ما يريد، فتتحرك نفوس الناظرين متوهمة إلى تصديق ما يريده، فتسحر بذلك الأعين، وبخاصة لو وقف المشعبذ في موقع مضيء جدًا أو مظلم للغاية فلا تقف القوة الناظرة على أحوال ما يفعل والحالة هذه. قال تعالى: [طه: 66] {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . اهـ. – بتصرف يسير – من تفسير ابن كثير ص 130. ط – بيت الأفكار الدولية.

بقوله تعالى: {وَجَاءُوا بسحر عظيم} [الأعراف: 116] ، وبسورة “الفلق” وقد اتفق المفسرون على أن سبب نزولها هو ما كان من سحر لَبيد بن الأعصم، كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما (1) .
السادسة: في الفرق بين السحر وكلٍّ من: المعجزة، والكرامة، والطِّلَّسم.
– أما الفرق بين السحر والمعجزة، فمن وجهين؛ الأول: أن السحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد، أو أن يقوم بعضهم بمعارضة وإبطال ما قام به البعض الآخر، أما المعجزة، فإن الله تعالى لا يمكّن أحدًا أن يأتي بمثلها، أو أن يعارضها. والثاني: أن الساحر لم يدّع النبوة، لكن المعجزة من شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها (2) .
وأما الفرق بين السحر والكرامة: فالسحر يكون بأقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، وأما الكرامة فهي تقع ابتداءً من الله عزَّ وجلَّ إكرامًا لعبده الصالح، وتصديقًا للنبي الذي اقتفى ذلك العبد الصالح أثرَه وأحسنَ اتِّباعَه، فلا تظهر الكرامة إلا على رجل صالح متبع لا مبتدع، لكن السحر لا يكون إلا على يد فاسق مبتدع (3) . قال الإمام النووي رحمه الله: (وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجهين؛ أحدهما – وهو المشهور -: إجماع المسلمين على أن السحر لا يظهر إلا على فاسق، والكرامة لا تظهر على فاسق، وإنما تظهر على ولي، وبهذا جزم إمام الحرمين – أي الجويني رحمه الله – وأبو سعد المتولي وغيرهما. والثاني: أن السحر قد يكون ناشئًا بفعلٍ وبمزجٍ ومعاناة وعلاج، والكرامة لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/45) .
(2) المرجع السابق (2/47) ، وانظر كذلك صحيح مسلم بشرح النووي (14/175) .
(3) انظر: علاج المسحور، تأليف: طه سعد، وسعد علي، ص 30.

تفتقر إلى ذلك، وفي كثير من الأوقات يقع ذلك اتفاقًا من غير أن يستدعيه – الولي – أو يشعر به، والله أعلم) . اهـ (1) .
وأما الفرق بين السحر والطِّلَّسْم، فالسحر يكون بغير معين وآلة، أما الطلسم فيكون بمُعِينٍ – بزعمهم – من مزاج الأفلاك أو العناصر، أو خواص الأعداد والحروف وبعض الموجودات. لكن من حيث الحكمُ فإن الشريعة المطهرة لم تفرق بين السحر وبين الطلسمات، وحرمتهما لما فيهما من الضرر (2) .
السابعة: أن تعلم السحر واستعماله، إن كان مما يعظّم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر، فهو كفر بلا نزاع، ومن ذلك ما بيَّن حقيقته وحذر منه الملكان ببابل هاروت وماروت، كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا … } ، وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ … } ، وقوله جلّ ذكره: {وَلاَ … } ، وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء والأدوية من الأطعمة والدهانات وغيرها، فهو حرام حرمة شديدة، وهو من الكبائر بالإجماع، لقوله صلى الله عليه وسلم: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ: الشِّرْكَ بِاللهِ، وَالْسِّحْرَ … الحديث (3) . لكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر (4) .
الثامنة: أن تعلّم السحر من غير عمل به، هو أمر ضار غير نافع،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: صحيح مسلم بشرح الإمام النووي (14/176) . وانظر كذلك: فتح الباري (10/233) .
(2) انظر: مقدمة ابن خلدون ص 501.
(3) سبق ذكره بتمامه ص52، وتخريجه فيها بالهامش ذي الرقم (1) .
(4) انظر: أضواء البيان، للعلاّمة الشنقيطي رحمه الله (4/494) .


وهو شر محض لا خير فيه، ولا يجوز ذلك لقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ … } فقد صرّحت الآية الكريمة بأن السحر مما يضر ولا ينفع، كما أن تعلمه هو ذريعة – ولا شك – للعمل به، والعمل به حرام مطلقًا كما تقرر قريباً، فيمتنع تعلمه سدًا للذريعة المفضية إلى الحرام (1) .
التاسعة: في بيان حكم الساحر، هل يعتبر كافراً، فيقتل ردة؟ أم غير كافر فيقتل حداً دفعاً لشره؟ أم يقتل قصاصاً لا حداً إن تعدى بقتل نفس معصومة؟ ثم هل يستتاب الساحر، وهل تقبل توبته؟ وما حكم الساحر الذمي؟
[التحقيق في المسألة الأولى منها: أن السحر إن كان مما يُعظَّم فيه غير الله تعالى؛ كالتعبد للشياطين أو الكواكب، وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر، فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر التفريق، وهو سحر هاروت وماروت المذكور في سورة «البقرة» فإنه كفر بلا نزاع. وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها، فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر. وعلى ذلك؛ فإن كان الساحر المسلم قد استعمل السحر الذي هو كفر فلا شك في أنه يُقتل كفراً، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (2) ، وأما إن كان الساحر قد عمل السحر الذي لا يبلغ بصاحبه الكفر، فهذا هو محل الخلاف بين العلماء، فمنهم من قال يقتل مطلقاً إذا عمل بسحره، سواء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
(1) انظر: أضواء البيان للعلاّمة الشنقيطي (4/504) .
(2) أخرجه البخاري. في مواضع عدة من صحيحه، منها: كتاب: الجهاد والسِّيَرْ، باب: لا يُعذّب بعذاب الله، برقم (3016) ، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي كتاب: استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد … ، برقم (6922) ، عنه أيضاً.

قَتَل بسحره أحداً أم لم يقتل، وممن ذهب إلى ذلك: الأئمة مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين، وذهب الشافعي وابن المنذر ومن وافقهما إلى أن الساحر لا يقتل إن عمل بسحرٍ لا يبلغ به الكفر، إلا إن قتل بسحره هذا إنساناً فإنه يقتل به قصاصاً لا حداً. والأظهر في هذه المسألة: أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر، ولم يقتل إنساناً أنه لا يُقتَل، لدلالة النصوص القطعية، والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح. وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتجرؤ على دم مسلمٍ من غير دليل صحيح من كتابٍ أو سُنّةٍ مرفوعة، غير ظاهر عندي. والعلم عند الله تعالى. مع أن القول بقتله مطلقاً قوي جداً لفعل الصحابة له من غير نكير] . اهـ (1) .
إن ما ذكر آنفاً هو ما رجّحه الإمام الشنقيطي رحمه الله، مع استدراكه – في آخر كلامه كما ترى – بأن القول بقتل الساحر مطلقاً قوي جداً، مما يُشعر بأن ترجيحه فيه عنده نظر، ولعل ما حداه إلى القول بمنع قتل الساحر الذي لم يكفر بسحره، ولم يقتل بسحره أحداً، هو التورع عن قتل امرئٍ ظاهره الإسلام، فلا يستباح قتله إلا بدليل قطعي الثبوت والدلالة في ذلك (2) .
ويبقى أن جمهور العلماء على قتل الساحر مطلقاً، سواء قتل نفساً معصومة بسحره أم لا. وهو مذهب الأئمة: مالك وأبي حنيفة وأحمد في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
(1) انظر: أضواء البيان للعلاّمة الشنقيطي رحمه الله (4/497-501) .
(2) وقد صرّح الإمام – في موضع آخر – بوجوب قتل ساحر المسلمين، بقوله: وأظهر الأقوال عندنا أنه – أي ساحر أهل الذمة – لا يكون أشد حرمة من ساحر المسلمين، بل يُقتل كما يقتل ساحر المسلمين. انظر: أضواء البيان، (4/511) .

أصح الروايتين، – كما سبق – وقد رجّحه صاحب المغني (1) ، كما قد رجّحه العلاّمة ابن عثيمين رحمه الله (2) ، والحافظ أبو بكر المالكي رحمه الله (3) .
أما المرأة الساحرة: فحكمها حكم الرجل الساحر بما سبق من تفصيل، والله أعلم.
ثم هل يستتاب الساحر، وهل تقبل توبته؟
قال الإمام القرطبي رحمه الله: “ذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرًا، يُقتل ولا يُستتاب ولا تُقبل توبته، لأنه أمر يَسْتَسِرُّ به كالزنديق والزاني، ولأن الله تعالى سمّى السحر كفرًا بقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة، رحم الله الجميع. وروي قتلُ الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى الأشعري وقيس بن سعد، وعن سبعة من التابعين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ [أو: ضَرْبَةٌ] بِالسَّيْفِ (4) . خرّجه الترمذي وليس بالقوي (5) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
(1) انظر: المغني مع الشرح الكبير، لابن قدامة المقدسي (10/116) .
(2) انظر: المجموع الثمين من فتاوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (2/134) .
(3) انظر: عارضة الأحوذي، بشرح صحيح الترمذي، للإمام أبي بكر المالكي (3/195) .
(4) أخرجه الترمذي، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في حد الساحر، برقم (1460) ، عن جندب رضي الله عنه، وهو: جندب بن عبد الله بن كعب الأزدي، يقال له: جندب الخير أبو عبد الله قاتِلُ الساحر. اختُلِف في صحبته، وقال الحافظ في الإصابة: له صحبة. اهـ. انظر: الإصابة لابن حجر (1/250) ، والاستيعاب لابن عبد البر (1/343) . وقال الترمذي: بعد روايته الحديث: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي – أحد رواة الحديث – يُضعَّف من قِبَل حفظه، والصحيح عن جندب موقوفٌ، والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو – أي: قتل الساحر – قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: إنما يُقتل الساحر إذا كان يعمل من سحره ما يبلغ الكفر، فإذا عمل عملاً دون الكفر فلم ير – أي الشافعي – عليه قتلاً. اهـ.
(5) انظر: الجامع الأحكام القرآن، للقرطبي (2/47) .

وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم رحمهم الله، بعد أن ذكر أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اقتلوا كل ساحر”، قال: “ظاهره أنه يقتل من غير استتابة، وهو المشهور عن أحمد، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، لأن الصحابة لم يستتيبوهم، ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة”اهـ (1) .
وقال بعض أهل العلم: تقبل توبة الساحر، ويُعزَّر، إن لم يكن في سحره قول أو فعل يقتضي الكفر (2) .
أما ساحر أهل الذمة (الكتابي المعاهد يهوديًا كان أو نصرانيًا) ، فعند الجمهور: مالك والشافعي وأحمد: أنه لا يُقتل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتل لبيد بن الأعصم، وكان يهوديًا سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وعند أبي حنيفة: أنه يُقتل كما يُقتل الساحر المسلم (3) .
“وسئل ابن شهاب الزهري رحمه الله: أَعَلى من سَحَر من أهل العهد قتل؟ قال: بلَغنا أن النبي عليه السلام صُنع له ذلك فلم يقتل من صنعه، وكان من أهل الكتاب. اهـ (4) . أي: لَبيد بن الأعصم.
فائدة:
قال ابن بطّال – شارح البخاري رحمه الله – بعد أن ذكر قول ابن شهاب الزهري السابق، قال: [لا يُقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك، لقول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: حاشية كتاب التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن محمد ص 192.
(2) ممن قال بذلك الإمامان النووي والشنقيطي رحمهما الله، انظر قول الأول في شرح صحيح مسلم (14/176) ، والثاني في أضواء البيان (4/497) .
(3) انظر: أضواء البيان للشنقيطي (4/495) .
(4) المرجع السابق.


ابن شهاب، ولكن يعاقب، إلا أن يَقْتُل بسحره، فيُقتَل، أو يُحدِث حدثًا فيأخذ منه بقدر ذلك، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وعن مالكٍ أيضًا: أنه لا يُقتل ساحر أهل العهد إلا أن يُدخل بسحره ضررًا على مسلم لم يعاهد عليه، فإذا فعلوا ذلك، فقد نقضوا العهد، يحلّ بذلك قتلُهم. اهـ (1) .
وقد رجّح الإمام الشنقيطي رحمه الله القول بقتل ساحر أهل الذمة، وهاك قوله: وأظهر الأقوال عندنا أنه – أي ساحر أهل الذمة – لا يكون أشد حرمة من ساحر المسلمين (2) ، بل يُقتل كما يُقتل ساحر المسلمين، وأما عدم قتله صلى الله عليه وسلم لابن الأعصم، فقد بينت الروايات الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم ترك قتله اتقاء إثارة فتنة، فدل على أنه لولا ذلك لقتله. وقد ترك صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين لئلا يقول الناس: محمد يقتل أصحابه، فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام، مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق، وهو عبارة عن المنافق، والله أعلم. اهـ (3) .
العاشرة: في الرد على من أنكر جواز وقوع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم وتأثره عليه الصلاة والسلام به.
خلاصة هذه الدعوى ما ذكره الإمام ابن حجر رحمه الله في الفتح: من قول المازري رحمه الله: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث – أي: سَحَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ … – (4) ، وزعموا أنه يَحُطُّ منصب النبوة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) انظر: شرح صحيح البخاري، لابن بطّال (5/358) .
(2) المقصود بساحر المسلمين الساحر منهم الذي كفر بسحره، أو قَتَل به، لا مطلق مَنْ سَحَر، على ما تقرر من ترجيح الإمام رحمه الله.
(3) انظر: أضواء البيان للشنقيطي (4/511) .
(4) سبق تخريجه ص53 بالهامش ذي الرقم (1) .

ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز ذلك يُعْدِم الثقة بما شرعوه – أي: الأنبياء عليهم السلام – من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيّل إليه أنه يرى جبريل عليه السلام وليس هو ثَمَّ، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء. اهـ (1) .
وممن استبعد صحة هذه الروايات من أهل العلم الأستاذ سيد قطب رحمه الله بقوله: إنها تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وكل قول من أقواله سنة وشريعة، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مسحور – وهو قوله تعالى: [الإسرَاء: 47] {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا} ، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدّعونه من هذا الإفك، ومن ثَم تُستبعَد هذه الروايات، وأحاديث الآحاد – أي: التي لم تبلغ حد التواتر – لا يؤخذ بها في أمر العقيدة، والمرجع هو القرآن، والتواتر شرط في أصول الاعتقاد، وهذه الروايات ليست من المتواتر، فضلاً على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح، مما يوهن أساس الروايات الأخرى. اهـ (2) .
وقد ذكر الإمام الحافظ ابن حجر ردًا على هذه الدعوى، ينقله عن الإمام المارزي رحمه الله، أُجْمِله فيما يلي:
1- … قيام الدليل القطعي على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتح الباري (10/237) .
(2) في ظلال القرآن، لسيد قطب (6/4008) ، ط – دار الشروق.


2- … شهادة معجزاته صلى الله عليه وسلم بتصديقه، ومن الباطل تجويزُ ما قام الدليل على خلافه.
والمعنى أن الدليل القطعي الدلالة والثبوت قد قام على الصدق، وعلى العصمة، كما شهدت المعجزات بصدق النبوة، فكيف يسوغ إبطالُ جميع ذلك بادعاء أن حدوث السحر يشكك في صدق النبوة؟!
3- … أن تأثير السحر الذي حصل، كان متعلقًا ببعض أمور الدنيا التي لم يُبعَث صلى الله عليه وسلم لأجلها، مما لا يقدح في ثبوت العصمة له في أمور الدين.
4- … أن السحر قد تسلط على بصر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كاد ينكر بصره – مما يخيّل إليه من إتيان نسائه ولم يكن قد أتاهن -، مما يدل على أن السحر قد تسلّط على جسده صلى الله عليه وسلم وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده.
5- … أن أثر السحر، كان مقتصرًا على تخيّل لمبصَرٍ على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كاد أن ينكر صحة بصره من أثر هذا التخييل.
6- … أن في إجابة الله عزَّ وجلَّ نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيما دعاه به، وبما سأله من كشف ضر نزل به – وقد تحيّر صلى الله عليه وسلم في معرفة ماهيته وسببه – كل ذلك فيه دليل على صدق نبوته عليه السلام، فقد عصمه الله عزَّ وجلَّ من كيد الناس، إنسًا وجنًا، فلم يُذهِلْهُ هذا السحر ولم يُذهِب بعقله، حاش للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ولقد أدركت أختُ لَبيد بن الأعصم ذلك، فقالت: إن يكن نبيًا فسيُخبر، وإلا فسيُذهله هذا السحر حتى يُذهب عقله. قال ابن حجر رحمه الله: (فوقع الشق الأول – أي: الإخبار – كما في هذا الحديث الصحيح) .
7- … أن ذلك التخيل لفعل شيء لم يفعله صلى الله عليه وسلم كان من جنس الخاطر، يخطر ولا يثبت، فلو ثبت للزم أن يُخْرم – أي: يُتنقص – من المنزلة، لكن ليس في الخاطر يخطر تنقُّصٌ من قدر امرئٍ مهما علا قدره.
8- … أن ما أصابه صلى الله عليه وسلم كان من جنس المرض، الذي قد يعتري سائر البشر، فمَرِضَ صلى الله عليه وسلم ثم شفاه الله تعالى، ذلك أن أثر السحر كان على هيئة وجعٍ آلمه، ومرضٍ ألمَّ به، ثم شفاه الله تعالى وعافاه، كما يُعلم ذلك من مجموع روايات الحديث.
9- … أما الآية الكريمة التي احتجوا بمعارضة الحديث لها، – وهي قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا} [الإسرَاء: 47] ، فقد ذكر الإمام الشنقيطي رحمه الله أن لمعنى (مسحورًا) تأويلين عند العلماء؛ الأول: أن السحر قد خبله فاختلط عقله، والتبس عليه أمره، – وهذا منفيٌّ بالضرورة – والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم من جنس البشر، له سَحْر أي: رئة، فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو ليس ملَكًا، يريدون بالأمرين لينفروا الناس عنه. فليس في الآية إذًا – على الوجهين – دليل على منع بعض التأثيرات العَرَضية التي لا تعلق لها بالتبليغ والتشريع، كما ترى، والعلم عند الله تعالى (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: أضواء البيان للشنقيطي (4/511) .

الحادية عشر: في بيان أقسام السحر.
أَجْمَل ابن خلدون رحمه الله في مقدمته أنواع السحر بثلاثة: الأول سحر النفس الساحرة بالهمة فقط من غير آلة ولا مُعين. الثاني: سحر النفس المؤثرة بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد وهو سحر الطِّلَّسمات، وهو أضعف رتبة من الأول. والثالث: سحر النفس المؤثرة في القوى المتخيَّلة، فيعمد إلى قوى التخيّل لديه فيتصرف فيها بنوع من التصرف، وذلك بأن يلقي فيها أنواعًا من الخيالات والمحاكاة والصور مما يقصده، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه، فينظر الراؤون كأنها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك … ويسمى هذا سحر (الشعوذة) أو (الشعبذة) . اهـ (1) .
أما الفخر الرازي فقد قسم السحر تفصيلاً إلى ثمانية أقسام، أُجْمِلها فيما يلي (2) :
الأول: سحر عَبَدة الكواكب باعتقاد تأثير أرواحها في العالم.
الثاني: سحر تأثير النفوس القوية بأوهام على نفوس ضعيفة للاعتقاد بأن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسية.
الثالث: سحرٌ بالاستعانة بالأرواح الأرضية أو السُّفْلية، وهم الجن، وهو السحر المسمى بـ (العزائم والتسخير والرقى الشركية والدُّخَن المسكِّرة … ) ، وهو أقل شأنًا عندهم من الاتصال بالأرواح السماوية للكواكب، وهو النوع الأول – الذي سبق ذكره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة ابن خلدون، بتصرف ص497.
(2) انظر: تفسير الفخر الرازي (التفسير الكبير ومفاتيح الغيب) 2/224. وقد نقلها عنه الإمام ابن كثير في تفسيره ص130. ط. بيت الأفكار الدولية. وقد اقتبست ذلك، ونقلته بتصرف، بعبارة تيسر على القارئ فهم المراد، إن شاء الله تعالى.

النوع الرابع: سحر التخييل، وهو قيام المشعوذ الحاذق بإظهار عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك، والتحديق الشديد نحوه عمل شيئًا آخر بسرعة شديدة، فيبقى ذلك العمل الأخير خفيًا لاشتغال الناظرين بالأمر الأول، ولسرعته بالإتيان بالعمل الثاني، فيظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدًا، ويرافق ذلك – أي الخفة والمهارة والحذق – كلام يقوله المشعوذ يصرف به الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، وتؤثر نوعية الإضاءة وكمّها غالباً في التخييل للناظرين بما يريده المشعوذ.
أما النوع الخامس: فهو سحر الأعمال العجيبة، في ظاهرها، لكنها في حقيقتها جرّاء تركيب آلات على نسب هندسية ونحوها. وهو سحرٌ عند من لا يعرف حقيقة ذلك – وإلا فقد كشفت التقنية الحديثة ما لم يعرفه الأوائل: كتكلم ساعة بالتوقيت، ورفع أثقال هائلة بمبدأ (الهيدروليك) (1) ، وكثير نحوه، مما يعتبر حقائق فيزيائية وهندسية – لذا فإنه لا يُعَدُّ سحرًا إلا لكون سببه قد خفي عن الناظر، ومن ذلك ما يُروِّج بعضهم به لديانتهم بالتحايل بإظهار أنوار لهم في مواضع زاعمين أنهم إنما فعلوا ذلك لجمع شمل أصحابهم على دينهم.
والنوع السادس: سحر بالاستعانة بخواص بعض الأدوية والعقاقير، والدهانات، المؤثرة في بدن المسحور، وفي عقله وإرادته وميوله في المحبة والبغض، ونحو ذلك.
وقد يعمد إلى الاستفادة من خواص الأشياء، بعضُ من يدّعي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الهيدروليك: هو فرع من العلوم يُعنى بالتطبيقات العملية في الحركة للموائع (المواد غير الصلبة) ، وبخاصة منها السوائل. وذلك باستخدام الطاقة الحركية للسوائل، من أجل توليد طاقة ضغطٍ هائلة بها، ومن ثَمَّ نقلها والاستفادة منها.

حصول أحوالٍ له، كمخالطته النيران حال كونه قد ادّهن بما يمنع نفاذ حرها إلى بدنه، أو يمسك حياتٍ قد أزال خطر سمِّها، فيُلبِّس بذلك على الناظر الجاهل بحقيقة حاله، فيفتتن به.
النوع السابع: سحرٌ بتعليق قلب السامع بالادعاء أن الساحر قد عرف اسم الله الأعظم، ولذا، فإن الجن قد صاروا منقادين له لا يعصون له أمرًا (1) ، فتقع المهابة إذ ذاك في نفس السامع، فتضعف حواسه، فيتمكن الساحر من فعل ما يشاء. ولا شك بأن هذا منطبق على ضعفاء العقول من الناس، لكن من وُهِب أدنى فراسة فإنه يميز بها أهل الصلاح من غيرهم.
النوع الثامن: سحرٌ بالسعي بنميمة وتضريبٍ (تفريق) بين الناس، وتحريش بينهم، ليتباغضوا ويتنازعوا. ولا يدخل في ذلك النميمةُ بالخير للإصلاح بين الناس، ولا النميمة بين الأعداء الكفرة، للتخذيل والتفريق بينهم، فهذا أمر محمود وفيه مزيد إيقاع نكايةٍ بهم.
ومما يُلحظ فيما سبق من تقسيمات لأنواع السحر، أنها مفصَّلة، وقد نُظِر فيها تارة إلى المعنى اللغوي للسحر، وهو: ما لَطُف ودَقَّ وخَفِي سببُه، وأخرى إلى الأثر الحاصل بالسحر، كالصرف (التفريق بين المرء وزجه) ، والتِّوَلة (العطف والمحبة) ، والجنون والخمول والتخييل والمرض والنزيف، وغيرها. ولعل الأَوْلى في ذلك كلِّه أن تُجمَل هذه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومن يفعل ذلك يسمى معزِّمًا. يقول الإمام أبو بكر الجصّاص رحمه الله: “وضرر أصحاب العزائم وفتنتهم على الناس غير يسير، وذلك أنهم يدخلون على الناس من باب أن الجن إنما تطيعهم بالرقى التي هي أسماء الله تعالى، فإنهم يجيبون بذلك من شاؤوا، ويخرجون الجن لمن شاؤوا، فتصدّقهم العامة على اغترارٍ بما يُظهرون من انقياد الجن لهم بأسماء الله تعالى التي كانت تطيع بها نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام … ” انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/46) .


التقسيمات – كما أجملها ابن خلدون رحمه الله، فيما سبق- لتكون بحسب ماهية السحر، وكيفية القيام به، ووسيلة ذلك، فيكون السحر عندئذٍ على ذلك ثلاثة أقسام رئيسة:
الأول: سحر له حقيقة، تقوم به نفوس قوية مؤثرة يستعان به بما يعتقده الساحر عونًا له: من شياطين الجن، وأرواح الكواكب، وله طرق في الاستعانة والتحضير كالعزائم والإقسام، والذبح والتقرب بشرك فيه استهزاء، أو ذبح لغير الله، أو تقرُّب بارتكاب كبائر، ونحو ذلك مما يسترضي به شيطان الجن، وطرق باستحضار روحانية الكوكب، بكتابة طلّسمات، مع اعتقاده بتحكم العالم العلوي بالعالم السفلي، ونحو ذلك مما يرضي أيضًا الشياطين، فتخدمه في ضرر الخلق، والساحر يظن أن أرواح الكواكب تعلمه وترشده، وتظهر له كيفية تحكمها بمصائر الناس وحوادث الأرض.
والثاني: سحر له حقيقة أيضًا، تقوم به نفوس ساحرة أقل في القوة والتأثير مما سبقها في النوع الأول، وهي تستعين بخواص أدوية وعقاقير ودهانات ودُخَن مسكّرة، وعُقَد يُنفَث فيها، فتؤثر في بدن المسحور، وعقله، وتمييزه، وإرادته، وعواطفه، وتستعين أيضًا بأشياء من أثر المسحور يعزّم عليها بعزيمة شركية، فتدفن في أرض أو تجعل في ماء ونحوه، ولا يزول أثرها إلا إذا حُلَّت تلك العقد، أو عُثِر على المُغيَّب في الأرض أو الماء فأُتلِف، أو عُمِد إلى قراءة رقى مشروعة، فينشّر بها عن المسحور.
والثالث: سحر تخييل، أو سحر الأعين، وهو المسمى بالشعوذة، وقد يعتمد فيه المشعوذ على الخفة الفائقة، والسرعة الباهرة، والكلام المؤثر بالناظِر، دون استعانة بشيطان. فإن عُمد فيه إلى الاستعانة بشيطان – لإيقاع مزيد من التخييل على النظّار، كما يُرى في عصرنا – نحو طعن بسكين، أو بتر لإصبع، أو نشرٍ لجسد بمنشار، أو رفع في الهواء … مما لا يُشك بأنه يتم باتخاذ الساحر شيطانًا عَضُدًا، يعاونه فيما يفعل، على أن يقدم الساحر له الولاء والتعظيم والعياذ بالله تعالى، وهذا ما يسمى بـ (القمرة) ، وهو سحر على الحقيقة لا على التخييل، فإن استطاع الساحر إيقاع هذا بالتخييل فقط دون استعانة، فهو سحر تخييل على المجاز لا حقيقة له.
وبذا، أخي القارئ، يمكن إدراج أنواع السحر التي تشعّب في ذكرها بعض أهل العلم، تحت هذه الأنواع الثلاثة المذكورة آنفًا، والله أعلم.
المسألة الثانية عشر: في ذكر علامات دالة في تمييز الساحر عن غيره يمكن لمن أوتي شيئًا من الفِراسة أن يدركها، ومنها النظر إلى وجه الساحر، فيستشفّ فيه قبحًا، وذلك من أثر الكفر والعياذ بالله، أو سماع صوته، فيدرك حالاً – من نبرته ولحن قوله – أنه يوهم سامعه صلاحه، وحرصه على شفائه، ومن ذلك متابعة تصرفاته، فيميز بحصافته محاولته التلبيس على المريض بإيحاءات جسدية كتحريك اليدين، وإغماض العينين، فيعلم أنه ساحر لا خير فيه. لكن مع ذلك فإن ثمة علامات ظاهرة يمكنك التعرف من خلالها على الساحر، منها (1) :
1- … سؤاله عن اسم المريض، واسم أمه (2) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الصارم البتار، وحيد بالي ص 78 بتصرف يسير.
(2) لعل العلة في الاستفسار عن اسم الأم، أن شيطان الجن لا يُثبت نكاحًا بعقد شرعي، كما أن فيه أيضًا مخالفة لقوله تعالى: ُ £ × % (‘ غ ِ [الأحزَاب: 5] {ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} . وفي طلب الاسم أيضًا أهمية بالنسبة للساحر، حيث إنه يجمع الأرقام الموازية لأحرف الاسم، لينظر موافقتها لبرج ما، فيستلهم النفع أو دفع الضر من روحانية كواكب ذلك البرج، ولينظر من خلال اسم الشخص واسم أمه أيضًا إلى حروف مشتركة يستدل من خلال ذلك على موضع دفن السحر (والعياذ بالله) ، في أرض أم في مياه، بحسب زعمهم، قاتلهم الله.

2- … طلبه من المريض تزويده بأثر من آثاره المادية (كالمشط، والثوب، أو مُشاطة – ما يبقى في المشط من أثر الشعر عند تسريحه – أو عمامة … إلخ) (1) .
3- … طلبه أحيانًا لحيوان بصفات معينة، كسواد لونٍ مثلاً، ليذبحه بذكر اسم غير الله عليه، أو بغير ذكر اسم الله عليه، وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض، أو رمى به في مكان خَرِب (2) .
4- … كتابته للطلاسم، وهي المحتوية – كما سيأتي – على أشكال وأسهم، وحروف مقطعة، وأعداد، ورسم أبراج، وكتابة أسماء كواكب (3) .
5- … رفع الصوت بتلاوة آيات من القرآن، ثم الإسرار والتمتمة بكلام غير مفهوم، وعزائم شركية بحيث لا يسمعها المريض فيلتبس الأمر عليه (4) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وذلك لاعتقادهم بتأثير خواص الأشياء التي تماس البدن، أو تلازمه.
(2) صفة السواد تهواها الجِنَّة، لميلها عامة إلى الظلمات، وكذلك قد يعمد الساحر إلى بتر أذن حيوان أو وشمه قبل ذبحه محادة لأمر الله تعالى، ومحاولة للتغيير في الخلق، ثم لا يزكيها لينْجُسَ دمُها، ثم يلقيها في مكان مهجور لأن الأماكن الخَربِة هي مهوى استقرار الشياطين من الجن. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إنهم – أي: شياطين الجن – يوجدون كثيرًا في الخراب والفلوات، ويوجدون في مواضع النجاسات كالحمامات والحشوس والمزابل والقمامين والمقابر، والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين، وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية يأوون كثيرًا إلى هذه الأماكن التي هي مأوى الشياطين”. اهـ. انظر: الدليل والبرهان على صَرْع الجن للإنسان ص 38.
(3) وذلك – كما يزعمون – لاستنزال روحانية تلك الكواكب حال كونها في مقابلة القمر، مشرفة عليه.
(4) كي يتوهم المريض بأنه يُعالَجُ بالقرآن، وكي يسترضي الساحر أيضًا شيطانه، بخلط آيات من القرآن الكريم بتمائم وطلاسم وعزائم شركية، والعياذ بالله.


6- … إعطاء المريض ما يسمى “حجابًا”: تميمة شركية يعلّقها المريض، وتحوي مربعاتٍ بداخلها حروف وأرقام وعزائم، وكلام غير مفهوم، ويأمره بالحرص التام على عدم فك ذلك الحجاب (1) .
7- … أمره للمريض أن يعتزل الناس مدة معينة، في غرفة مظلمة لا يدخلها ضياء نور الشمس، وهو ما يسميه العامة (الحِجْبة) (2) .
8- … أحيانا يطلب من المريض ألا يمس ماءً لمدة تكون – غالباً – أربعين يومًا (3) ، أو أن يضع في عنقه صليبًا، وهذه العلامة تدل على أن شيطان الجن الذي يخدم الساحر هو نصراني. فإن كان عدوًا للنصرانية أمره أن يجعل الصليب منكسًا أو معقوفًا متكسرًا.
9- … إعطاؤه المريض أشياء يدفنها في الأرض (4) .
10- … يعطيه أحيانًا أوراقاً يحرقها ويتبخّر بها (5) .
11- … إخباره المريض أحيانًا باسمه واسم بلده ومشكلته العُضال التي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
(1) الحرص على عدم فك الحجاب، علّته: أن الساحر يكون قد وكّل شيطانًا من الجن بحراسة الحجاب، فلو فُكَّ الحجاب لفسد السحر، ولعوقب الجني من قِبَل الساحر، كذلك ليتأكد الساحر من أن ساحرًا آخر لن يبطل ما جعله من سحر في حجابه.
(2) يأمر بذلك استرضاءً للجن بالتشبه بهم في محبة المكوث في الظلمات، لأنها رمز لبغض نور الحق. قال تعالى: ُ وهـ ن م ل ك ق ف [ِ [البقرة: 257] .
(3) وذلك ليبقى المريض متنجّسًا، فتتمكن شياطين الجن من الاقتراب منه، ومسه، بل ربما تلبست به، والعياذ با عزَّ وجلَّ. أما تنكيس الصليب أو عقفه، فلإيقاع النكاية بالنصارى، وللتلبيس عليهم في آن معًا، وذلك بإيهامهم أن ديانتهم بالاعتقاد بالصلب هي صحيحة، فلا يفارقونها.
(4) وذلك لتمكين شيطان الجن من حراسة هذه الأشياء.

جاء ينشد حلاً لها (1) .
12- … قد يكتب للمريض نوعًا آخر من “الحجاب” وهو ورقة فيها حروف مقطعة، أو يكتب هذه الحروف في طبق من الخزف الأبيض، ويأمر المريض بإذابته بماء ثم شربه (2) .
13- … التحدث أحيانًا مع أشخاص غير منظورين في المجلس، فيطلب منهم السماح والإذن بالعون، ويُصرّح لهم بأن المريض ما أتى إلا وهو محب لهم موقن بقدراتهم … إلخ (3) .
14- … أحيانًا يأمر المريضَ بلبس الجديد من الملبس، كقميص ثم يأمره بشق جهة اليد اليمنى من القميص، أو نزع جيبه وجعلها على ظهره، وغير ذلك (4) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) يتوخى الساحر بذلك إيقاع المهابة في قلب المريض، واعتقاده بقدراته الباهرة، وإنما هو إخبار من شيطان الساحر عما عرفه من حال هذا المريض.
(2) وذلك كي تخالط تلك الطلاسم داخلة بدن المريض، وتجري مجرى الدم في عروقه، فيتمكن الشيطان بذلك من أن يجري بها.
(3) ويحقق الساحر بذلك مطلبين له: الأول إيهام المريض بقدرته على رؤية ما لا يراه، والثاني: استرضاء الشيطان الحاضر – والعياذ بالله – بتقديم الولاء والمحبة والإذعان له، نعوذ بالله السميع العليم مما يفعلون.
(4) وذلك بقصد التأكد من أن المريض لا يخالف لهم أمرًا، حتى لو مس ذلك شخصيته الاعتبارية بين الناس!! أو لإيقاع المريض بالاستخفاف بنعمة الله في الملبس الجديد، ومحادة لما أرشدت إليه الشريعة المطهرة، من وجوب المحافظة على النعمة، وترك التبذير لها. ومعلوم أنه يستحب لنا ترقيع الثوب، حتى وإنْ بلي إن أمكننا ذلك كما في حديث عائشة: “إن أردتِ اللحوق بي فسيكفيك من الدنيا كزاد الراكب … ولا تستخلقي ثوبًا حتى ترقعيه”. أخرجه الترمذي برقم (1780) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان، ثم ذكر قول البخاري في صالح بن حسان (الراوي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها) قال: هو منكر الحديث. انظر: علل الترمذي الكبير، ترتيب أبي طالب القاضي ص 748.
(5) وهي تحوي عزائم شركية، أو ما فيه استهزاء بشيء من الدين، والعياذ بالله.

15- … لا يستقبل الساحر أحدًا في شهر رمضان المبارك، وبخاصة منه العشر الأواخر، كذلك في العشر الأوائل من ذي الحجة (1) .
16- … من تحصَّن بالأذكار المشروعة، فإن الساحر يرفض استقباله أيضًا (2) .
17- … وضع زجاجة بلورية مكورة بين يديه، أو طَسْتٍ فيه ماء وقد نُجِّس ببول صبي مثلاً (3) ، ونحو ذلك.
هذا، وإن طرائق السحرة تكاد لا تنحصر، اللهم إنا نعوذ بك من كيد الفجار وطرائق الأشرار، وطَوَارِقِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ إِلاّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمنُ (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وذلك أن الشياطين تصفّد في رمضان، وأشد ما يكون الخزي للشيطان الرجيم في يوم عرفة.
(2) حيث لا سبيل للشيطان عليه حال التحصّن.
(3) ليتمكن شيطان الجن بالتمثل في هذه الأشياء، والظهور للساحر، فيعاينه ويتحدث معه، فلو غطى الطست مثلاً، فإن شيطانه يُحضر له ما دفن من سحر عمله ساحر آخر، فيوقعه في الماء، أو قد يقذفه من السقف على شكل ورقة ملتفة، أو قطعة قماش، أو صرة من جلد قد أُحكِم ربطُها، لكن السحر لا يزول بذلك، ولو أن المريض قصده مرارًا لأخرج له عملاً – سحرًا – في كل مرة!!
(4) هذا جزء من حديث، دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بَرٌ ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء وشر ما يَعْرُج فيها، وشر ما ذرأ في الأرض وشر ما يَخْرُج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن» . أخرجه مالك في الموطأ، مرسلاً عن يحيى بن سعيد رحمه الله، كتاب: الشِّعْر، باب: ما يؤمر به من التعوّذ برقم (10) ، وقد أخرجه أحمد موصولاً، في مسند المكيين، من حديث عبد الرحمن بن خنبش رضي الله عنه، برقم (15539) .

المسألة الثالثة عشر، وهي آخرها: في ذكر علاماتٍ يُعرف بها المسحور (1) .
1- … كثرة الصدود عن ذكر الله تعالى، والميل إلى ترك العبادات، والإعراض عن سماع كل ما له تعلُّق بالدِّين.
2- … كثرة تعرضه لأحلام مفزعة “الكوابيس”.
3- … الصداع الشديد المستديم.
4- … كثرة وقوع الشجار – لأمور غير ذات بال – بين الزوجين أو غيرهما.
5- … الغضب المشتد من غير مسوّغ ظاهر.
6- … كثرة الشرود والذهول.
7- … النسيان الشديد.
8- … تخيُّل حصول شيء، والحال أنه لم يحصل.
9- … شخوص البصر وزَوْغه.
10- … كثرة المِلال من الاستقرار في مكان واحد، أو التأفّف الكثير من الاستمرار في عمل معين.
11- … عدم الاهتمام بالمظهر، [يبدو غالبًا أشعث الرأس، بالي الثوب، متسخ الجسد، … ] .
12- … الهُيام على وجهه لا يلوي على شيء، ولا يدري أين يذهب، وربما نام في الخِرَب (الأماكن المهجورة) .
13- … تغير في لون البشرة، وبخاصة الوجه إلى السواد، وشُخوص البصر (جمودُه) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
(1) انظر: “الصارم البتار” لوحيد عبد السلام بالي ص151، و”إعجاز القرآن” لناصر المنشاوي ص46.


هذه بعض الأعراض التي تبدو جلية على المسحور، لكن ينبغي هنا تمييز بعض هذه الأعراض عن أعراض تطابقها قد تظهر على بعض من يعانون من أمراض عضوية كداء الشقيقة، أو نفسية كداء انفصام الشخصية، المتسبب في اختلال التصرف، وكثرة الوهم والقلق والأرق، أو المعاناة من عقدة النقص البسيط أو المركب، المتسبب لكثرة النقد الذي في غير محله، مما يتسبب في كثير من حالات التخاصم بين الزوجين، أو ظهور علامات جنون العظمة (داء الكِبْر) ، فالواجب في هذه الحالات جميعها أولاً المعالجة العضوية لدى أهل الاختصاص، فإن لم تُجْدِ هذه المعالجة نفعًا، عُمِد إلى العلاج النفسي، فإن أعيا الأطباء مداواتُه، عمد إذ ذاك إلى التداوي بالرقى المشروعة، عند من يرجو صلاحه، ويتوسم خيرًا به، ولا يُعمَد إليها ابتداءً، خشية أن يعتقد ضعاف النفوس أن المرض – وهو مرض عضوي يحتاج إلى العقاقير الطبية – لم يَنْتَفِ عن المريض بالرقية، فيؤثر ذلك نقصًا في إيمانهم. مع يقيننا التام بأن الرقى المشروعة تؤثر بالشفاء – بإذن الله – حتى لو كان المرض عضويًا أو نفسيًا، لكنْ قد أُمِرنا بالتداوي والأخذ بالأسباب، وهذا مما لا ينفي وقوع شفاء بمحض التوكل على الله، أو بأثر طلب الشفاء برقية مشروعة.
قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا *} [الإسرَاء: 82] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً (1) وقال صلى الله عليه وسلم:لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (2) . وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام حين سألته صلى الله عليه وسلم الأعرابُ: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: «الْهَرَمُ» (3) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) أخرجه البخاري، كتاب: الطب، باب: ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً، برقم (5678) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم، كتاب: السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوي، برقم (2204) ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3) أخرجه أبو داود بلفظه، كتاب: الطب، باب: الرجل يتداوى، برقم (3855) ، عن أسامةَ بن شَرِيكٍ رضي الله عنه. والترمذي، كتاب: الطب، باب: ما جاء في الدواء والحثِّ عليه، برقم (2038) ، عنه أيضًا. قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجَهْ، كتاب: الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم (3436) ، عنه أيضًا. وكذا أخرجه أحمد في المسند، مسند الكوفيين، من حديثه أيضًا، برقم (18645) .

الكتاب: التحصين من كيد الشياطين
المؤلف: د خالد بن عبد الرحمن بن علي الجريسي
 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى