تفسير”واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان….” من عدة تفاسير
تفسير قوله تعالى:
وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتْلُوا۟ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُوا۟ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌۭ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦ ۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشْتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍۢ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا۟ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ
(واتبعوا) عطف على نبذ (ما تتلوا) أي تلت (الشياطين على) عهد (مُلْك سليمان) من السحر وكانت دفنتْه تحت كرسيه لما نزع ملكه أو كانت تسترق السمع وتضم إليه أكاذيب وتلقيه إلى الكهنة فيدوِّنونه وفشا ذلك وشاع أن الجن تعلم الغيب فجمع سليمان الكتب ودفنها فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها فوجدوا فيها السحر فقالوا إنما ملككم بهذا فتعلموه فرفضوا كتب أنبيائهم. قال تعالى تبرئة لسليمان وردَّاً على اليهود في قولهم انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً : (وما كفر سليمان) أي لم يعمل السحر لأنه كفر (ولكنَّ) بالتشديد والتخفيف (الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) الجملة حال من ضمير كفروا (و) يعلمونهم (ما أنزل على المَلَكين) أي ألهماه من السحر وقرئ بكسر اللام الكائنين (ببابل) بلد في سواد العراق (هاروت وماروت) بدل أو عطف بيان للملكين ، قال ابن عباس : هما ساحران كانا يعلمان السحر وقيل ملكان أنزلا لتعليمه ابتلاء من الله للناس (وما يعلمان من) زائدة (أحد حتى يقولا) له نصحاً (إنما نحن فتنة) بلية من الله إلى الناس ليمتحنهم بتعليمه فمن تعلمه كفر ومن تركه فهو مؤمن (فلا تكفر) بتعلمه فإن أبى إلا التعلم علماه (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) بأن يبغض كلا إلى الآخر (وما هم) أي السحرة (بضارِّين به) بالسحر (من) زائدة (أحد إلا بإذن الله) بإرادته (ويتعلمون ما يضرهم) في الآخرة (ولا ينفعهم) وهو السحر (ولقد) لام قسم (علموا) أي اليهود (لمن) لام ابتداء معلقة لما قبلها ومن موصولة (اشتراه) اختاره أو استبدله بكتاب الله (ما له في الآخرة من خلاق) نصيب في الجنة (ولبئس ما) شيئا (شروا) باعوا (به أنفسهم) أي الشارين : أي حظها من الآخرة إن تعلموه حيث أوجب لهم النار (لو كانوا يعلمون) حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلموه
تفسير الجلالين
======================
التفسير الميسر
قال الطبري: اتبعوا بمعنى فعلوا.
ومعنى تتلوا تتقوله وتقرأه و”على ملك سليمان” على عهد ملك سليمان، قاله الزجاج، وقيل: المعنى في ملك سليمان: يعني في قصصه وصفاته وأخباره.
قال الفراء: تصلح على وفي في هذا الموضع، والأول أظهر.
وقد كانوا يظنون أن هذا هو علم سليمان وأنه يستجيزه ويقول به، فرد الله ذلك عليهم وقال: “وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا” ولم يتقدم أن أحداً نسب سليمان إلى الكفر، ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه الكفر لأن السحر يوجب ذلك، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال: “ولكن الشياطين كفروا” أي بتعليمهم.
وقوله: “يعلمون الناس السحر” في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر بعد خبر.
وقرأ ابن عامر والكوفيون سوى عاصم “ولكن الشياطين” بتخفيف لكن ورفع الشياطين، والباقون بالتشديد والنصب.
والسحر: هو ما يفعله الساحر من الحيل والتخييلات التي تحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير، وهو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله خفية، وقيل: أصله الصرف لأن السحر مصروف عن جهته، وقيل: أصله الاستمالة لأن من سحرك فقد استمالك.
وقال الجوهري: السحر الأخذة، وكل ما لطف ودق فهو سحر.
وقد سحره يسحره سحراً، والساحر: العالم، وسحره أيضاً بمعنى خدعه.
وقد اختلف هل له حقيقة أم لا؟ فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه [خداع] لا أصل له ولا حقيقة.
وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة.
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ثم شفاه الله سبحانه، والكلام في ذلك يطول.
وقوله: “وما أنزل على الملكين” أي ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين فهو معطوف على السحر، وقيل: هو معطوف على قوله: ما تتلوا الشياطين أي واتبعوا ما أنزل الله على الملكين.
وقيل: إن ما في قوله: “وما أنزل على الملكين” نافية، والواو عاطفة على قوله: وما كفر سليمان وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: “ولكن الشياطين كفروا” ذكر هذا ابن جرير وقال: فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وهاروت وماروت، فيكون منيعاً بالملكين جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم.
انتهى.
وقال القرطبي في تفسيره بعد أن حكى معنى هذا الكلام ورجح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين ما لفظه: هذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله: “ومن شر النفاثات في العقد” ثم قال: إن قيل كيف يكون اثنان بدلاً من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل؟ ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع، أو أنهما خصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن الملكين بكسر اللام، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده وظهور تكلفه تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنه لعباده على ألسن ملائكته.
وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر، فإن الله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان: “إنما نحن فتنة” قال ابن جرير: وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان وبابل قيل: هي العراق، وقيل: نهاوند، وقيل: نصيبين، وقيل: المغرب.
وهاروت وماروت اسمان أعجميان لا ينصرفان.
وقوله: “وما يعلمان من أحد حتى يقولا” قال الزجاج: تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه، قال: وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه: أنهما يعلمان على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، و”من” في قوله: “من أحد” زائدة للتوكيد، وقد قيل: إن قوله: يعلمان من الإعلام لا من التعليم، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي، وهو كثير في أشعارهم كقول كعب بن مالك: تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيداً منك كالأخذ باليد وقال القطامي: تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا وقوله: “إنما نحن فتنة” هو على ظاهره.
أي إنما نحن ابتلاء واختبار من الله لعباده، وقيل: إنه استهزاءً منهما لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله وفي قولهما: “فلا تكفر” أبلغ إنذار وأعظم تحذير: أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافراً فلا تكفر، وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد، وبين من تعلمه ليكون ساحراً ومن تعلمه ليقدر على دفعه.
وقوله: “فيتعلمون” فيه ضمير يرجع إلى قوله: “من أحد” قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال: ومثله “كن فيكون” وقيل: هو معطوف على موضع ما يعلمان، لأنه وإن كان منفياً فهو يتضمن الإيجاب.
وقال الفراء: هي مردودة على قوله: “يعلمون الناس السحر” أي يعلمون الناس فيتعلمون وقوله: “ما يفرقون به بين المرء وزوجه” في إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سبباً لذلك دليل على ان للسحر تأثيراً في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد.
وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى إن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر وبين ما هو الغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره.
وقالت طائفة أخرى: إن ذلك خرج مخرج الأغلب، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه، وقيل: ليس للسحر تأثير في نفسه أصلاً لقوله تعالى: “وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله” والحق أنه لا تنافي بين قوله: “فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه” وبين قوله: ” وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ” فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيراً في نفسه، ولكنه لا يؤثر ضرراً إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه.
وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيراً في نفسه وحقيقة ثابتة، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم، وقوله: “ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم” فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة بل هو ضرر محض وخسران بحت، واللام في قوله: “ولقد” جواب قسم محذوف، وفي قوله: “لمن اشتراه” للتأكيد ومن موصولة وهي في محل رفع على الابتداء، والخبر قوله: “ما له في الآخرة من خلاق” وقال الفراء: إنها شرطية للمجازاة.
وقال الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، ورجح أنها موصولة كما ذركنا.
والمراد بالشراء هنا الاستبدال أي من استبدل ما تتلوا الشياطين على كتاب الله.
والخلاق: النصيب عند أهل اللغة، كذا قال الزجاج.
والمراد بقوله: “ما شروا به أنفسهم” أي باعوها.
وقد أثبت لهم العلم في قوله: “ولقد علموا” ونفاه عنهم في قوله: “لو كانوا يعلمون” واختلفوا في توجيه ذلك فقال قطرب والأخفش: إن المراد بقوله: “ولقد علموا” الشياطين، والمراد بقوله: “لو كانوا يعلمون” الإنس.
وقال الزجاج: إن الأول للملكين وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم: الزيدان قاموا.
والثاني المراد به علماء اليهود، وإنما قال: “لو كانوا يعلمون” لأنهم تركوا العمل بعلمهم.
فتح القدير
======================
الدرس الحادي عشر:102 – 103 اليهود والسحر وقصة هاروت وماروت
ثم ماذا ? ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم ? ? ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه ? ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه ? ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه ? كلا . . لا شيء من هذا كله . إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة .
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان , وما كفر سليمان , ولكن الشياطين كفروا . يعلمون الناس السحر , وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . وما يعلمان من أحد حتى يقولا:إنما نحن فتنة فلا تكفر . فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه – وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله – ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق , ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون). .
لقد تركوا ما أنزل الله مصدقا لما معهم ; وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان , وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان , إذ يقولون:إنه كان ساحرا , وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه .
والقرآن ينفي عن سليمان – عليه السلام – أنه كان ساحرا , فيقول:
(وما كفر سليمان).
فكأنه يعد السحر واستخدامه كفرا ينفيه عن سليمان – عليه السلام – ويثبته للشياطين:
(ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). .
ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين:هاروت وماروت . اللذين كان مقرهما بابل:
(وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت). .
ويبدو أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما , وكان اليهود أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر ويعلمانه للناس , ويزعمان أن هذا السحر أنزل عليهما ! فنفى القرآن هذه الفرية أيضا . فرية تنزيل السحر على الملكين .
ثم يبين الحقيقة , وهي أن هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة . وأنهما كانا يقولان لكل من يجيء اليهما , طالبا منهما أن يعلماه السحر:
(وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر). .
ومرة أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه واستخدامه كفرا ; ويذكر هذا على لسان الملكين:هاروتوماروت
وقد كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما , على الرغم من تحذيره وتبصيره . وعندئذ تحق الفتنة على بعض المفتونين:
(فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه). .
وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان . .
وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية , وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله:
(وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله). .
فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشىء آثارها وتحقق نتائجها . . وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما . وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام , أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق . ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله . فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها ; كما وقع لإبراهيم – عليه السلام – وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه , ينشىء هذا الأثر بإذن الله . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها . . وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار . . كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله , فهو يعمل بهذا الإذن , ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء . .
ثم يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون , وما يفرقون به بين المرء وزوجه . . إنه شر عليهم هم أنفسهم لا خير:
(ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم). .
ويكفي أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضرا خالصا لا نفع فيه !
(ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق). .
ولقد علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة , فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة وكل نصيب . .
فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة:
(ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون). .
في ظلال القران
================
تفسير السعدي
وقال السدي : عارضت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت .
وقال محمد بن إسحاق : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم : يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا ! والله ما كان إلا ساحرا , فأنزل الله عز وجل : ” وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ” أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا .
وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان , ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان , فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه , فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان ! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان , وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال : ” واتبعوا ما تتلو الشياطين ” .
قال عطاء : ” تتلو ” تقرأ من التلاوة .
وقال ابن عباس : ” تتلو ” تتبع , كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضا .
وقال الطبري : ” اتبعوا ” بمعنى فضلوا .
قلت : لأن كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره , ومعنى ” تتلو ” يعني تلت , فهو بمعنى المضي , قال الشاعر : وإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح أي فلقد كان .
و ” ما ” مفعول ب ” اتبعوا ” أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته .
وقيل : ” ما ” نفي , وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته , قاله ابن العربي .
” على ملك سليمان ” أي على شرعه ونبوته .
قال الزجاج : قال الفراء على عهد ملك سليمان .
وقيل : المعنى في ملك سليمان , يعني في قصصه وصفاته وأخباره .
قال الفراء : تصلح على وفي , في مثل هذا الموضع .
وقال ” على ” ولم يقل بعد لقوله تعالى : ” وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ” [ الحج : 52 ] أي في تلاوته .
وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه , فلا معنى لإعادته .
والشياطين هنا قيل : هم شياطين الجن , وهو المفهوم من هذا الاسم .
وقيل : المراد شياطين الإنس المتمردون في الضلال , كقول جرير : أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ تبرئة من الله لسليمان ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر , ولكن اليهود نسبته إلى السحر , ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر . وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فأثبت كفرهم بتعليم السحر .
و ” يعلمون : في موضع نصب على الحال , ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان .
وقرأ الكوفيون سوى عاصم ” ولكن الشياطين ” بتخفيف ” لكن ” , ورفع النون من ” الشياطين ” , وكذلك في الأنفال ” ولكن الله رمى ” [ الأنفال : 17 ] ووافقهم ابن عامر .
الباقون بالتشديد والنصب .
و ” لكن ” كلمة لها معنيان : نفي الخبر الماضي , وإثبات الخبر المستقبل , وهي مبنية من ثلاث كلمات : لا , ك , إن .
” لا ” نفي , و ” الكاف ” خطاب , و ” إن ” إثبات وتحقيق , فذهبت الهمزة استثقالا , وهي تثقل وتخفف , فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة , وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة .
السحر , قيل : السحر أصله التمويه والتخاييل , وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني , فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به , كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء , وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه .
وقيل : هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته , وكذلك إذا عللته , والتسحير مثله , قال لبيد : فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر آخر : أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب عصافير وذبان ودود وأجرأ من مجلحة الذئاب وقوله تعالى : ” إنما أنت من المسحرين ” [ الشعراء : 153 ] يقال : المسحر الذي خلق ذا سحر , ويقال من المعللين , أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب .
وقيل : أصله الخفاء , فإن الساحر يفعله في خفية .
وقيل : أصله الصرف , يقال : ما سحرك عن كذا , أي ما صرفك عنه , فالسحر مصروف عن جهته .
وقيل : أصله الاستمالة , وكل من استمالك فقد سحرك .
وقيل في قوله تعالى : ” بل نحن قوم مسحورون ” [ الحجر : 15 ] أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا .
وقال الجوهري : السحر الأخذة , وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر , وقد سحره يسحره سحرا .
والساحر : العالم , وسحره أيضا بمعنى خدعه , وقد ذكرناه .
وقال ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه .
والعضه عند العرب : شدة البهت وتمويه الكذب , قال الشاعر : أعوذ بربي من النافثا ت في عضه العاضه المعضه واختلف هل له حقيقة أم لا , فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له : أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له , وعند الشافعي وسوسة وأمراض .
قال : وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب , كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون , أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر .
قلت : وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء , على ما يأتي .
ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة .
والشعوذي : البريد لخفة سيره .
قال ابن فارس في المجمل : الشعوذة ليس من كلام أهل البادية , وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر , ومنه ما يكون كلاما يحفظ , ورقى من أسماء الله تعالى .
وقد يكون من عهود الشياطين , ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك .
سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا , فقال : ( إن من البيان لسحرا ) أخرجه مالك وغيره .
وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق , فعلى هذا يكون قوله عليه السلام : ( إن من البيان لسحرا ) خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة , إذ شبهها بالسحر .
وقيل : خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان , قال جماعة من أهل العلم .
والأول أصح , والدليل عليه قوله عليه السلام : ( فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ) , وقوله : ( إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون ) .
الثرثرة : كثرة الكلام وترديده , يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار .
والمتفيهق نحوه .
قال ابن دريد .
فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع , قال : وأصله الفهق وهو الامتلاء , كأنه ملأ به فمه .
قلت : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرا ) فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه , وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب , وتصوير الباطل في صورة الحق .
وهذا بين , والحمد لله .
من السحر ما يكون كفرا من فاعله , مثل ما يدعون من تغيير صور الناس , وإخراجهم في هيئة بهيمة , وقطع مسافة شهر في ليلة , والطيران في الهواء , فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه , قاله أبو نصر عبد الرحيم القشيري .
قال أبو عمرو : من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة , فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه , ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها , فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء , يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم , ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة .
وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر , إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به .
ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة .
وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإستراباذي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له , وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به , وأنه ضرب من الخفة والشعوذة , كما قال تعالى : ” يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ” [ طه : 66 ] ولم يقل تسعى على الحقيقة , ولكن قال ” يخيل إليه ” .
وقال أيضا : ” سحروا أعين الناس ” [ الأعراف : 116 ] .
وهذا لا حجة فيه ; لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر , ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع , فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه , ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه , ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس , فدل على أن له حقيقة .
وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون : ” وجاءوا بسحر عظيم ” وسورة ” الفلق ” , مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم , وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم , الحديث .
وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر : ” إن الله شفاني ” .
والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض , فدل على أن له حقا وحقيقة , فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه .
وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع , ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق .
ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه , ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله .
وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال : علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها : ” الفرما ” فمن كذب به فهو كافر , مكذب لله ورسوله , منكر لما علم مشاهدة وعيانا .
قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد .
قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة , والجري على خيط مستدق , والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك .
ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك , ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا , ولا يكون الساحر مستقلا به , وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر , كما يخلق الشبع عند الأكل , والري عند شرب الماء .
روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل , ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه , فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب – هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي – وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم : ( يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل ) .
فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر .
قال علي بن المديني : روى عنه حارثة بن مضرب .
أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء , وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام .
فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر .
قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه .
في الفرق بين السحر والمعجزة , قال علماؤنا : السحر يوجد من الساحر وغيره , وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد .
والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها , ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة , فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها , كما تقدم في مقدمة الكتاب .
واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي , فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ; لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني ; ولأن الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله : ” وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ” وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة .
وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( حد الساحر ضربه بالسيف ) خرجه الترمذي وليس بالقوي , انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم , رواه ابن عيينة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن مرسلا , ومنهم من جعله عن جندب قال ابن المنذر : وقد روينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب .
قال ابن المنذر : وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب , وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا .
وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله , فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك , وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك .
قال ابن المنذر : وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة , وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا .
فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( حد الساحر ضربه بالسيف ) فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا , فيكون ذلك موافقا للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) .
. .
قلت : وهذا صحيح , ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف .
والله تعالى أعلم .
وقال بعض العلماء : إن قال أهل الصناعة إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار , أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير , والله تعالى أعلم .
وروي عن الشافعي : لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل , وإن قال لم أتعمده لم يقتل , وكانت فيه الدية كقتل الخطأ , وإن أضر به أدب على قدر الضرر .
قال ابن العربي : وهذا باطل من وجهين , أحدهما : إنه لم يعلم السحر , وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى , وتنسب إليه المقادير والكائنات .
الثاني : إن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال : ” وما كفر سليمان ” بقول السحر ” ولكن الشياطين كفروا ” به وبتعليمه , وهاروت وماروت يقولان : ” إنما نحن فتنة فلا تكفر ” وهذا تأكيد للبيان .
احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته ; لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق , وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا , قال مالك : فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما , والحجة لذلك قوله تعالى : ” فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ” [ غافر : 85 ] فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب , فكذلك هذان .
وأما ساحر الذمة , فقيل يقتل .
وقال مالك : لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى , ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه .
وقال ابن خويز منداد : فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك , فقال مرة : يستتاب وتوبته الإسلام .
وقال مرة : يقتل وإن أسلم .
وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب , وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم : يستتاب وتوبته الإسلام .
وقال مرة : يقتل ولا يستتاب كالمسلم .
وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر : يعاقب , إلا أن يكون قتل بسحره , أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره .
وقال غيره : يقتل ; لأنه قد نقض العهد .
ولا يرث الساحر ورثته ; لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا .
وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها : تنكل ولا تقتل .
واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور , فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري , وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري .
وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة .
قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي , ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به , فإنه يذهب عنه كل ما به , إن شاء الله تعالى , وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله .
أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن , ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم , وليس في إثباتهم مستحيل عقلي , وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم , وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه , ونص الشرع على ثبوته , قال الله تعالى : ” ولكن الشياطين كفروا ” وقال : ” ومن الشياطين من يغوصون له ” [ الأنبياء : 82 ] إلى غير ذلك من الآي , وسورة ” الجن ” تقضي بذلك , وقال عليه السلام : ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) .
وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس , وأحالوا روحين في جسد , والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم , ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم , كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم , وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء . وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ” ما ” نفي , والواو للعطف على قوله : ” وما كفر سليمان ” وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر , فنفى الله ذلك .
وفي الكلام تقديم وتأخير , التقدير وما كفر سليمان , وما أنزل على الملكين , ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت , فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله : ” ولكن الشياطين كفروا ” .
هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل , وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه , فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم , ودقة أفهامهم , وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن , قال الله تعالى : ” ومن شر النفاثات في العقد ” [ الفلق : 4 ] .
وقال الشاعر : أعوذ بربي من النافثا ت في عضه العاضه المعضه إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل , فالجواب من وجوه ثلاثة , الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع , كما قال تعالى : ” فإن كان له إخوة فلأمه السدس ” [ النساء : 11 ] ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا , على ما يأتي بيانه في ” النساء ” .
الثاني : أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون أتباعهما , كما قال تعالى : ” عليها تسعة عشر ” [ المدثر : 30 ] .
الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما , كما قال تعالى : ” فيهما فاكهة ونخل ورمان ” [ الرحمن : 68 ] وقوله : ” وجبريل وميكال ” .
وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب , فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله , كقوله تعالى : ” إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي ” [ آل عمران : 68 ] وقوله : ” وجبريل وميكال ” [ البقرة : 98 ] , وإما لطيبه كقوله : ” فاكهة ونخل ورمان ” [ الرحمن : 68 ] , وإما لأكثريته , كقوله صلى الله عليه وسلم : ( جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا ) , وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية , والله تعالى أعلم .
وقد قيل : إن ” ما ” عطف على السحر وهي مفعولة , فعلى هذا يكون ” ما ” بمعنى الذي , ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا , ولله أن يمتحن عباده بما شاء , كما امتحن بنهر طالوت , ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة , أي محنة من الله , نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت , وإن عصيتنا هلكت .
وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه : أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام – وذلك في زمن إدريس عليه السلام – عيرتهم الملائكة , فقال الله تعالى : أما إنكم لو كنتم مكانهم , وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم , فقالوا : سبحانك ! ما كان ينبغي لنا ذلك , قال : فاختاروا ملكين من خياركم , فاختاروا هاروت وماروت , فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة , فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية ” بيدخت ” وبالفارسية ” ناهيل ” وبالعربية ” الزهرة ” اختصمت إليهما , وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله , فأجاباها وشربا الخمر وألما بها , فرآهما رجل فقتلاه , وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا .
وقال سالم عن أبيه عن عبد الله : فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما .
وفي غير هذا الحديث : فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا , فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض .
قيل : بابل العراق .
وقيل : بابل نهاوند , وكان ابن عمر فيما يروى عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما , ويقول : إن سهيلا كان عشارا باليمن يظلم الناس , وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت .
قلنا : هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره , لا يصح منه شيء , فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه , وسفراؤه إلى رسله ” لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ” [ التحريم : 6 ] .
” بل عباد مكرمون .
لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ” [ الأنبياء : 26 – 27 ] .
” يسبحون الليل والنهار لا يفترون ” [ الأنبياء : 20 ] .
وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه , ويخلق فيهم الشهوات , إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم , ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء , لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح .
ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء , ففي الخبر : ( أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر ” .
وهذا معنى قول الله تعالى : ” وكل في فلك يسبحون ” [ الأنبياء : 33 ] .
فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم , ثم إن قول الملائكة : ” ما كان ينبغي لنا ” عورة : لا تقدر على فتنتنا , وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين , وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون , سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن : ” الملكين ” بكسر اللام .
قال ابن أبزى : هما داود وسليمان .
ف ” ما ” على هذا القول أيضا نافية , وضعف هذا القول ابن العربي .
وقال الحسن : هما علجان كانا ببابل ملكين , ف ” ما ” على هذا القول مفعولة غير نافية .
. بِبَابِلَ بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة , وهي قطر من الأرض , قيل : العراق وما والاه .
وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل .
وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين .
وقال قوم : هي بالمغرب .
قال ابن عطية : وهذا ضعيف .
وقال قوم : هو جبل نهاوند , فالله تعالى أعلم .
واختلف في تسميته ببابل , فقيل : سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ .
وقيل : سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل , فبلبل الله ألسنتهم بها , ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد .
والبلبلة : التفريق , قال معناه الخليل .
وقال أبو عمر بن عبد البر : من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين , فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة , إحداها اللسان العربي , وكان لا يفهم بعضهم عن بعض .
روى عبد الله بن بشر المازني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت ) .
قال علماؤنا : إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها , وتكتمك فتنتها , فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها , والجمع لها والمنع , حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى , وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته , فالدنيا أسحر منهما , تأخذ بقلبك عن الله , وعن القيام بحقوقه , وعن وعده ووعيده .
وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها , وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك , ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( حبك الشيء يعمي ويصم ) . هَارُوتَ وَمَارُوتَ لا ينصرف ” هاروت ” ; لأنه أعجمي معرفة , وكذا ” ماروت ” , ويجمع هواريت ومواريت , مثل طواغيت , ويقال : هوارتة وهوار , وموارتة وموار , ومثله جالوت وطالوت , فاعلم .
وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما ؟ خلاف .
قال الزجاج : وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أي والذي أنزل على الملكين , وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه .
قال الزجاج : وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر , ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا , ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه .
والذي أنزل عليهما هو النهي , كأنه قولا للناس : لا تعملوا كذا , ف ” يعلمان ” بمعنى يعلمان , كما قال : ” ولقد كرمنا بني آدم ” أي أكرمنا . وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ” من ” زائدة للتوكيد , والتقدير : وما يعلمان أحدا .
والضمير في ” يعلمان ” لهاروت وماروت .
وفي ” يعلمان ” قولان , أحدهما : أنه على بابه من التعليم .
الثاني : أنه من الإعلام لا من التعليم , ف ” يعلمان ” بمعنى يعلمان , وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى اعلم , ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري .
قال كعب بن مالك .
تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيدا منك كالأخذ باليد وقال القطامي : تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا وقال زهير : تعلمن ها لعمر الله ذا قسما فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك وقال آخر : تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور حَتَّى يَقُولَا نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون , ولغة هذيل وثقيف ” عتى ” بالعين المعجمة . إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها . فَلَا تَكْفُرْ قالت فرقة بتعليم السحر , وقالت فرقة باستعماله .
وحكى المهدوي أنه استهزاء ; لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله . فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون , قال ومثله ” كن فيكون ” .
وقيل : هو معطوف على موضع ” ما يعلمان ” ; لأن قوله : ” وما يعلمان ” وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم .
وقال الفراء : هي مردودة على قوله : ” يعلمون الناس السحر ” فيتعلمون , ويكون ” فيتعلمون ” متصلة بقوله ” إنما نحن فتنة ” فيأتون فيتعلمون .
قال السدي : كانا يقولان لمن جاءهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر , فإن أبى أن يرجع قالا له : ائت هذا الرماد فبل فيه , فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء , وهو الإيمان , ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر , فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه .
ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة ; لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه , فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره .
وقالت طائفة : ذلك خرج على الأغلب , ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب , بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه , ويحول بين المرء وقلبه , وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام , وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة , وقد تقدم هذا , والحمد الله . وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ” ما هم ” , إشارة إلى السحرة .
وقيل إلى اليهود , وقيل إلى الشياطين .
” بضارين به ” أي بالسحر .
” من أحد ” أي أحدا , ومن زائدة .
” إلا بإذن الله ” بإرادته وقضائه لا بأمره لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها .
وقال الزجاج : ” إلا بإذن الله ” إلا بعلم الله .
قال النحاس : وقول أبي إسحاق ” إلا بإذن الله ” إلا بعلم الله غلط ; لأنه إنما يقال في العلم أذن , وقد أذنت أذنا .
ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا . وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا .
وقيل : يضرهم في الدنيا ; لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه ; لأنه يؤدب ويزجر , ويلحقه شؤم السحر .
وباقي الآي بين لتقدم معانيها . وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ واللام في ” ولقد علموا ” لام توكيد .
” لمن اشتراه ” لام يمين , وهي للتوكيد أيضا .
وموضع ” من ” رفع بالابتداء ; لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها .
و ” من ” بمعنى الذي .
وقال الفراء .
هي للمجازاة .
وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شرط , و ” من ” بمعنى الذي , كما تقول : لقد علمت , لمن جاءك ما له عقل .
” من خلاق ” ” من ” زائدة , والتقدير ما له في الآخرة خلاق , ولا تزاد في الواجب , هذا قول البصريين .
وقال الكوفيون : تكون زائدة في الواجب , واستدلوا بقوله تعالى : ” يغفر لكم من ذنوبكم ” [ نوح : 4 ] والخلاق : النصيب , قاله مجاهد .
قال الزجاج : وكذلك هو عند أهل اللغة , إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير .
وسئل عن قوله تعالى : ” ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ” فأخبر أنهم قد علموا . وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ فأخبر أنهم لا يعلمون , فالجواب وهو قول قطرب والأخفش : أن يكون الذين يعلمون الشياطين , والذين شروا أنفسهم – أي باعوها – هم الإنس الذين لا يعلمون .
قال الزجاج وقال علي بن سليمان : الأجود عندي أن يكون ” ولقد علموا ” للملكين ; لأنهما أولى بأن يعلموا .
وقال : ” علموا ” كما يقال : الزيدان قاموا .
وقال الزجاج : الذين علموا علماء اليهود , ولكن قيل : ” لو كانوا يعلمون ” أي فدخلوا في محل من يقال له : لست بعالم ; لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر .
القرطبي
وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرؤنها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون: هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه تسخر الأنس والجن والريح التي تجري بأمره ” وما كفر سليمان ” تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به وسماه كفراً ” ولكن الشياطين ” هم الذين ” كفروا ” باستعمال السحر وتدوينه ” يعلمون الناس السحر ” يقصدون به إغواءهم وإضلالهم ” وما أنزل على الملكين ” عطف على السحر أي ويعلمونهم ما أنزل على الملكين.
وقيل: هو عطف على ما تتلو أي واتبعوا ما أنزل.
” هاروت وماروت ” عطف بيان للملكين علمان لهما والذي أنزل عليهما هو علم السحر
ابتلاء من الله للناس.
من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمناً: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه كما ابتلى قوم طالوت بالنهر ” فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ” البقرة: 249.
وقرأ الحسن على الملكين بكسر اللام على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل.
وما يعلم الملكان أحداً حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له ” إنما نحن فتنةٌ ” أي ابتلاء واختبار من الله ” فلا تكفر ” فلا تتعلم معتقداً أنه حق فتكفر ” فيتعلمون ” الضمير لما دل عليه من أحد أي فيتعلم الناس من الملكين ” ما يفرقون به بين المرء وزوجه ” أي علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز والخلاف ابتلاء منه لا أن السحر له أثر في نفسه بدليل قوله تعالى: ” وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله ” لأنه ربما أحدث الله عنده فعلاً من أفعاله وربما لم يحدث ” ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ” لأنهم يقصدون به الشر.
وفيه أن اجتنابه أصلح كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية.
ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه أي استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب الله ” ما له في الآخرة من خلاقٍ ” من نصيب ” ولبئس ما شروا به أنفسهم ” أي باعوها.
وقرأ الحسن: الشياطون.
وعن بعض العرب: بستان فلان حوله بساتون.
وقد ذكر وجهه فيما بعد.
وقرأ الزهري هاروت وماروت بالرفع على: هما هاروت وماروت.
وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ولو كانا من الهرت والمرت – وهو الكسر كما زعم بعضهم – لانصرفا.
وقرأ طلحة وما يعلمان من أعلم وقرئ بين المرء بضم الميم وكسرها مع الهمز.
والمر بالتشديد على تقدير التخفيف والوقف كقولهم: فرج وإجراء الوصل مجرى الوقف.
وقرأ الأعمش: وما هم بضاري بطرح النون والإضافة إلى أحد والفصل بينهما بالظرف فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن قلت: جعلت الجار جزءاً من المجرور.
فإن قلت: كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله: ” ولقد علموا ” على سبيل التوكيد القسمي ثم نفاه عنهم في قوله: ” لو كانوا يعلمون ” قلت: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسخلون عنه.
الكشاف
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان). فقال بعضهم: عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة, فوجدوا التوراة للقرآن موافقة, تأمر من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، بمثل الذي يأمر به القرآن. فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان.
* ذكر من قال ذلك:
1646 – حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان) – على عهد سليمان – قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء, فتقعد منها مقاعد للسمع, فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر, (1) فيأتون الكهنة فيخبرونهم, فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق, ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق, وقال: لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان, وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان, وخلف بعد ذلك خلف, تمثل الشيطان في صورة إنسان, ثم أتى نفرا من بني إسرائيل, فقال: هل أدلكم على كنـز لا تأكلونه أبدا؟ (2) قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان. وقام ناحية. (3) فقالوا له: فادن! قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم, فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها, فذلك حين يقول: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ . (4)
1647 – حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان)، قالوا: إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة, لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنـزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم. (5) فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنـزل إلينا منا! وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به, فأنـزل الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك, فدفنوه تحت مجلس سليمان – (6) وكان سليمان لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه! فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم. (7)
* * *
1648 – وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان)، قال: لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم، نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الآية، قال: اتبعوا السحر, وهم أهل الكتاب. فقرأ حتى بلغ: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان.
* ذكر من قال ذلك:
1649 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان، فاتبعته اليهود على ملكه، يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان.
1650 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام, فكتبوا أصناف السحر: ” من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا, فليفعل كذا وكذا “. حتى إذا صنعوا أصناف السحر, (8) جعلوه في كتاب ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان, وكتبوا في عنوانه: ” هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم “، ثم دفنوه تحت كرسيه. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا, فلما عثروا عليه قالوا: ما كان سليمان بن داود إلا بهذا! فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه, فليس في أحد أكثر منه في يهود. فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما نـزل عليه من الله، سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين, قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمد! (9) يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنـزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا). (10)
* * *
قال: كان حين ذهب ملك سليمان، ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، (11) فلما رجع الله إلى سليمان ملكه, قام الناس على الدين كما كانوا. وأن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان حدثان ذلك, (12) فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان, وقالوا: هذا كتاب من الله نـزل على سليمان أخفاه منا! فأخذوا به فجعلوه دينا, فأنـزل الله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل قوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان)، أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل, وتأنيب منه لهم في رفضهم تنـزيله, وهجرهم العمل به، وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله, واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان. وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى, فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (13)
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود. ولا دلالة في الآية أن الله تعالى أراد بقوله: (واتبعوا) بعضا منهم دون بعض. إذْ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا – من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين) – إلى أخلافهم بعدهم، ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول, ولا حجة تدل عليه. فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود، داخل في معنى الآية, على النحو الذي قلنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما تتلوا الشياطين)، الذي تتلو. فتأويل الكلام إذًا: واتبعوا الذي تتلو الشياطين.
* * *
واختلف في تأويل قوله: (تتلو). فقال بعضهم: يعني بقوله: (تتلو)، تحدث وتروي، وتتكلم به وتخبر. نحو ” تِلاوة ” الرجل للقرآن، وهي قراءته. ووجه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك، إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم .
* ذكر من قال ذلك:
1651 – حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو, عن مجاهد في قول الله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، قال: كانت الشياطين تسمع الوحي, فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه. فلما توفي سليمان وجدته الشياطين، فعلمته الناس، وهو السحر. (14)
1652 – حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، من الكهانة والسحر. وذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم, ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه.
1653 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عطاء: قوله: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين)، قال: نراه ما تحدث.
1654 – حدثني سَلْم بن جُنادة السُّوائي قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان, فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر, ثم دفنوها تحت كرسي سليمان, ثم أخرجوها فقرءوها على الناس. (15)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ما تتلو)، ما تتبعه وترويه وتعمل به.
* ذكر من قال ذلك:
1655 – حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي, عن أسباط, عن السدي, عن أبي مالك, عن ابن عباس: (تتلوا)، قال: تتبع. (16)
1656 – حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم, عن سفيان الثوري, عن منصور, عن أبي رزين مثله. (17)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان، باتباعهم ما تلته الشياطين.
* * *
ولقول القائل: ” هو يتلو كذا ” في كلام العرب معنيان. أحدهما: الاتباع, كما يقال: ” تلوت فلانا ” إذا مشيت خلفه وتبعت أثره, كما قال جل ثناؤه: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [ يونس: 30]، (18) يعني بذلك تتبع.
والآخر: القراءة والدراسة, كما تقول: ” فلان يتلو القرآن “, بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه, كما قال حسان بن ثابت:
نبـي يـرى مـا لا يـرى الناس حوله
ويتلـو كتـاب اللـه فـي كـل مشهد (19)
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه – بأي معنى ” التلاوة ” كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان – بخبر يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا فتكون كانت متبعته بالعمل, ودارسته بالرواية. فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك، وعملت به، وروته. (20)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : مُلْكِ سُلَيْمَانَ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (على ملك سليمان)، في ملك سليمان. وذلك أن العرب تضع ” في” موضع ” على ” و ” على ” في موضع ” في”. (21) من ذلك قول الله جل ثناؤه: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه: 71] يعني به: على جذوع النخل, وكما قالوا: ” فعلت كذا في عهد كذا، وعلى عهد كذا “، بمعنى واحد. (22) وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله:
1657 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: (على ملك سليمان)، يقول: في ملك سليمان.
* * *
1658 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن أبي إسحاق في قوله: (على ملك سليمان)، أي: في ملك سليمان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذا الكلام، من قوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، (23) ولا خبر معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان, بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان، بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟
قيل: وجه ذلك، أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود, نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى > الشياطين من ذلك، إلى سليمان بن داود. وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته, وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر. فحسنوا بذلك – من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر – أنفسهم، (24) عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه, وعند من كان لا علم له بما أنـزل الله في ذلك من التوراة. وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان – من سليمان, وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم – منهم بشر, (25) وأنكروا أن يكون كان لله رسولا وقالوا: بل كان ساحرا. فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها, وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها وأكذب الآخرين الذين كانوا يعملون بالسحر متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك، بأن سليمان كان يعمله. فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا, وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا – في عملهم بالسحر – ما تلته الشياطين في عهد سليمان, دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله، واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنـزله على موسى صلوات الله عليه.
* * *
* ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والآثار:
* * *
1659 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر, فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته. فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه, فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعمل بهذا، وهذا سحر! فأنـزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان. فقال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ الآية, فأنـزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام. (26)
1660 – حدثني أبو السائب السُّوائِي قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كان الذي أصاب سليمان بن داود، في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة, وكانت من أكرم نسائه عليه. قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم, فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به, أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه, فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي! فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي! فقالت: كذبت، لست بسليمان! قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان, ثم أخرجوها فقرءوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب! قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه, حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنـزل جل ثناؤه: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ – يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر -(وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، فأنـزل الله جل وعز وعذره. (27)
1661 – حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حُدير, عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان من كل دابة عهدا, فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد، خلي عنه. فرأى الناس السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان! فقال الله جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). (28)
1662 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن حصين بن عبد الرحمن, عن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس، إذ جاءه رجل فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال: من أيه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم! ففزع فقال: ما تقول؟ لا أبا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه! أما إني أحدثكم؛ من ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها, فإذا حدث منه صدق، (29) كذب معها سبعين كذبة. قال: فتشربها قلوب الناس. فأطلع الله عليها سليمان، فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنـزه الممنع الذي لا كنـز مثله؟ تحت الكرسي! فأخرجوه، فقالوا: هذا سحر! فتناسخها الأمم – حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق – (30) فأنـزل الله عذر سليمان: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). (31) .
1663 – حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا، والله أعلم، أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم, ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه. (32) فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب, فأتى بها فدفنها تحت كرسيه، (33) كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض الله نبيه سليمان، عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس, فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به. فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك, فقال جل ثناؤه: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا).
1664 – حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك, ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان. فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب, فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان! فقال الله جل وعز: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر).
1665 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، قال: كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء, فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها. وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه، فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس. (34)
1666 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر, عن شهر بن حوشب قال: لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت: ” من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا, ومن أراد أن يفعل كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا “. فكتبته وجعلت عنوانه: ” هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم “, ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبا فقال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نبيا, وإنما كان ساحرا, فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا! هذا سحره! بهذا تعبدنا, وبهذا قهرنا! فقال المؤمنون: بل كان نبيا مؤمنا! فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، جعل يذكر الأنبياء، حتى ذكر داود وسليمان, فقالت اليهود: انظروا إلى محمد! يخلط الحق بالباطل! يذكر سليمان مع الأنبياء, وإنما كان ساحرا يركب الريح! فأنـزل الله عذر سليمان: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ الآية. (35)
1667 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر). وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين, قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد! يزعم أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا! فأنـزل الله في ذلك من قولهم: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)،-أي باتباعهم السحر وعملهم به- وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ . (36)
* * *
قال أبو جعفر: فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وتأويل قوله: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) ما ذكرنا فبين أن في الكلام متروكا، (37) ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه, وأن معنى الكلام: واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان, وما كفر سليمان، فيعمل بالسحر، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. وقد كان قتادة يتأول قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) على ما قلنا.
1668 – حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، يقول: ما كان عن مشورته ولا عن رضا منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى تَتْلُو , (38) وتوجيه من وجه ذلك إلى أن تَتْلُو بمعنى ” تلت “، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله: وَاتَّبَعُوا ، وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول, (39) فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
وأما معنى قوله: مَا تَتْلُو ، فإنه بمعنى: الذي تتلو، وهو السحر. (40)
1669 – حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، أي السحر. (41)
* * *
قال أبو جعفر: ولعل قائلا أن يقول: أو ما كان السحر إلا أيام سليمان؟
قيل له: بلى، قد كان ذلك قبل ذلك, وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم, وقد كانوا قبل سليمان, وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر.
[فإن] قال: فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ قيل: لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان، على ما قد قدمنا البيان عنه, فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه، مما كانوا وجدوه، إما في خزائنه، وإما تحت كرسيه, على ما جاءت به الآثار التي قد ذكرناها من ذلك. فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته، فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب، وإن كانت الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل ” ما ” التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين). فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى ” لم “.
* ذكر من قال ذلك:
1670 – حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فإنه يقول: لم ينـزل الله السحر.
1671 – حدثنا ابن حميد قال، حدثني حكام، عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس: (وما أنـزل على الملكين)، قال: ما أنـزل الله عليهما السحر.
* * *
فتأويل الآية – على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله: (وما أنـزل على الملكين) إلى: ولم ينـزل على الملكين-: واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر, وما كفر سليمان، ولا أنـزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ” ببابل هاروت وماروت “. فيكون حينئذ قوله: “(ببابل هاروت وماروت)، من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف – وجه تقديم ذلك؟
قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [من السحر]، وما أنـزل [الله السحر] على الملكين, ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت – فيكون معنيا بـ ” الملكين “: جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود، فيما ذكر، كانت تزعم أن الله أنـزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبها الله بذلك، وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينـزلا بسحر قط, وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر, فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين, وأنها تعلم الناس [ذلك] ببابل, وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان: (42) اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون ” هاروت وماروت “، على هذا التأويل، ترجمة على النَّاسَ وردا عليهم. (43)
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ” ما ” التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين) -” الذي”.
* ذكر من قال ذلك:
1672 – حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر, قال قتادة والزهري عن عبد الله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم. قال: فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها, (44) ثم ذهبا يصعدان, فحيل بينهما وبين ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر، قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر, فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ .
1673 – حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا. يقول: خاصموه بما أنـزل على الملكين، وأن كلام الملائكة فيما بينهم، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به، كان سحرا. (45)
1674 – حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت). فالسحر سحران: سحر تعلمه الشياطين, وسحر يعلمه هاروت وماروت.
1675 – حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، قال: التفريق بين المرء وزوجه.
1676 – حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين)، فقرأ حتى بلغ: فَلا تَكْفُرْ ، قال: الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر.
* * *
قال أبو جعفر : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه: واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنـزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت. وهما ملكان من ملائكة الله, سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى.
* * *
قال أبو جعفر (46) إن قال لنا قائل: وهل يجوز أن ينـزل الله السحر, أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟
قلنا له: إن الله عز وجل قد أنـزل الخير والشر كله, وبين جميع ذلك لعباده, فأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم. وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها، ونهاهم عن ركوبها. فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها.
(47) وليس في العلم بالسحر إثم, كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب. وإنما الإثم في عمله وتسويته . وكذلك لا إثم في العلم بالسحر, وإنما الإثم في العمل به، وأن يضر به، من لا يحل ضره به.
(48) فليس في إنـزال الله إياه على الملكين، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس، إثم، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك، بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة، وينهياه عن السحر والعمل به والكفر. وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به, إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به. (49) ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك, لم يكن من تعلمه حرجا, كما لم يكونا حرجين لعلمهما به. (50) إذ كان علمهما بذلك عن تنـزيل الله إليهما. (51)
* * *
وقال آخرون: معنى ” ما ” معنى ” الذي”, وهي عطف على ” ما ” الأولى. غير أن الأولى في معنى السحر، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه.
فتأويل الآية على هذا القول: واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان, والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
* ذكر من قال ذلك:
1677 – حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك قول الله جل ثناؤه: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا . وكان يقول: أما السحر، فإنما يعلمه الشياطين, وأما الذي يعلم الملكان، فالتفريق بين المرء وزوجه, كما قال الله تعالى.
* * *
وقال آخرون: جائز أن تكون ” ما ” بمعنى ” الذي”, وجائز أن تكون ” ما ” بمعنى ” لم “.
* ذكر من قال ذلك:
1678 – حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث بن سعد, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد – وسأله رجل عن قول الله: (يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنـزل عليهما, أم يعلمان الناس ما لم ينـزل عليهما؟ قال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت.
*
1679 – حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أنس بن عياض, عن بعض أصحابه, أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره: (وما أنـزل على الملكين)، فقيل له: أنـزل أو لم ينـزل؟ فقال: لا أبالي أي ذلك كان, إلا أني آمنت به. (52) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قول من وجه ” ما ” التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين) إلى معنى ” الذي”، دون معنى ” ما ” التي هي بمعنى الجحد. وإنما اخترت ذلك، من أجل أن ” ما ” إن وجهت إلى معنى الجحد, تنفي عن ” الملكين ” أن يكونا منـزلا إليهما، (53) ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما – أعني” هاروت وماروت ” – من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما (54) أو بدلا من النَّاسَ في قوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، وترجمة عنهما. (55) فإن جعلا بدلا من ” الملكين ” وترجمة عنهما، بطل معنى قوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ . لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه, فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟ (56)
وبعد, فإن ” ما ” التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين)، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، عن سليمان أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه. فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه – وهاروت وماروت هما الملكان – فمن المتعلَّم منه إذًا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين.
وإن كان قوله ” هاروت وماروت ” ترجمة عن ” الناس ” الذين في قوله: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر, وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما. فإن يكن ذلك كذلك, فلن يخلو ” هاروت وماروت ” – عند قائل هذه المقالة – من أحد أمرين:
إما أن يكونا ملكين, فإن كانا عنده ملكين، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس, وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه – أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب. وفي خبر الله عز وجل عنهما – أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ – ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول.
أو أن يكونا رجلين من بني آدم. فإن يكن ذلك كذلك، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل – من بني آدم. (57) لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم, فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما. وفي وجود السحر في كل زمان ووقت، أبين الدلالة على فساد هذا القول. وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم, لم يعدما من الأرض منذ خلقت, ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس، فيدعي ما لا يخفى بُطوله. (58)
* * *
فإذْ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها, فبَيِّنٌ أن معنى (ما) التي في قوله: (وما أنـزل على الملكين) بمعنى ” الذي”, وأن ” هاروت وماروت “، مترجم بهما عن الملكين، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما, لأنهما في موضع خفض على الرد على ” الملكين “. ولكنهما لما كانا لا يجران، فتحت أواخر أسمائهما.
* * *
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنـزال ذلك على الملائكة؟
قيل له: إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه, ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك, لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم. فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه, فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنـزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم – كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ – ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر, فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما, ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما. ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك – لله مطيعين, إذْ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان. وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله, فلم يكن ذلك لهم ضائرا، إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به, بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه. (59) فكذلك الملكان، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعظتهما له بقولهما: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ، إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك، كما:-
1680 – حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن عوف, عن الحسن في قوله: (وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) إلى قوله: فَلا تَكْفُرْ ، أخذ عليهما ذلك.
* * *
ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين, ومن قال إن هاروت وماروت هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله: (ببابل):
* * *
1681 – حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة قال: حدثنا أبو شعبة العدوي في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب, عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم, فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك, وأسجدت له ملائكتك, وعلمته أسماء كل شيء, يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض, وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا, ولا يزنيا, ولا يشربا الخمر, ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها ” بيذخت ” فلما أبصراها أرادا بها زنا, فقالت: لا إلا أن تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقع من الشر, أفرج الله السماء لملائكته, فقالوا: سبحانك! كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة, فاختارا عذاب الدنيا, فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل. (60)
1682 – حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حجاج, عن علي بن زيد, عن أبي عثمان النهدي, عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا لما كثر بنو آدم وعصوا, دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال: ربنا ألا تهلكهم! (61) فأوحى الله إلى الملائكة: إني لو أنـزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونـزلتم لفعلتم أيضا! (62) قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت, فأهبطا إلى الأرض، وأنـزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس, وكان أهل فارس يسمونها ” بيذخت “. قال: فوقعا بالخطيئة, فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا. (63) رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا . فلما وقعا بالخطيئة، استغفروا لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. (64)
1683 – حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد, عن خالد الحذاء, عن عمير بن سعيد قال، سمعت عليا يقول: كانت الزُّهَرَة امرأة جميلة من أهل فارس, وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها, فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تُكُلِّم به يعرج به إلى السماء. فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكبا. (65)
1685 – حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار, عن موسى بن عقبة قال، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار أنه حدث: أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي, فقال الله لهم: إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب، فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت, فقال الله لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس, وليس بيني وبينكما رسول, انـزلا إلى الأرض, ولا تشركا بي شيئا, ولا تزنيا. فقال كعب: والذي نفس كعب بيده، ما استكملا يومهما الذي نـزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما. (67)
1686 – حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أنه كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم, فقيل لهما: إني أعطيت ابن آدم عشرا من الشهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربنا، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نـزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انـزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس. فنـزلا ببابل دنباوند, فكانا يحكمان, حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها, فأعجبهما حسنها – واسمها بالعربية،” الزُّهَرة “, وبالنبطية ” بيذخت “, واسمها بالفارسية ” أناهيذ ” – فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني! فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال: الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم, ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها, فقالت: لا حتى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها. ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها, فأتياها لذلك. فلما أراد الذي يواقعها, قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنـزلان منها؟ فأخبراها، فتكلمت فصعدت. فأنساها الله ما تنـزل به فبقيت مكانها, (68) وجعلها الله كوكبا – فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت! – فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا، فعرفا الهلك, (69) فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة, فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة, فعلقا ببابل، فجعلا يكلمان الناس كلامهما، وهو السحر.
1687 – حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: لما وقع الناس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله, قالت الملائكة في السماء: أي رب، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك, وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام. والسرقة والزنا وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب. (70) فلم يعذروهم, فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت, فأهبطا إلى الأرض, وجعل بهما شهوات بني آدم, (71) وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا, ونهيا عن قتل النفس الحرام, وأكل المال الحرام, والسرقة، والزنا، وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق – وذلك في زمان إدريس. وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكوكب، وأنها أتت عليهما، (72) فخضعا لها بالقول, وأراداها على نفسها, وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها, وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه, فأخرجت لهما صنما وقالت: هذا أعبد. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله, (73) ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم, قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثلاث: إما أن تعبدا الصنم, أو تقتلا النفس, أو تشربا الخمر. فقالا كل هذا لا ينبغي, وأهون الثلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر, حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها. فمر بهما إنسان، وهما في ذلك, فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه. فلما أن ذهب عنهما السكر، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة، وأرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا, فحيل بينهما وبين ذلك, وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب, فعجبوا كل العجب, وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية (74) فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض – وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة, قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدنيا, فجعلا ببابل, فهما يعذبان. (75)
1688 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرج بن فضالة, عن معاوية بن صالح, عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر, فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرتين أو ثلاثا- (76) ثم قلت: قد طلعت! قال: لا مرحبا ولا أهلا! قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (77) وقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الملائكة قالت: يا رب، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال: فاختاروا ملكين منكم! قال: فلم يألوا أن يختاروا, فاختاروا هاروت وماروت. (78)
1689 – حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأما شأن هاروت وماروت, فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات. فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنـزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما حين أنـزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم, وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء, (79) وأنتما ليس بيني وبينكما رسول, فافعلا كذا وكذا, ودعا كذا وكذا. فأمرهما بأمر ونهاهما. (80) ثم نـزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما. فحكما فعدلا. فكانا يحكمان النهار بين بني آدم, فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة, وينـزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنـزلت عليهما الزهرة – في أحسن صورة امرأة – تخاصم, فقضيا عليها. فلما قامت، وجد كل واحد منهما في نفسه, فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم. فبعثا إليها: أن ائتينا نقض لك. فلما رجعت، قالا لها -وقضيا لها- : ائتينا! فأتتهما, (81) فكشفا لها عن عورتهما، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها. فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا, طارت الزهرة فرجعت حيث كانت. فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما، (82) ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم, فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما فاستجيب له, فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد، ومع الدنيا سبع مرات مثلها. (83) فأمرا أن ينـزلا ببابل, فثم عذابهما. وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان، يصفقان بأجنحتهما. (84)
* * *
قال أبو جعفر: وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ: (وما أنـزل على الملكين)، يعني به رجلين من بني آدم. وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال، (85) فأما من جهة النقل، فإجماع الحجة – على خطأ القراءة بها – من الصحابة والتابعين وقراء الأمصار. وكفى بذلك شاهدا على خطئها.
* * *
وأمأ قوله (ببابل)، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التأويل فيها. فقال بعضهم: إنها ” بابل دُنْبَاوَنْد “.
1690 – حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي. (86)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك ” بابل العراق “.
* ذكر من قال ذلك:
1691 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة – في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة, فذكرت أنها صارت في العراق ببابل, فأتت بها هاروت وماروت، فتعلمت منهما السحر. (87)
قال أبو جعفر: واختلف في معنى السحر, فقال بعضهم: هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر, حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء, ويرى الشيء من بعيد فيثبته. بخلاف ما هو على حقيقته. وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه. قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته: يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته، كالذي:-
1692 – حدثني أحمد بن الوليد وسفيان بن وكيع، قالا حدثنا يحيى بن سعيد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله. (88)
1693 – حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن هشام بن عروة، عن أبيه, عن عائشة قالت، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم, حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله. (89)
1694 – حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس, عن ابن شهاب قال: كان عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب يحدثان: أن يهود بني زريق عقدوا عُقَدَ سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعلوها في بئر حزم، حتى كان رسول الله ينكر بصره، ودله الله على ما صنعوا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم التي فيها العُقَد فانتزعها. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سحرتني يهود بني زريق. (90)
* * *
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته, واستسخار شيء من خلق الله – إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم – أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا. وقالوا: لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات, لم يكن بين الحق والباطل فصل, (91) ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها. قالوا: وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون بقوله: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [سورة طه: 66]، وفي خبر عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذْ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله, أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره, ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان وصحة ما قلنا. (92)
* * *
وقال آخرون: قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا, وأن يسحر الإنسان والحمار، وينشئ أعيانا وأجساما، واعتلوا في ذلك بما:-
1695 – حدثنا به الربيع بن سليمان قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن أبي الزناد قال، حدثني هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل, جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك, (93) تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي, فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها, (94) كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني, فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها, فقالت: إن فعلتِ ما آمرك به، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين, فركبت أحدهما وركبت الآخر, فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل, (95) فإذا برجلين معلقين بأرجلهما, فقالا ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي. فأبيت وقلت: لا قالا فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. (96) فذهبت ففزعت فلم أفعل, فرجعت إليهما, فقالا أفعلت؟ قلت: نعم. فقالا فهل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا! فقالا لي: لم تفعلي, ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأربيت وأبيت, (97) فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت, فاقشعررت. ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا. فقالا كذبت لم تفعلي, ارجعي إلى بلادك ولا تكفري, فإنك على رأس أمرك! (98) فأربيت وأبيت, فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه, فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء، وغاب عني حتى ما أراه. فجئتهما فقلت: قد فعلت! فقالا ما رأيت؟ فقلت: فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه, (99) فقالا صدقت, ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت: بلى, لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري. فبذرت, وقلت: أطلعي! فأطلعت, وقلت: أحقلي! فأحقلت, ثم قلت: أفركي! فأفركت, ثم قلت: أيبسي! فأيبست, ثم قلت: أطحني! فأطحنت, ثم قلت: أخبزي، فأخبزت. (100) فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سُقِط في يدى وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. (101)
قال أهل هذه المقالة بما وصفنا، واعتلوا بما ذكرنا, وقالوا: لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه. وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التخييل والحسبان, لم يكن تفريقا على صحة, وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة.
* * *
وقال آخرون: بل ” السحر ” أخذ بالعين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنـزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك. كما:-
1696 – حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: إذا أتاهما – يعني هاروت وماروت – إنسان يريد السحر، وعظاه وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة! فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع حتى يدخل السماء – وذلك الإيمان – وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء منه, (102) فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر. فذلك قول الله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) الآية .
1697 – حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة والحسن: (حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)، قال: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. (103)
1698 – حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانا يعلمان الناس السحر, فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا ” إنما نحن فتنة فلا تكفر “.
1699 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر قال، قال غير قتادة: أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه فيقولا ” إنما نحن فتنة فلا تكفر “.
1700 – حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن عوف, عن الحسن قال: أخذ عليهما أن يقولا ذلك.
1701 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا ” إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ”. لا يجترئ على السحر إلا كافر.
* * *
وأما الفتنة في هذا الموضع, فإن معناها: الاختبار والابتلاء, من ذلك قول الشاعر. (104)
وقــد فتــن النــاس فـي دينهـم
وخــلى ابـن عفـان شـرا طـويلا (105)
ومنه قوله: ” فتنت الذهب في النار “، إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته، ” أفتنه فتنة وفتونا “، كما:-
1702 – حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة (إنما نحن فتنة)، أي بلاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (فيتعلمون منهما)، خبر مبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنـزل عليهما, وليس بجواب لقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ، بل هو خبر مستأنف، ولذلك رفع فقيل: ” فيتعلمون “. فمعنى الكلام إذًا: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة، فيأبون قبول ذلك منهما، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه. (106)
وقد قيل: إن قوله: (فيتعلمون)، خبر عن اليهود معطوف على قوله: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ،” فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه). وجعلوا ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
والذي قلنا أشبه بتأويل الآية. لأن إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام، ما كان للتأويل وجه صحيح، (107) أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام.
و ” الهاء ” و ” الميم ” و ” الألف ” من قوله: (منهما)، من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلم الناس من الملكين الذي يفرقون به بين المرء وزوجه.
* * *
و ” ما ” التي مع ” يفرقون ” بمعنى ” الذي”. وقيل: معنى ذلك: السحر الذي يفرقون به. وقيل: هو معنى غير السحر. وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل. (108)
وأما ” المرء “، فإنه بمعنى: رجل من أسماء بني آدم, والأنثى منه ” المرأة “. يوحد ويثنى, ولا تجمع ثلاثته على صورته, (109) يقال منه: ” هذا امرؤ صالح, وهذان امرآن صالحان “. ولا يقال: هؤلاء امرؤو صدق, ولكن يقال: ” هؤلاء رجال صدق “, وقوم صدق. وكذلك المرأة توحد وتثنى ولا تجمع على صورتها. يقال: هذه امرأة، وهاتان امرأتان “. ولا يقال: هؤلاء امرآت, ولكن: ” هؤلاء نسوة “.
* * *
وأما ” الزوج “, فإن أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: ” هي زوجه ” بمنـزلة الزوج الذكر، ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [سورة الأحزاب: 37]، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: ” هي زوجته “. (110) كما قال الشاعر: (111)
وإن الـذي يمشـي يحـرش زوجـتي
كمـاش إلـى أسـد الشـرى يسـتبيلها (112)
فإن قال قائل: وكيف يفرق الساحر بين المرء وزوجه؟ قيل: قد دللنا فيما مضى على أن معنى ” السحر “: تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته، بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه. (113) فإن كان ذلك صحيحا بالذي استشهدنا عليه, (114) فتفريقه بين المرء وزوجه: تخييله بسحره إلى كل واحد منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته، من حسن وجمال، حتى يقبحه عنده، فينصرف بوجهه ويعرض عنه، حتى يحدث الزوج لامرأته فراقا. فيكون الساحر مفرقا بينهما بإحداثه السبب الذين كان منه فرقة ما بينهما. وقد دللنا، في غير موضع من كتابنا هذا، على أن العرب تضيف الشيء إلى مسببه من أجل تسببه، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السبب, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (115) فكذلك تفريق الساحر بسحره بين المرء وزوجه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قاله عدد من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1703 – حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)، وتفريقهما: أن يُؤَخِّذَ كل واحد منهما عن صاحبه, (116) ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه.
* * *
وأما الذين أبوا أن يكون الملكان يعلمان الناس التفريق بين المرء وزوجه, فإنهم وجهوا تأويل قوله: (فيتعلمون منهما) إلى ” فيتعلمون مكان ما علماهم ما يفرقون به بين المرء وزوجه, كقول القائل: ليت لنا كذا من كذا “, أي مكان كذا، كما قال الشاعر:
ججَـمَعَت مـن الخـيرات وَطبا وعلبة
وصــرا لأخـلاف المُزَنَّمـة الـبزل (117)
ومـن كـل أخـلاق الكـرام نميمـة
وسـعيا عـلى الجـار المجاور بالنَّجْل (118)
يريد بقوله: ” جمعت من الخيرات “, مكان خيرات الدنيا هذه الأخلاق الرديئة والأفعال الدنيئة، ومنه قول الآخر:
صلـدت صفـاتك أن تليـن حيودهـا
وورثـت مـن سـلف الكـرام عقوقا (119)
يعني: ورثت مكان سلف الكرام، عقوقا من والديك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ
قال أبو حعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرقون به بين المرء وزوجه, بضارين – بالذي تعلموه منهما، من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه – من أحد من الناس إلا من قد قضى الله عليه أن ذلك يضره. فأما من دفع الله عنه ضره، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرُّقى, فإن ذلك غير ضاره، ولا نائله أذاه.
* * *
وللإذن ” في كلام العرب أوجه. منها: الأمر على غير وجه الإلزام. وغير جائز أن يكون منه قوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، لأن الله جل ثناؤه قد حرم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر – فكيف به على وجه السحر؟ – على لسان الأمة. (120)
ومنها: التخلية بين المأذون له، والمخلى بينه وبينه.
ومنها العلم بالشيء, يقال منه: ” قد أذنت بهذا الأمر ” إذا علمت به “آذن به إذنا “، ومنه قول الحطيئة:
ألا يــا هنــد إن جـددت وصـلا
وإلا فـــــأذنيني بــــانصرام (121)
يعنى فأعلميني. ومنه قوله جل ثناؤه: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ [سورة البقرة: 279]، وهذا هو معنى الآية, كأنه قال جل ثناؤه: وما هم بضارين بالذي تعلموا من الملكين، من أحد إلا بعلم الله. يعني: بالذي سبق له في علم الله أنه يضره. كما:-
1704 – حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان في قوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، قال: بقضاء الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ويتعلمون)، الناس الذين يتعلمون من الملكين ما أنـزل عليهما من المعنى الذي يفرقون به بين المرء وزوجه, يتعلمون منهما السحر الذي يضرهم في دينهم، ولا ينفعهم في معادهم. فأما في العاجل في الدنيا, فإنهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (122) (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، الفريق الذين لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم, نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون, واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، فقال جل ثناؤه: لقد علم النابذون – من يهود بني إسرائيل – كتابي وراء ظهورهم تجاهلا منهم التاركون العمل بما فيه من اتباعك يا محمد واتباع ما جئت به, بعد إنـزالي إليك كتابي مصدقا لما معهم, وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم, المؤثرون عليه اتباع السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان, والذي أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السحر بكتابي الذي أنـزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاق. كما:-
1705 – حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد الله إليهم: أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة.
1706 – حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، يعني اليهود. يقول: لقد علمت اليهود أن من تعلمه أو اختاره، ما له في الآخرة من خلاق.
1707 – وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، لمن اشترى ما يفرق به بين المرء وزوجه.
1708 – حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق)، قال: قد علمت يهود أن في كتاب الله في التوراة: أن من اشترى السحر وترك دين الله، ما له في الآخرة من خلاق. فالنار مثواه ومأواه.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: (لمن اشتراه)، فإن ” من ” في موضع رفع, وليس قوله: (ولقد علموا) بعامل فيها. لأن قوله: (ولقد علموا)، (123) بمعنى اليمين، فلذلك كانت في موضع رفع. لأن الكلام بمعنى: والله لمن اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق. ولكون قوله: (قد علموا) بمعنى اليمين، حققت بـ ” لام اليمين “, فقيل: (لمن اشتراه)، كما يقال: ” أقسم لمن قام خير ممن قعد “. وكما يقال: ” قد علمت، لعمرو خير من أبيك “.
وأما ” من ” فهو حرف جزاء. وإنما قيل ” اشتراه ” ولم يقل ” يشتروه “, لدخول ” لام القسم ” على ” من “. ومن شأن العرب – إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم – أن لا ينطقوا في الفعل معه إلا بـ ” فعل ” دون ” يفعل “، إلا قليلا كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثا وهو مجزوم, كما قال الله جل ثناؤه: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ [سورة الحشر: 12]، وقد يجوز إظهار فعله بعده على ” يفعل ” مجزوما, (124)
كما قال الشاعر:
لئـن تـك قـد ضـاقت عليكم بيوتكم
ليعلــم ربــي أن بيتــي واســع (125)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما له في الآخرة من خلاق). فقال بعضهم: ” الخلاق ” في هذا الموضع: النصيب.
* ذكر من قال ذلك:
1709 – حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (ما له في الآخرة من خلاق)، يقول: من نصيب.
1710 – حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ما له في الآخرة من خلاق)، من نصيب.
1711 – حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا وكيع، قال سفيان: سمعنا في: (وما له في الآخرة من خلاق)، أنه ما له في الآخرة من نصيب.
* * *
وقال بعضهم: ” الخلاق ” ههنا الحجة.
* ذكر من قال ذلك:
1712 – حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: (وما له في الآخرة من خلاق)، قال: ليس له في الآخرة حجة.
وقال آخرون: الخلاق: الدين.
* ذكر من قال ذلك:
1713 – حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: (ما له في الآخرة من خلاق)، قال: ليس له دين.
* * *
وقال آخرون: ” الخلاق ” ههنا القوام.
* ذكر من قال ذلك:
1714 – حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (ما له في الآخرة من خلاق)، قال: قوام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى ” الخلاق ” في هذا الموضع: النصيب. وذلك أن ذلك معناه في كلام العرب.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
1715 -” ليؤيدن الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم “. (126)
يعني لا نصيب لهم ولا حظ في الإسلام والدين. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
يَدْعُـون بـالويل فيهـا لا خَـلاق لهم
إلا ســرابيلُ مــن قِطْـر وأغـلال (127)
يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظ، إلا السرابيل والأغلال.
* * *
فكذلك قوله: (ما له في الآخرة من خلاق): ما له في الدار الآخرة حظ من الجنة، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عمل صالح يحازي به في الجنة ويثاب عليه, فيكون له حظ ونصيب من الجنة. وإنما قال جل ثناؤه: (ما له في الآخرة من خلاق)، فوصفه بأنه لا نصيب له في الآخرة, وهو يعني به: لا نصيب له من جزاء وثواب وجنة دون نصيبه من النار، إذْ كان قد دل ذمه جل ثناؤه أفعالهم – التي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيب – على مراده من الخبر, وأنه إنما يعني بذلك أنه لا نصيب لهم فيها من الخيرات, وأما من الشرور فإن لهم فيها نصيبا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى ” شروا “: ” باعوا “. (128) فمعنى الكلام إذا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلم السحر لو كان يعلم سوء عاقبته، كما:
1716 – حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي (ولبئس ما شروا به أنفسهم)، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال جل ثناؤه: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)؟ وقد قال قبل: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، فكيف يكونون عالمين بأن من تعلم السحر فلا خلاق لهم, وهم يجهلون أنهم بئس ما شروا بالسحر أنفسهم؟
قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته، من أنهم موصوفون بالجهل بما هم موصوفون بالعلم به. ولكن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم, وإنما معنى الكلام: وما هم ضارون به من أحد إلا بإذن الله, ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم, ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون, ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. فقوله: (لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)، ذم من الله تعالى ذكره فعل المتعلمين من الملكين التفريق بين المرء وزوجه, وخبر منه جل ثناؤه عنهم أنهم بئس ما شروا به أنفسهم، برضاهم بالسحر عوضا عن دينهم الذي به نجاة أنفسهم من الهلكة, جهلا منهم بسوء عاقبة فعلهم، وخسارة صفقة بيعهم. إذ كان قد يتعلم ذلك منهما من لا يعرف الله، ولا يعرف حلاله وحرامه، وأمره ونهيه. ثم عاد إلى الفريق – الذين أخبر الله عنهم أنهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنـزل على الملكين – فأخبر عنهم أنهم قد علموا أن من اشترى السحر، ما له في الآخرة من خلاق؛ ووصفهم بأنهم يركبون معاصي الله على علم منهم بها, ويكفرون بالله ورسله, ويؤثرون اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر، على العمل بكتابه ووحيه وتنـزيله, عنادا منهم، وبغيا على رسله, وتعديا منهم لحدوده, على معرفة منهم بما لمن فعل ذلك عند الله من العقاب والعذاب. فذلك تأويل قوله.
* * *
وقد زعم بعض الزاعمين أن قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، يعني به الشياطين, وأن قوله: (لو كانوا يعلمون)، يعني به الناس. وذلك قول لجميع أهل التأويل مخالف. وذلك أنهم مجمعون على أن قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ، معني به اليهود دون الشياطين: ثم هو – مع ذلك – خلاف ما دل عليه التنـزيل. لأن الآيات قبل قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ، وبعد قوله: (لو كانوا يعلمون)، جاءت من الله بذم اليهود وتوبيخهم على ضلالهم, وذما لهم على نبذهم وحي الله وآيات كتابه وراء ظهورهم, مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، أحد تلك الأخبار عنهم.
* * *
وقال بعضهم: إن الذين وصف الله جل ثناؤه بقوله: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)، فنفى عنهم العلم، هم الذين وصفهم الله بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . وإنما نفى عنهم جل ثناؤه العلم بقوله: (لو كانوا يعلمون) – بعد وصفه إياهم بأنهم قد علموا بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا – من أجل أنهم لم يعملوا بما علموا. وإنما العالم العامل بعلمه, وأما إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال. قال: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما: ” لو علمت لأقصرت ” كما قال كعب بن زهير المزني, وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده:
إذ إذا حـضراني قلـت: لـو تعلمانه!!
ألـم تعلمـا أنـي مـن الـزاد مرمل (129)
فأخبر أنه قال لهما: ” لو تعلمانه “, فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ قالوا: فكذلك قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ و (لو كانوا يعلمون)
* * *
وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووَجْه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا وقوله: (لو كانوا يعلمون)، وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه, حتى تأتي دلالة – من الوجه الذي يجب التسليم له – بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نـزل القرآن أولى. (130) ————————
الهوامش :
(1) في تفسير ابن كثير 1 : 249 : “ما يكون في الأرض . . أو غيب” .
(2) لا تأكلونه : أي لا تنفدونه أبدا . يقال : أكل فلان عمره : إذا أفناه .
(3) في المطبوعة : “فقام” ، والصواب ما أثبته من تفسير ابن كثير .
(4) الأثر : 1646 – في تفسير ابن كثير 1 : 249 .
(5) خاصمني فخصمته أخصمه : غلبته بالحجة في خصومي .
(6) في تفسير ابن كثير : “تحت كرسي مجلس سليمان” .
(7) الأثر : 1647 – في تفسير ابن كثير 1 : 249 – 250 .
(8) في تفسير ابن كثير : “صنفوا أصناف السحر” . وهي أجود .
(9) في المطبوعة : “لمحمد صلى الله عليه وسلم” ، والذي أثبته مقتضى سياق كلامهم .
(10) إلى هنا انتهى ما نقله ابن كثير في تفسيره عن أبي جعفر 1 : 250 ، أما سائر الخبر ، فإنه رواه في 1 : 247 ، وصدره بقوله : “وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى : “واتبعوا ما تتلو الشياطين” الآية – وكان حين ذهب ملك سليمان . . ” ، وساق الخبر بنصه هذا . فلست أدري أفي نسخ الطبري سقط ، أم هذه جزء من رواية الطبري عن ابن إسحاق من حديث ابن عباس .
(11) الفئام : الجماعة من الناس ، لا واحد له من لفظه .
(12) حدثان الشيء (بكسر فسكون) : أوله وابتداؤه وقرب العهد به . وهو منصوب على الظرفية .
(13) انظر ما سلف في هذا الجزء 2 : 38 – 39 .
(14) الأثر : 1651 – في تفسير ابن كثير 1 : 250 .
(15) الأثر : 1654 – كان في المطبوعة : “سالم بن جنادة” ، وهو خطأ ، وانظر التعليق على الأثر رقم : 48 في الجزء الأول . وهو جزء من خبر سيأتي برقم : 1660 .
(16) الأثر : 1655 – في المطبوعة”العبقري” ، وهو خطأ ، وانظر التعليق على الأثر رقم : 1625 .
(17) الأثر : 1656 – في المطبوعة”نصر بن عبد الرحمن الأودي” ، وهو خطأ وانظر التعليق على الأثر : 423 في الجزء الأول .
(18) “هنالك تتلو” إحدى القراءتين ، والأخرى”هنالك تبلو” ، وهي التي في مصاحفنا اليوم وقال أبو جعفر في تفسيره 11 : 79″إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل منهما أئمة من القراء” .
(19) ديوانه : 88 ، من أبيات قالها حسان في خبر أم معبد ، حين خرج رسول الله مهاجرا إلى المدينة . ورواية الديوان : “في كل مسجد” ، ورواية الطبري أمثل .
(20) كان ينبغي أن يكون في هذا المكان تفسير قوله” ما تتلو” الذي سيأتي في : 418
(21) انظر ما سلف 1 : 299 .
(22) في المطبوعة : “وكما قال : فعلت كذا . . ” ولا يستقيم إلا على تمريض .
(23) قوله : “وما هذا الكلام” الإشارة فيه إلى الآية التي يؤولها : “وما كفر سليمان” يقولون : ما مكان هذا الكلام – من هذا الكلام وهو قوله : “واتبعوا ما تتلو الشياطين” .
(24) في المطبوعة”لأنفسهم” ، والصواب إسقاط هذه اللام ، كما يدل عليه السياق .
(25) سياق العبارة : “وتبرأ . . من سليمان . . منهم بشر” . ولعل”بشر” هذه”نفر” ، أي جماعة . يقول : تبرأت جماعة أخرى من سليمان ، إذ نسب إلى السحر ، وكفروه .
(26) الثر : 1659 – في تفسير ابن كثير 1 : 250 .
(27) الأثر : 1660 – انظر الأثر السالف : 1654 والتعليق عليه .
(28) الأثر : 1661 – في تفسير ابن كثير 1 : 251 ، وفيه”فزاد الناس” . . مكان”فرأى” والصواب ما في الطبري .
(29) في تفسير ابن كثير : “فإذا جرت منه وصدق” ، ولعلها تصحيف .
(30) في تفسير ابن كثير : “حتى بقاياها” .
(31) الأثر : 1662 – في تفسير ابن كثير 1 : 248 – 249 ، مع اختلاف في بعض اللفظ غير الذي أثبته .
(32) في المطبوعة : “وأعلموهم إياه” ، وقد مضى في رقم : 1652 ، “وعلموهم” ، وكذلك أثبتها هنا .
(33) في المطبوعة : “فتتبع تلك الكتب” بزيادة الفاء ، ولا موضع لها .
(34) الأثر : 1665 – كان في المطبوعة : “حدثنا القاسم قال حدثنا حجاج” أسقط منه”قال حدثنا الحسين” ، وهو إسناد دائر في الطبري ، أقربه إلينا رقم : 1657 ، وسيأتي في الذي يلي .
(35) الأثر : 1666 – في تفسير ابن كثير 1 : 251 .
(36) الأثر : 1667 – سيرة ابن هشام 2 : 192 – 193 .
(37) في المطبوعة : “فتبين” وما أثبت أشبه بعبارة الطبري .
(38) انظر ما سلف قريبا : 411 .
(39) قوله : “وتوجيه من وجه ذلك أن : تتلو – بمعنى : تلت” لم يأت هنا في تفسير الآية ، بل جاء في تفسير آية مضت من سورة البقرة : 91 ، ص 350 – 352 .
(40) هذه الفقرة ، والأخرى التي قبلها ، والأثر الآتي رقم : 1669 ، كان أولى أن تكون في آخر تفسير قوله : “ما تتلو الشياطين” فيما مضى : 411 .
(41) الأثر : 1669 – سيرة ابن هشام 2 : 192 .
(42) في المطبوعة وابن كثير : “وأن الذين يعلمونهم” ، وما أثبت هو الصواب .
(43) “الترجمة” عند الكوفيين هي”البدل” ، وانظر ما سلف 2 : 340 وانظر ما سيأتي : 423 . والزيادات التي بين الأقواس في هذه الفقرة ، من تفسير ابن كثير 1 : 252 ، وقد نقل كلام الطبري بنصه .
(44) حاف له يحيف حيفا : مال معه فجاز وظلم غيره . وحاف عليه : ظلمه وجار عليه .
(45) الأثر : 1673 – هو من تتمة الأثر السالف : 1646 ، ويرجع الضمير في قوله : “وخاصموه به أيضًا – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اليهود ، كما تبين ذلك من مراجعة الأثر هناك .
(46) كان في المطبوعة هنا : “وقالوا : إن قال لنا قائل . . ” . والضمير في”قالوا” ، لا يعود إلى مذكورين قبل . وكأن الناسخ تعاظمه أن يكون الرد الآتي من كلام أبي جعفر ، فحذف ما جرى عليه في تفسيره من قوله”قال أبو جعفر
الطبري
الوجيز للواحدي
فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً (أي لا ينفد بالأكل منه) قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوهها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم ذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنوا إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصموه بها فذلك حين يقول اللّه تعالى: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخّر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم، قالوا: فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه، فاستخرجوه وعملوا به، فأنزل اللّه تعالى على نبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام، فقال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} لما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما نزل عليه من اللّه (سليمان بن داود) وعدّه فيمن عد من المرسلين، قال مَن كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد؟ يزعم أن ابن داود كان نبياً واللّه ما كان إلا ساحراً، وأنزل اللّه: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} الآية.
وروي أنه لما مات سليمان عليه السلام قام إبليس – لعنه اللّه – خطيباً فقال: يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبياً إنما كان ساحراً فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا: واللّه لقد كان سليمان ساحراً، هذا سحرهُ بهذا تعَّبدنا وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون: بل كان نبياً مؤمناً. فلما بعث اللّه النبي محمداً صلى اللّه عليه وسلم وذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحراً يركب الريح، فأنزل اللّه تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان} (رواه ابن جرير عن شهر بن حوشب) الآية. فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام.
وقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب اللّه الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول اللّه محمد صلى اللّه عليه وسلم ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان، وعدّاه بعلى لأنه تضمن {تتلو} تكذب.
وقال ابن جرير: {على} ههنا بمعنى في، أي تتلو في ملك سليمان، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق (قلت) والتضمن أحسن وأولى، واللّه أعلم وقول الحسن البصري رحمه اللّه: – وكان السحر قبل زمن سليمان – صحيحٌ لا شك فيه، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى} الآية ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: {وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة} وقال قوم صالح – وهم قبل ابراهيم الخليل عليه السلام – لنبيهم صالح إنما {أنت من المسحَّرين} أي المسحورين على المشهور، وقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين بباب هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفره فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن “ما” نافية أعني التي في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال القرطبي: “ما” نافية ومعطوف على قوله {وما كفر سليمان} ثم قال {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين}، وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم اللّه وجعل قوله {هاروت وماروت} بدلاً من الشياطين، قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الإثنين كما في قوله تعالى: {فإن كان له إخوة} أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما. تقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل} الآية. يقول: لم ينزل اللّه السحر، وبإسناده عن الربيع بن أنَس في قوله {وما أنزل على الملكين} قال: ما أنزل اللّه عليهما السحر. قال ابن جرير. فتأويل الآية على هذا “واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان” من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل اللّه السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. فيكون قوله {ببابل هاروت وماروت} من المؤخر الذي معناه المقدم قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: “واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وما كفر سليمان وما أنزل اللّه السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت” فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن اللّه أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم اللّه بذلك وأخبر نبيّه محمداً صلى اللّه عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما (هاروت) واسم الآخر (ماروت) فيكون هاروت وماروت علىهذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وإن (ما) بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما اللّه إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بيَّن لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً، وأغرب منه قوله من زعم أن {هاروت وماروت} قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم.
وقد روي في قصة (هاروت) و (ماروت) عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنَس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم وقصَّها خلق من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده اللّه تعالى، واللّه أعلم بحقيقة الحال
وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}، عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي اراد اللّه أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهم الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة: أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال ابن جرير في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر. وأما الفتنة فيه المحنة والأختبار، ومنه قول الشاعر:
وقد فتن الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شراً طويلا
(يتبع…)
@(تابع… 1): 99 – ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون… …
وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال: {إن هي إلا فتنتك} أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الصحيح: “من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وسلم ” (رواه البزار بسند صحيح) وقوله تعالى: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر، ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والإئتلاف، وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: “إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا واللّه ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرّقت بينه وبين أهله، قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت (رواه مسلم عن جابر بن عبد اللّه) ” وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة.
وقوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} قال سفيان الثوري: إلا بقضاء اللّه، وقال الحسن البصري: من شاء اللّه سلطهم عليه ومن لم يشأ اللّه لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن اللّه وقوله تعالى: {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك، أنه ما له في الآخرة من خلاق، قال ابن عباس من نصيب، {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} يقول تعالى {ولبئس} البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم علم بما وعظوا به.
مختصر ابن كثير
{ يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } . ولا يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلعنالزهرة ولا ابن عمر. وقيل: سبب إنزال الملكين: أن السحرة كثروا في ذلك الزمان، وادعوا النبوّة ، وتحدّوا الناس بالسخر. فجاء ليعلما الناس السحر، فيتمكنوا من معاوضة السحر، فيتبين كذبهم في دعواهم النبوّة ، أو لأن المعجزة والسحر ماهيتان متباينتان، ويعرض بينهماالالتباس. فجاء الإيضاح الماهيتين، أو لأن السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء الله وأوليائه كان مباحاً، أو مندوباً، فبعثا لذلك،ثم استعمله القوم في التفرقة بين أولياء الله. أو لأن الجن كان عندهم من أنواع السحر ما لم تقدر البشرعلى مثله، فأنزلا بذلك لأجل المعارضة . وقيل: أنزلا على إدريس، لأن الملائكة لا يكونون رسلاً لكافة الناس، ولا بد منرسول من البشر. {بِبَابِلَ }: قال ابن مسعود: هي في سواد الكوفة . وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين. وقيل: هي جبل دماوند. وقيل: هي بالمغرب. وقيل: في أرض غير معلومة ، فيها هاروت وماروت، وسميت ببابل، قال الخليل:لتبلبل الألسنة حين أراد الله أن يخالف بينها، أتت ريح فحشرت الناس إلى بابل، فلم يدر أحد ما يقول الآخر،ثم فرّقتهم الريح في البلاد. وقيل: لتبلبل الألسنة بها عند سقوط قصر نمروذ. {هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ }: قرأ الجمهور: بفتح التاء ،وهما بدل من الملكين، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما. وقيل: بدل من الناس، فتكون الفتحة علامة للنصب، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين. وقيل: هما قبيلتان من الشياطين، فعلى هذا يكونان بدلاًمن الشياطين، وتك ن الفتحة علامة للنصب، على قراء ة من نصب الشياطين. وأما من رفع الشياطين، فانتصابهما على الذم، كأنه قال: أذم هاروت وماروت، أي هاتين القبيلتين، كما قال الشاعر: أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادعوهذا على قراء ة الملكين، بفتح اللام. وأما من قرأ بكسرها، فيكونان بدلاً من الملكين،إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه. وقرأ الحسن والزهري: هاروت وماروت بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف، أي هما هاروت وماروت،إن كانا ملكين. وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين، الأول أو الثاني، على قراء ة من رفعه، إن كانا شيطانين. وتقدّملنا القول في هاروت وماروت، وأنهما أعجميان. وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت، وهو الكسر، وقوله خطأ، بدليل منعهمالصرف لهما، ولو كانا، كما زعم، لانصرفا، كما انصرف جاموس إذا سميت به. واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحراً. {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ }: قرأ الجمهور: بالتشديد، من علم على بابها من التعليم. وقالت طائفة : هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف، والهمزة بمعنى واحد، فهو من باب الإعلام، ويؤيده قراء ة طلحة بن مصرّف. وما يعلمان: من أعلم قال:لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه. والضمير في يعلمان عائد على الملكين، أي وما يعلم الملكان. وكذلك قراء ة أبي، أي بإظهار الفاعل لا إضماره. وقيل: عائد على هاروت وماروت، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه، وفي الثاني على البدل، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام، فزيدت هنا لتأكيد ذلك، بخلاف قولك: ما قام من رجل، فإنها زيدت لاستغراق الجنس، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين، لأنهم شرطواأن يكون بعدها نكرة ، وأن يكون قبلها غير واجب. وقد أمعنا الكلام على زيادة من في (كتاب منهج السالك) من تأليفنا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد، والأول أظهر. {حَتَّى ٰ يَقُولاَ} حتى هنا: حرف غاية ، والمعنى انتفاء تعليمهما، أو إعلامهما على اختلاف القولين في يعلمان إلى أن يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة }. وقال أبو البقاء : حتى هنا بمعنى إلا أن، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره. وقد ذكره ابن مالك في (التسهيل) وأنشد عليه في غيره: ليس العطاء من الفضول سماحة حتى تجود وما لديك قليلقال: يريدإلا أن تجود، وما في {إِنَّمَا } كافة ، لإن عن العمل، فيصير من حروف الابتداء . وقد أجاز بعض النحويين عملإن مع وجود ما، نحو: إنما زيداً قائم. {نَحْنُ فِتْنَة }: أي ابتلاء واختبار. {فَلاَ تَكْفُرْ }: قال علي رضي الله عنه: كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه، كأنهما يقولان: لا تفعل كذا، كما لو سأل سائل عن صفة الزنا، أو القتل، فأخبر بصفته ليجتنبه. فكان المعنى في يعلمان: يعلمان. وقال الزمخشري: فلا تكفر: فلا تتعلم، معتقداًأنه حق فتكفر. وحكى المهدوي: أن قولهما {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة }، فلا تكفر استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحقق اضلاله. وقال في (المنتخب) قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة } توكيد لقبول الشرع والتمسك به، فكانت طائفة تمثيل وأخرى تخالف. وقيل:فلا تكفر، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه. وقيل:فلا تفعله لتعمل به. وهذا على قول من قال: تعلمه جائز والعمل به كفر. وقيل: فلا تكفر بتعليم السحر، وهذاعلى قول من قال: إن تعلمه كفر. وقيل: فلا تكفر بنا، وهذا على قول: إن الملكين نزلا من السماء بالسحر،وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافراً، ومن تركه كان مؤمناً، كما جاء في نهر طالوت، وقد تقدم ماحكاه المهدوي إن قولهما: فلا تكفر، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل النصيحة . وقوله: حتى يقولا مطلقاً في القول، وأقلما يتحقق بالمرة الواحدة ، فقيل مرة ، وقيل سبع مرات، وقيل تسع مرات، وقيل ثلاث. ويحتاج ذلك إلى صحة نقل، وإنلم يوجد، فيكون محتملاً، والمتحقق المرة الواحدة . واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما، فقال مجاهد: هاروت وماروت لا يصلإليهما أحد، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافه واحدة ، فيتعلم ان منهما ما يفرّقان به بين المرء وزوجه. والظاهر أنهاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله: {وَمَا يُعَلّمَانِ }. وقد ذكر المفسرون قصصاً فيما يعرض من المحاورة بين الملكينوبين من جاء ليتعلم منهما، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمر انه بأن يبول في تنور. فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه، أيرى فارساً مقنعاً بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء ؟ أو نوراً خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء ؟ أو طائراً خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء ؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان. وهذا كله شيء لا يصح البتة ، فلذلك لخصنا منه شيئاً، وإن كان لا يصح، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه. {فَيَتَعَلَّمُونَ }: قاله الفراء ،واختاره الزجاج، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فيأبون فيتعلمون. وقال الفرّاء أيضاً: هو عطف على {يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ }، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا }. وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون، وقد قال منهما. وأجازه أبو عليوغيره، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون، وإن كان التعليم من الملكين خاصة ، والضمير في منهما راجع إليهما، لأنقوله: فيتعلمون منهما، إنما جاء بعد ذكر الملكين. وقال سيبويه: هو معطوف على كفروا، قال: وارتفعت فيتعلمون، لأنه لم يخبرعن الملكين أنهما قالا: لا تكفر، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلمون. يريد سيبويه: أنّ فيتعلمونليس بجواب لقوله: فلا تكفر، فينصب كما نصب { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } ، لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية ، ليس سبباً لتعلم من يتعلم. وكفروا: في موضع فعل مرفوع، فعطف عليه مرفوع، ولا وجه لاعتراضمن اعترض في العطف على كفروا، أو على يعلمون، بأن فيه إضمار الملكين. قيل: ذكرهما من أجل أن التقدير: {وَلَـٰكِنّ َٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا }، لأن قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } إنما جاء بعد ذكر الملكين، كما تقدّم.وقد نقل عن سيبويه أن قوله: فيتعلمون، هو على إضمارهم، أي فهم يتعلمون، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان، والضميرالذي في فيتعلمون لأحد، وجمع حملاً على المعنى ،كما قال تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } . وهذا العطف، وإن كان على منفي،، فلذلك المنفي هو موجب في المعنى ، لأن معناه: إنهما يعلمان كل واحد، إذا قالا له: إنما نحنفتنة فلا تكفر. وذكر الزجاج هذا الوجه. وقال الزجاج أيضاً: الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون، واستغنى عن ذكريعلمان، بما في الكلام من الدليل عليه. وقال أبو علي: لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان، لأنه موجودفي النص. انتهى كلام أبي علي، وهو كلام فيه مغالطة ، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان، الداخل عليها ما النافية في قوله: ولا ما يعلمان، فيكون يعلمان موجوداً في النص، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لامنفية . وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص. وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته،لأنه كان مولعاً بذلك. وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس. انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف، وأكثره كلام المهدوي، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك. وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقدير: فيأبون فيتعلمون، أويعلمان فيتعلمون، أي على مثبت، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية ، أو معطوفاًعلى يعلمون الناس، أو معطوفاً على كفروا، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى . فتلك أقوال ستة ، أقر بهاإلى اللفظ هذا القول الأخير. {مِنْهُمَا }: الضمير في الظاهر عائد على الملكين، أي فيتعلمون من الملكين، سواء قرى ء بفتح اللام، أو كسرها. وقيل: يعود على السحر، وعلى الذي أنزل على الملكين، وقيل: عائد على الفتنة والكفر، الذي هومصدر مفهوم من قوله: {فَلاَ تَكْفُرْ }، وهذا قول أبي مسلم، والتقدير عنده: فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقونبه بين المرء وزوجه. {مَا يُفَرّقُونَ بِهِ }: ما موصولة ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ،لأجل عود الضمير عليها. والمصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف في قول الجمهور، والذي يفرق به هو السحر. وعني بالتفريق: تفريق الألفة والمحبة ، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترق ان، أو تفريق الدين، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتداً، فيكون ذلك مفرقاً بينهما. {بَيْنَ ٱلْمَرْء }: قراء ة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز. وقرأ الحسن والزهري وقتادة : المر بغير همز مخففاً. وقرأ ابن أبي إسحاق: المرء بضم الميم والهمزة . وقرأ الأشهب العقيلي: المرء بكسر الميم والهمز، ورويت عن الحسن.وقرأ الزهري أيضاً: المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء فأمّا فتح الميم وكسرها وضمها فلغات، وأما المر بكسر الراء ف وجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وأما تشديدها بعد الحذف، فوجهه أنه نوى الوقف فشدد، كما رويعن عاصم: مستطرّ بتشديد الراء في الوقف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فأقرها على تشديدها فيه. {وَزَوْجِهِ }: ظاهره أنهيريد به امرأة الرجل. وقيل الزوج هنا: الأقارب والإخوان، وهم الصنف الملائم للإنسان، ومنه{ من كل زوج بهيج }
{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوٰجَهُمْ } . {وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ }: الضمير الذي هو: هم عائد على السحرة الذين عاد عليهم ضمير فيتعلمون. وقيل: على اليهود الذين عاد عليهم ضمير واتبعوا. وقيل: على الشياطين. وبضارين: في موضع نصب على أن ما حجازية ،أو في موضع رفع على أن ما تميمية . والضمير في به عائد على ما في قوله: {مَا يُفَرّقُونَ }. وقرأالجمهور: بإثبات النون في بضارين. وقرأ الأعمش: بحذفها، وخرّج ذلك على وجهين: أحدهما: أنها حذفت تخفيفاً، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام. والثاني: أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هوبه، كما قال: هما أخوا في الحرب مـن لا أخا له وكما قال: كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي وهذااختيار الزمخشري، ثم استشكل ذلك، لأن أحداً مجرور بمن، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة ؟ فقال: فإن قلت:كيف يضاف إلى أحد، وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزء اً من المجرور. انتهى . وهذا التخريج ليس بجيد، لأن الفصلبين المضاف والمضاف إليه بالظرف، والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه، لأنه مشغول بعامل جر، فهو المؤثر فيه لا الإضافة . وأما جعل حرف الجر جزء اً من المجرور، فهذا ليس بشيء ، لأنه مؤثرفيه. وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء ، والأجود التخريج الأول، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها. فمن النثر قول العرب، قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، يريدون: ثنتان ومائتان. {مّنْ أَحَدٍ }، من زائدة ، واحد: مفعول بضارين. ومنتزاد في المعفول، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو: ما ضربتمن رجل، وما ضرب زيد من رجل. وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل، لأن المعنى : وما يضرون من أحد. {إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }: مستثنى مفرغ من الأحوال، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعل في قوله: {بِضَارّينَ }، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو: {مّنْ أَحَدٍ }، ويحتمل أن يكون حالاً منبه، أي السحر المفرق به، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرف المحذوف. والإذن هنا فسر الوجوه التي ذكرناهاعند الكلام على المفردات. فقال الحسن: الإذن هنا: هو التخلية بين المسحور وضرر السحر. وقال الأصم: العلم. وقال غيره: الخلق،ويضاف إلى إذنه كقوله:{ كُنْ فَيَكُونُ }وقيل: الأمر، قيل: والإذن حقيقة فيه، واستبعد ذلك، لأن الله لا يأمربالسحر، ولأنه ذمّهم على ذلك. وأوّل معنى الأمر فيه بأن يفسر التفريق بالصيرورة . كافراً فإن هذا حكم شرعي، وذلك لايكون إلا بأمر الله. وفي هذه الجملة دليل على أن ما يتعلمون له تأثير وضرر، لكن ذلك لا يضر إلابإذن الله، لأنه ربما أحدث الله عنده شيئاً، وربما لم يحدث. {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ }: لما ذكرأنه يحصل به الضرر لمن يفرق بينهما، ذكر أيضاً أن ضرره لا يقتصر على من يفعل به ذلك، بل هوأيضاً يضر من تعلمه. ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع، لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصلبه النفع، نفى النفع عنه بالكلية ، وأتى بلفظ لا، لأنها ينفي بها الحال والمستقبل. والظاهر أن {وَلاَ يَنفَعُهُمْ } معطوف على {يَضُرُّهُمْ }، وكلا الفعلين صلة لما، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم على إضمار هو، أي وهو لا ينفعهم، فيكون في موضع رفع، وتكون الواو للحال، فتكون جملة حالية ، وهذا ضعيف. وقد قيل:الضرر وعدم النفع مختص بالآخرة . وقيل: هو في الدنيا والآخرة ، فإن تعلمه، إن كان غير مباح، فهو يجر إلى العملبه، وإلى التنكيل به، إذا عثر عليه، وإلى أن ما يأخذه عليه حرام هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فلمايترتب عليه من العقاب. {وَلَقَدْ عَلِمُواْ }: الضمير عائد قيل: على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام، وكانواحاضرين استخراج الشياطين السحر ودفنه، أو أخذ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيه، ولما أخرجوه بعد موته قالوا: والله ما هذامن عمل سليمان ولا من دخائزه. وقيل: عائد على من بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود. وقيل:عائد على اليهود قاطبة ، أي علموا ذلك في التوراة . وقيل: عائد على علماء اليهود. وقيل: عائد على الشياطين. وقيل: على الملكين، لأنهما كانا يقولان لمن يتعلم الحسر: فلا تكفر، فقد علموا أنه لا خلاق له في الآخرة . وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك. وعلم: هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين، وعلقت عن الجملة ، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت. والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. واللام في: {لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ }هي لام الابتداء ، وهي المانعة من عمل علم، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق، وأجازوا حذفها، وهي باقية على منع العمل،وخرجوا على ذلك. إنـي وجـدت مـلاك الشيمة الأدب يريد لملاك الشيمة . ومن هنا موصولة ، وهي مرفوعة بالابتداء . والجملة من قوله:{مَا لَهُ فِى ٱلاْخِرَة مِنْ خَلَـٰقٍ } في موضع الخبر. واللام في لقد للقسم. هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين. وجملة {وَلَقَدْ عَلِمُواْ } مقسم عليها التقدير: والله لقد علموا. والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها. وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسماً عليهما، وتكون من للشرط، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء . قال أبو البقاء : اللام في {لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } هيالتي يوطأ بها القسم مثل: { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } ، ومن في موضع رفع بالابتداء ، وهي شرط وجواب القسم ماله في الآخرة من خلاق. انتهى كلامه. فاشتراه في القول الأول صلة ، وفي هذا القول خبر عن من، ويكون إذ ذاك جوابالشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم، لأنه اجتمع قسم وشرط، ولم يتقدّمهما ذو خبر، فكان الجواب للسابق، وهو القسم، ولذلككان فعل الشرط ماضياً في اللفظ. هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه. وفي كلا القولين يكون: لمن اشتراه، في موضعنصب: بيعلموا. وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط، وقال هذا ليس موضع شرط، ولم ينقل عنهتوجيه، كونه ليس موضع شرط. وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى ، لأن الاشتراء قد وقع، وجعله شرطاً لا يصح، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى .فلما كان كذلك، كان ليس موضع شرط. والضمير المنصوب في اشتراه عائد على السحر، أو الكفر، أو كتابهم الذي باعوه بالسحر، أو القرآن، لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر، أقوال أربعة . والخلاق: النصيب، قاله مجاهد، أو الدين، قاله الحسن؛ أو القوام،قاله ابن عباس، أو الخلاص، أو القدر، قاله قتادة ؛ أقوال خمسة . {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ }: تقدّم القولفي بئس، وفي ما الواقعة بعدها، ومعناه: ذمّ ما باعوا به أنفسهم. والضمير في به عائد على السحر، أو الكفر.والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره: على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر، أو الكفر. والضمير في: شروا، ويعلمون، باتفاق لليهود.فمتى فسر الضمير في ولقد علموا بأنه عائد على الشياطين، أو اليهود الذين كانوا بحضرة سليمان، وفي زمانه، أو الملكين بفتح اللام، أو بكسرها، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم. وإن اتحد المسند إليه، أوّل العلم الثاني بالعقل، لأن العلم من ثمرته، فلما انتفى الأصل، نفى ثمرته. أو بالعمل، لأنه من ثمرة العلم، فلما انتفت الثمرة ، جعل ما ينشأ عنهمنفياً، أو أوّل متعلق العلم، وهو المحذوف، أي علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا. أو علموا نفي الثواب، ولم يعلموا استحقاق العذاب. وجواب لو محذوف تقديره: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }. ذمّ ذلك لما باعوا أنفسهم.
البحر المحيط