سد الحاجة في أحكام الحجامة
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
أغلق باب الدار .. وجلس أمامه يتسول من كل رائح وغاد .. بعد أن ترك بداخله ثروات مكنوزة في صناديق .. ولكنه تكاسل عن فتحها واستخراجها .. واستسهل أن يعيش على بقايا الآخرين .. وفجأة مرّ به من أعطاه .. فوجد ما أعطاه شيئًا رآه من قبل في مخازن والده .. فانتبه لذلك !! وعاد إلى كنوز أبيه يبحث فيها .. فوجد من الثروات ما يغنيه عن التسول من الآخرين ..
قصةٌ غريبةٌ لكنها واقعية ، فهذا هو واقع أمتنا الآن ! فالخير كله عندنا في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك نستجدي الآخرين ، ونفاجأ في النهاية أن الكثير مما وصلوا إليه من صميم تراثنا، ومن تلك الكنوز التي نملكها ، والآن جاءت لنا من الخارج بعد أن انتشرت عندهم ودرسوها في جامعاتهم وثبت لهم بالتجربة مدى نفعها في علاج المرضى بالأمراض المختلفة ( الحجامة ) .
فالحجامة ممارسة طبية قديمة، عرفها العديد من المجتمعات البشرية، من مصر القديمة غربًا التي عرفتها منذ عام 2200 ق.م مرورًا بالآشوريين عام 3300 ق.م ، إلى الصين شرقًا ، فالحجامة مع الإبر الصينية أهم ركائز الطب الصيني التقليدي حتى الآن، وقد عرف العرب القدماء الحجامة – ربما تأثرًا بالمجتمعات المحيطة – وجاء الإسلام فأقر الممارسة ، فقد مارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجَّام أجره، كما أثنى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على تلك الممارسة، فقال : ( إنّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِه الْحِجَامَةُ ) (1) .
ومن ثم فقد مثَّلت الحجامة جزءاً أساسيًّا من الممارسات الطبية التقليدية للعديد من المجتمعات العالمية، إلا أنه بعد أن انتشرت شركات الأدوية وتوغّلت ، واستشرى الطب الغربي الاستعماري في بلدان العالم أجمع ، وصار هو الطب وما عداه خرافة ودجل ، تراجعت تلك النظم والممارسات الطبية التقليدية إلى الظل، فظلت بقايا هنا وهناك في بعض بلدان الخليج العربي – كممارسة تقليدية غير رسمية – ، وظل الأمر
كذلك حتى بدأ الناس في الغرب يكفرون شيئًا ما بالطب الغربي، ويتراجعون عن تقديسه، ويرون أنه يمكن أن تتواجد نظم أخرى من الطب بديلة أو مكملة ؛ ومن ثم بدأت تنتشر العديد من الممارسات التقليدية مرة أخرى في دول الغرب والشرق هنا وهناك .
وأخيرًا بدأت الحجامة تدخل وبكل قوة إلى بعض مجتمعاتنا ، ففي مملكة البحرين مثلاً ، يوجد الآن مئات المعالجين بالحجامة الشرعية ، بل انتشرت الحجامة بين النساء أيضًا ، فهناك المعالجات من النساء ، وهناك الدورات المنظّمة في الحجامة للرجال والنساء بشكل دوري ، بل أقيمت مراكز طبية خاصة للعلاج بالحجامة الشرعية ، وبيع أدواتها وآلاتها والمعقّمات الطبية ، وهكذا بدأ بعض الأطباء في البحرين يحيلون بعض مرضاهم إلى الحجامة الشرعية لعلاجهم من بعض الأعراض .
وفي السطور التالية نتعرف على تلك الممارسة عن قرب ، كظاهرة علاجية منتشرة ( في عشر مباحث ) .
…كتبه حسن قاري الحسيني في رمضان 1425 هـ
المنامة ـ البحرين
__________
(1) الترمذي ، الحديث ( 1199 ) .
إن كلمة ( الحجامة ) مشتقة من حَجَمَ وحَجَّمَ، نقول : حجَّم فلانٌ الأمر أي : أعاده إلى حجمه الطبيعي ، قال الفيروز أبادي : ” المصّ يحجِم ويحجُم ، والحجّام المصّاص ، المحجم والمحجمة : ما يحجم به ، وحرفته الحجامة ” (1) .
فالحجامة إذًا : هي تحجيم الدم في الكمّ والكيف المناسب واللائق بالصحة ، مما يقتضي استخراجه إن كان فاسدا أو زائدًا ، وهي علميّا نوعٌ من الجراحة التي تحجم موضع الداء ثم تستخرج دمًا فاسدًا يكون فيه سبب الداء ، أو فيه إنتان بؤري يهدّد حياة الإنسان أو تخفّف من وطأة الدم وهيجانه مما يريح القلب والكبد والكلى والرئتين وكل خلايا الجسم ، مع تنشيط مراكز الطاقة في الإنسان (2) .
__________
(1) الفيروزآبادي ، مجد الدين محمد الفيروزآبادي ( 817 هـ ) ، القاموس المحيط ، بيروت ، دار الرسالة ، 1998 ، مادة : الحجم ، 1091 .
(2) انظر : محمد عزت عارف ، أسرار العلاج بالحجامة ، القاهرة ، دار الفضيلة ، 2003 ، 35 .
الحجامة عرفها الإنسان منذ أقدم العصور ، عرفها العديد من المجتمعات البشرية، من مصر القديمة غربًا التي عرفتها منذ عام 2200 ق.م مرورًا بالآشوريين عام 3300 ق.م ، إلى الصين شرقًا ، فالحجامة مع الإبر الصينية أهم ركائز الطب الصيني التقليدي حتى الآن ، وقد عرف العرب القدماء الحجامة أيضًا ـ ربما تأثرًا بالمجتمعات المحيطة ـ (1) .
فهي قديمة العهد وسنة إلهية ، طبقها الأنبياء الكرام وأوصوا بها الناس ، وجاء الإسلام فأقر تلك الممارسة ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحياها بعد موت ذِكْرها ، وطبَّقها بأصولها ، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجَّام أجره، كما أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على الحجامة، فقال : ( إنّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِه الْحِجَامَةُ ) (2) .
وله الفضل في سنِّها للمسلمين وللعالمين أجمعين ، إلاَّ أنها وبعد عصر مديد من انتقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) نُسِيت قوانينها نتيجة الإهمال والاستهتار والتجاوزات شيئاً فشيئاً ، حتى اندثرت هذه القوانين وضاعت إلاَّ ما ندر منها ، وهناك أيدٍ أثيمة دسَّت الكثير عليها، فأقلع الناس عن الحجامة ونسوها ، صحيح أن قسماً قليلاً من الناس كانوا ينفذوها ، لكن وللأسف ما كانوا ليستفيدوا منها الفائدة المرجوَّة فأقلع الناس عنها ، لأنهم لم يلمسوا فائدتها المبتغاة ، وذلك لعدم تنفيذها ضمن الضوابط المشروعة لها ، عالجوا بها شتاءً ، صيفاً، أو بعد بذل مجهود وتعب جسمي ، أو بعد تناول الطعام ، وفي الأعوام الأخيرة ، عادت تلك السنة النبوية بقوة ، نعم .. لقد عاد هذا الفن العلاجي الطبي ، فصار للحجامة الانتشار الواسع في الكثير من البلاد والعباد، وذلك لما وجدوا وجنوا من فائدة عملية عظيمة نفسية وجسدية، وتكاثر الناس عليها جداً في السنوات الأخيرة لِمَا تحقَّق بها من معجزات شفاء لأمراض العصر المستعصية كالسرطان والشلل والقلب القاتل والناعور والشقيقة وغيرها كثير ..
__________
(1) انظر : إبراهيم عبد الله الحازمي ، الحجامة أحكامها وفوائدها ، الرياض ، دار الشريف ، 1992 ، 29 .
(2) سبق تخريج الحديث في المقدمة .
للحجامة هدفان لا ثالث لهما :
هدف وقائي : إنّ المرء المحافظ على عمل الحجامة بصورة دورية مستمرة ، حتى ولو لم يكن مصابًا بداءٍ معيّن ، تحفظه بإذن الله من الأمراض مثل : الشلل والجلطات وغيرها .. ، وكما يقال : ( دينار وقاية خيرٌ من قنطار علاج ) ويفضل عملها سنويا على الأقل .
هدف علاجي : بعد إصابة الإنسان بمرضٍ أو ألمٍ معين ، تنفع الحجامة في رفع ذلك المرض أو الألم ، فهناك العديد من الأمراض التي عولجت بالحجامة مثل : الصداع المزمن ، وخدر وتنميل الأكتاف ، وآلام الركبتين ، والنحافة ، وآلام الرماتزمية ، والبواسير ، وعرق النسا ، وحساسية الطعام ، وكثرة النّوم .. وغيرها العديد من الأمراض المزمنة مثل : الشلل بسبب الجلطة الدموية والتخلف العقلي .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إن في الحجم شفاء ” (1) .
قام فريق طبي مكون من 15 طبيبا من كلية الطب بجامعة دمشق بإجراء الحجامة لأكثر من 300 شخص ، اعتمد فيها على أخذ عينات من الدم الوريدي قبل وبعد الحجامة، وبعد إخضاع هذه العينات لدراسات مخبرية كاملة تم التوصل إلى نتائج مذهلة !!
كانت النتائج أشبه بالخيال : فقد لوحظ فيها اعتدال في ضغط الدم والنبض وانخفاض في كمية السكر في الدم، وارتفاع عدد الكريات الحمر بشكل طبيعي، وارتفاع في عدد الكريات البيض، وزيادة عدد الصفيحات الدموية، كما لوحظ اعتدال شوارد الحديد بالدم، واعتدال السعة الرابطة بين الحجامة وانخفاض كمية الشحوم الثلاثية في الدم، وانخفاض الكوليسترول عند الأشخاص المصابين بارتفاعه ، فسبحان الله .
ولعظم فوائد الحجامة ، يلاحظ أي باحث بأنّ الحجامة استخدمت في الطب الحديث على نطاقٍ واسعٍ ، حتى لا تكاد تصدر مجلة طبية أو كتاب طبي في علم وظائف الأعضاء أو العلاجات ، إلا وذكر لها فوائد واستعمالات وآلات ، وطوّرت الشركات المختصة بإنتاج الآلات الطبية وسائل الحجامة ، بل وأنتجت حقيبة خاصة لآلات الحجامة .
يقول إبراهيم الحازمي : ” وقد استخدمت في علاج أمراض الدورة الدموية ، كعلاج ضغط الدم ، والتهاب عضلة القلب ، وذلك بحجم منطقة ما تحت عظمة الترقوة اليسرى .. والتهاب الغشاء المبطن للقلب ، وتخفيف آلام الذبحة الصدرية .
كما استخدمت في علاج أمراض الصّدر والقصبة الهوائية ، وكذلك آلام المرارة والأمعاء ، وآلام الخصية ، وعولج بالحجامة من كان يشكو من صداع الرأس والعيون وآلام الرقبة والبطن وآلام الروماتيزم في العضلات والروماتيزم المزمن ، كما عولج لها حالات انقطاع الطمث الأولي الثانوي عند النساء .. ومن ناحية أخرى تنفرد الحجامة في حالات تنفع فيها وتخفّف الآلام ، وليس لها أي مضاعفات جانبية ” (2) .
__________
(1) محمد ناصر الدين الألباني ، صحيح الجامع ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، ط.3 ، 1988 ، الحديث ( 2128 ) .
(2) انظر : إبراهيم عبد الله الحازمي ، الحجامة أحكامها وفوائدها ، الرياض ، دار الشريف ، 1992 ، 23 .
قال الإمام علي الرضا : ” فإذا أردت الحجامة فليكن في اثنتي عشرة ليلة من الهلال إلى خمسة عشر فإنه أصلح لبدنك ، فإذا نقص الشهر فلا تحتجم إلا أن تكون مضطرًا إلى ذلك لأن الدّم ينقص في نقصان الهلال ويزيد في زيادته ” (1) .
يمكننا تقسيم وقت الحجامة بالنظر إلى حالة المحتجم ، فقد يكون صحيحًا أو مصابًا بمرضٍ معين ، وبالتالي لدينا حالتان :
_ في حال الصحة :
تعمل الحجامة حينئذٍ وقاية من الأمراض ، والدليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ما مررت ليلة أسري بي بملء من الملائكة إلا قالوا : يا محمد مُر أمتك بالحجامة ” (2) .
وتستحب في : السابع عشر أو التاسع عشر أو الحادي والعشرين من الشهر العربي ، والدليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر، أو تسعة عشر، أو إحدى وعشرين، لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله ” (3) .
يقول الدكتور محمّد علي البار : ” وتبيّغ الدم : هاج وثار ، والتبيّغ غلبة الدّم على الإنسان ، وهو ما نعرفه اليوم بضغط الدم ، فإذا هاج الدم وارتفع الضغط ، فإنه قد يسبّب انفجار أحد الشرايين في الدماغ فيقتل المصاب أو يصاب بالشلل ، وضغط الدم يؤدي إلى هبوط القلب وإلى الفشل الكلوي ، وكلاهما قاتل ” (4) .
_ في حال المرض :
حينها لا يلتزم المحتجم بتلك الأيام ، بل تعمل الحجامة في أي وقت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ” إذا هاج بأحدكم الدم فليحتجم، فإن الدم إذا تبيّغ بصاحبه يقتله ” (5) ، ويذكر أنّ الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ كان يحتجم في أي وقت هاج به الدم وفي أي ساعة كانت .
ولا يعني ذلك أنها لا تعمل في الأيام المستحبة (17و19و21) من الشهر العربي، وإنما المقصود أنها تعمل مباشرة عند وجود المرض ، كما دل عليه الحديث السابق ذكره : “ إذا هاج بأحدكم الدم ..” ، ولا شك أنّ الأفضل أن تعمل في الأيام المستحبة أيضا ، خصوصا إذا لم يزل المرض بالكلية .
قال ابن القيم الجوزية : ” إنّ الحجامة في النصف الثاني ، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه ، أنفع من أوله وآخره ، وإذا استعملت عند الحاجة إليها ، نفعت أيَّ وقت كان ، من أول الشهر وآخره ” (6) .
________
(1) علي الرضا موسى الكاظم ( 203 هـ ) الرسالة في الطب النبوي ، تحقيق الدكتور محمد علي البار ، الدار السعودية ، جدة ، 2000 ، 181 .
(2) ابن ماجه ، الحديث ( 3470 ) وصححه الألباني في صحيح الجامع .
(3) ابن ماجه ، الحديث ( 3477 ) وصححه الألباني .
(4) نقلا من تحقيقه لكتاب الطب النبوي لعبد الملك بن حبيب الألبيري ، دار القلم ، دمشق ، 1993 ، 49 .
(5) محمد ناصر الدين الألباني ، السلسلة الصحيحة ، مكتبة المعارف ، الرياض ، 1996 ، الحديث ( 2747 )، 6 ، 561 .
(6) محمد بن قيم الجوزية ( 751هـ ) ، الطب النبوي ، بيروت ، المكتبة الثقافية ، 45 .
لو استعرضنا الأحاديث النبويّة التي تحدّثت عن حجامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، نرى أنّ مواضع الحجامة الواردة هي كالتالي :
روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ لُحْيُ جَمَلٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِه ) (1) .
وعن أبي هريرة أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ (2) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ) وقال : ( وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة ) (3) .
وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في الأخدعين (4) ، فعند ابن ماجة عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : ( احْتَجَمَ فِي الأَخْدَعَيْنِ وعلى الْكَاهِلِ ) (5) .
وعند ابن ماجة في سننه عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : ( سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ عَلَى جِذْعٍ فَانْفَكَّتْ قَدَمُه ) ، قَالَ وَكِيعٌ : ( يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ عَلَيْهَا مِنْ وَثْءٍ ) (6) .
ذكرنا أعلاه الأحاديث الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في أماكن الحجامة : ( الرأس ، والأخدعين ، والكاهل ، ظاهر القدم ) ، وهي أماكن ليست بالتوقيفية ، لأنها من الطبّ وليست من الأمور التعبّدية .
وخلال قراءتي لبعض الكتب ، وجدت اختلافًا في تحديد مواضع الحجامة قلةً وكثرةً ، مما يشير إلى أنه لا توجد مواضع محدّدة للحجامة ، ولكنها اجتهادية يمكن أن يعلمها الناس بالخبرة ، فتذكر بعض البحوث الطبية بأنّ للحجامة ثمانية وتسعون موضعًا ، خمسة وخمسون منها على الظهر وثلاثة وأربعون منها على الوجه والبطن ، ولكل مرضٍ مواضع معينة للحجامة ( موضع أو أكثر لكل منها ) من جسم الإنسان ، وأهم هذه المواضع – وهو أيضًا المشترك في كل الأمراض ، وهو الذي يبدأ به الحجّامون دائمًا : ( الكاهل ) .
وترجع كثرة المواضع التي تُعمل عليها الحجامة ؛ لكثرة عملها وتأثيراتها في الجسد ، فهي تعمل على خطوط الطاقة، وهي التي تستخدمها الإبر الصينية ، وقد وجد أن الحجامة تأتي بنتائج أفضل عشرة أضعاف من الإبر الصينية ، وربما يرجع ذلك لأن الإبرة تعمل على نقطة صغيرة ، أما الحجامة فتعمل على دائرة قطرها 5 سم تقريبًا .
__________
(1) البخاري ، الحديث ( 5266 ) .
(2) اليافوخ هو مقدّم الرأس .
(3) أبو داود ، الحديث ( 1798 ) .
(4) الاخدع عرق جانب الرقبة والكاهل بين الكتفين ، والأَخْدَعانِ: عِرْقان خَفِيّانِ في موضع الحِجامة من العُنق ، وربما وقعت الشَّرْطة على أَحدهما فيَنْزِفُ صاحبه لأَن الأَخْدَع شُعْبَةٌ مِنَ الوَرِيد .
(5) ابن ماجه ، الحديث ( 3474 ) .
(6) ابن ماجه ، الحديث ( 3476 ) .
أولا : الحجامة الجافة :
وهي عملية تكوين احتقان دموي في الموضع المطلوب ، بواسطة كأس الهواء بدون تشريط ، ومن خلال الحجامة الجافة يتم وضع الكأس على الموضع المحدّد طبقاً لنوع المرض ، بعد عقمه بالمطهرات الطبية ، ويتم شفط الهواء من خلال الخرطوم حتى يتم تفريغ الهواء ، ومن ثم يترك الكأس هكذا لمدة تتراوح من 3 إلى 5 خمس دقائق ، ثم ينزع الكأس فنجد دائرة حمراء على سطح الجلد مكان فوهة الكأس .
والحجامة الجافة تنقل الأخلاط الرديئة من مواضع الألم إلى سطح الجلد ، وبذلك يختفي جزء كبير من الألم ، وتستخدم الحجامة الجافّة عادة لبعض أمراض النساء وللأطفال وكبار السنّ (1) .
وقد يتمّ أحيانًا دهن الموضع بزيت الزيتون أو زيت النعناع ، ثم الشفط البسيط وتحريك الكأس على وحول المكان المطلوب ، لجذب الدم وتجميعه في طبقة الجلد ، وقد أثبتت هذه الحجامة فعاليتها في كثير من الحالات المرضية وخصوصا الأمراض المستعصية مثل : الشلل والصرع .
ثانيًا : الحجامة الرطبة :
يقول عميد طبّ الأعشاب الأستاذ / محمد عارف ، متحدثًا عن الحجامة الرطبة : ” تزيد على الحجامة الجافّة إخراج الدّم بتشريط مكان الحجامة الجافّة ، وهي نوعٌ من الفصادة الموضعية ، استعملت في الطبّ الحديث ” (2) ، وهي بعد تكوين احتقان دموي ، يقوم الحجّام بعملية التشريط اليسير للطبقة الخارجية من الجلد بعمق قليل جداً حوالي 0.1 مم يشبه الخدش ، وبطول حوالي 4 مم ، وبعدد 1 شرطة أو أكثر أو أقل ، موزعة على 3 صفوف ، للسماح للدم بالخروج ، ثم وضع الكأس لسحب الدم على مكان التشريط وتفريغه من الهواء عن طريق المص ، فيندفع الدم والأخلاط الرديئة من الشعيرات والأوردة الصغيرة إلى سطح الجلد ، بسبب التفريغ الذي أحدثه المص .
علمًا بأنّ الحجّام يكرر تلك العملية ، حتى يلاحظ انقطاع الدم ، وبالنسبة لمرضى السكر والسيولة في الدم ، يستخدم الوخز بالأبر الطبية المعقمة بدلاً من التشريط .
ويتم تحديد نوع الحجامة حسب نوع المرض وحالة المريض وسنّه ، فمريض السكر والضغط المرتفع والطفل وكبير السن كل له معاملة خاصة .
__________
(1) انظر : أسرار العلاج بالحجامة ، 55 .
(2) المصدر السابق .
يمكننا أن نصف طريقة الحجامة الصحّية ، من خلال الخطوات التالية :
1 – يتأكد الحجام أولاً من نظافة وتعقيم آلات الحجامة : كؤوس الهواء (1) ، المشارط (2) ، أدوات التعقيم للجرح (3) .
2 – يخلع الشخص الراغب بالاحتجام ملابسه العلويّة ليبقى عاري الظهر ، بعد أن يدفأ المكان بمدفأة بحيث يصبح الجو دافئاً ( إن لم يكن دافئاً ) ، ويجلس المحتجم جلسة عادية متربِّعاً على رجليه أو حسب الوضع الذي يرتاح به جسمه ، المهم أن يكون بوضعية جلوس بظهرٍ منتصب نوعاً ما .
3 – على الحجّام أن يرتدي القفازات الطبية المعقّمة للبدء بالعمل ، مع تعقيم الموضع المراد حجامته بالمطهّرات الطبية ، وربما يحتاج إلى وضع قليلٍ من الزيت أو الفازلين على حافّة الكأس حتى يحكم لصق المحجمة على الجلد ، وإن كان على ظهر المحجوم شعرٌ في منطقة الحجامة ، ليقم الحجَّام بإزالة الشعر بواسطة شفرة حلاقة في موضع الكأسين ، وذلك لتثبيت الكأس على الجسم جيداً .
4 – يضع الحجام كأس المحجمة على الموضع المراد حجامته ، ثمّ يفرّغ كأس المحجمة من الهواء بواسطة جهاز السحب ، وستلاحظ انسحاب الجلد إلى داخل الكأس ، وبعد دقيقتين أو نحوها ينزع الحجّام الكأس برفق وذلك بالضغط على الجلد عند حافة الكأس .
5 – يشرّط الحجّام موضع الحجامة بالمشرط ( أو موس حلاقة معقّم ) تشريطا خفيفاً سطحياً ـ ويمكنه استخدام إبرة فحص فصيلة الدم في حالة مرض السكر وسيولة الدم ـ (4) .
6 – يضع الحجّام الكأس على نفس الموضع المراد حجامته مرة أخرى ، ثمّ يفرّغ كأس المحجمة من الهواء ، ومن أجل تخفيف ألم الحجامة عليه التدرّج بتفريغ المحجمة من الهواء ـ المص ـ فالأولى تكون أخفّ من الثانية ، والثانية تكون أخف من الثالثة ، وسوف ينسحب الجلد إلى داخل الكأس ويخرج الدم من خلال الجروح التي أحدثها المشرط .
7 – ينتظر الحجَّام ريثما يمتلئ الكأس امتلاءً متوسطاً فينزعه ويفرِّغه بوعاء مسبق الإعداد للنفايات ، ويكرّر نفس العملية مرة أخرى ، حتى يخرج الدّم صافيًا رقيقًا ، أو ينقطع خروج الدم ، ثمّ بعد ذلك ينظّف موضع الحجامة بالمطهّرات الطبية ، ويضع لاصقًا طبيًا على موضع الجروح إذا لم يرقأ الدم ، ثمّ يمسح جوانب موضع الحجامة بمنشفة مبلولة بماء دافئ ، وبذلك تكون انتهيت من عملية الحجامة ، وتعقّم الكاسات بعد الانتهاء من عملية الحجامة بشكل جيّد (5) .
__________
(1) وهي عبارة عن كاسات خاصة بالحجامة تحتوي على بلف في اسفها لسحب وتفريغ الهواء وهي تأتي في حقيبة خاصة بالإضافة للمكبس الذي يسحب الهواء من الكؤوس .
(2) تأتي بأحجام مختلفة بما يقارب خمسة عشر نوعاً حسب سنّ المحتجم ، مع ملاحظة استعمال الشفرة لشخص واحد حصراً ، بعدها ترمى في مكان النفايات ، ولا يجوز أبداً استعمالها لشخص آخر حتى ولو تمَّ تعقيمها بمحلول معقِّم .
(3) وهي المعرفة طبيا مثل الديتول والمسحات الطبية والقطن الطبي وبخاخ الجروح .
(4) يجب أن يكون التشريط على امتداد العروق ـ بالطول وليس بالعرض ـ أي من ناحية الرأس إلى ناحية القدم .
(5) المحجوم في يوم حجامته بإمكانه أن يتناول من الطعام ما يسهل هضمه : كالخضار والفواكه والسكاكر ، وعادةً يُقدَّم للمحجومين طبقٌ من سلطة الخضار الممزوجة مع قطع من الخبز المحمَّر والمتبَّلة بالزيت والخل ، لكن يحظر تناول الحليب ومشتقاته كالجبن واللبن والقشدة والأكلات المطبوخة مع أحد هذه الأنواع طيلة يوم الحجامة ، أي: طوال نهاره وليله فقط ، وذلك لأن الحليب ومشتقاته على الغالب تؤدي للغثيان وتثير الإقياء وتعمل على اضطراب في الضغط بما يؤدي للضرر .
سُئِلَ أنَسٌ عَنْ كَسْبِ الْحَجّامِ ؟ فَقَالَ أَنَسٌ : ( احْتَجَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وَحَجَمَه أبُو طَيْبَةَ ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ ، وَكَلّمَ أهْلَهُ فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ، وَقَالَ : ( إنّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِه الْحِجَامَةُ ) أوْ ( إنّ مِنْ أمْثَلِ دَوَائِكُمُ الْحِجَامَةَ ) (1) .
قال أبو عيسى : حديثُ أنَسٍ حَدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ. وَقَدْ رَخّصَ بَعْضُ أهل الْعِلمِ مِنْ أصْحَابِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ. في كَسبِ الْحَجّامِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعيّ (2) .
قال ابن قيم الجوزية في ( الطبّ النبوي ) بعد ذكر جملٍ من أحاديث الحجامة : ” وفيها دليل على جواز التكسّب بصناعة الحجامة ، وإن كان لا يطيب للحرّ أكل أجرته من غير تحريم عليه ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أجره ، ولم يمنعه من أكله ، وتسميته إيّاه خبيثًا : كتسميته للثوم والبصل خبيثين ، ولم يلزم من ذلك تحريمهما ” (3) .
وبالجملة فخبثُ أجرِ الحجَّام من جنس خُبث أكل الثوم والبصل ، فهذا خبيثُ الرائحة ، وهذا خبيث الكسب ، وهذا هو الذي قرّره أهل العلم .
وعند لقائي مع الأستاذ / يوسف الريس ، أحد أبرز الحجّامين في البحرين ، سألته عن وضع الحجّامين في البحرين وأخذ الأجرة ، فأجاب : ” لا يوجد عرفٌ خاص ولا مبلغ معين متفق عليه في الحجامة ، القليل جدًا من الحجامين في البحرين هم الذين حدّدوا مبلغًا وقدره ( 5 دنانير ) لحجامة موضعٍ واحد ، لكن الغالبية العظمى من الحجّامين رجالاً ونساءً يزاولون الحجامة تطوعًا لله تعالى ، وإحياءً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ” .
__________
(1) الترمذي ، الحديث ( 1199 ) .
(2) المصدر السابق .
(3) الطب النبوي ، 48 .
تقول العرب” ليس من رأى كمن سمع ” في إشارة إلى تقديم شاهد العيان على الراوي ، وفي سعيي لتمحيص الحقيقة حول فعالية العلاج بالحجامة ، آثرنا أن يكون دليلنا ليس ” من عاش كمن سمع أو رأى ” ، لذلك سأنقل لك بعض ما قاله أصحاب تجارب في العلاج بالحجامة ، عاشوا معاناة طويلة مع المرض ثم كان شفاؤهم ، – بإذن الله – باستخدام الحجامة (1) .
يقول محمد . ع ( 24 سنة ) :
ظللت أعاني من مرض النقرس لمدة عشر سنوات كاملة طفت خلالها على عشرات الأطباء وتناولت مختلف الأدوية ، لكن المرض ظل يلازمني ، أخذت بنصيحة أحد الأصدقاء ، فأجريت الحجامة فلاحظت تحسناً في حالتي دفعني إلى تكرارها ، ذهبت إلى أحد الأطباء الذين كنت أتردّد عليهم ، وعرضت عليه نتائج التحليلات التي أجريتها ففغر فاه من المفاجأة ! لقد شفيت تماماً ، لم يكن يعرف السبب ، وعندما أخبرته أنني أجريت حجامة زادت دهشته .
أما حسن . ن :
الذي كان يعاني التهاب الكبد الوبائي (c ) وبعض آلام الروماتيزم ، فقد نصحه طبيبه المعالج بالحجامة ، بعد أن جرّب معه كل أنواع العلاج ، وكانت نصيحته في محلها ، إذ تم ضبط أنزيمات الكبد واختفت آلام الروماتيزم ، صحيح أن فيروس الكبد لم يختف ، لكن السيطرة عليه ومحاصرة آثاره أفضل من السابق ، وهذا ما جعل حسن يحرص على الحجامة كل شهر .
سلطان . ن ( 48 سنة )
موظف بالمطار ، كان يعاني كسلاً في الكبد والتهاباً في القولون ، ولأن عمله يتطلب العمل بنظام الورديات فيعمل يوماً في النهار وآخر في الليل ، كان كثيرا ما يصاب بنزلات البرد الحادة ، ذهب لأكثر من طبيب فكان إذا عالج مرضاّ يستفحل الآخر ، لم يجد بداً من اللجوء إلى الحجامة رغم أنه كان يعارضها ، ولا يعتقد في فعاليتها الطبية ، ولكن يأسه من عدم فعالية ما يتناوله من أدوية عديدة جعله يوافق على تجربة الحجامة ، على الفور اختفت نزلات البرد المتكررة التي كانت تهاجمه بسبب تقوية جهازه المناعي بعد الحجامة ، أما كسل الكبد والتهاب القولون فقد تحقّقت نتائج جيدة في علاجهما ، مع تكرار الحجامة التي أصبح لا يستطيع الاستغناء عنها بعدما استغنى بها عن كل العلاجات الأخرى .
فكري راشد ( 33 سنة )
كان يشكو من ارتفاع في ضغط العين لمدة خمس سنوات ، وجرب كل وسائل العلاج ، ونصحه خاله بالحجامة ، ومنذ أن أجرى الحجامة مجاناً شفي تماماً .
محمود النادي ( 42 سنة )
كان مصاباً بشلل نصفي ، وأخبره الأطباء أنه لا علاج له ، وذهب به بعض أصدقائه إلى إحدى قرى صعيد مصر ، ولما رآه أحد الحجّامين استبشر به وطمأنه ، وأجرى له الحجامة بعدها بأيام قليلة ، عاد إلى حالته الطبيعية كأنه لم يكن يشكو من شيء .
أم خالد :
كانت تعاني من آلام روماتيزمية مزمنة وطرقت أبواب المستشفيات دون جدوى ، وصف لها الأطباء المهدئات والمسكنات الوقتية ، وكان يعاودها الألم بعد انقطاع الدواء خصوصاً أنها تسكن في منطقة باردة ، تقول : ” استمرت معاناتي مع الروماتيزم حتى نصحتني إحدى الأخوات ممن جربن الحجامة ووجدن منافعها أن أحذو حذوها ، عملت بنصيحتها وأجريت الحجامة في مواضع الألم على الركبتين والأقدام ، والحمد لله تحسنت حالتي وخفت الآلام .
وفي الختام .. أرجو ألا يحرمنا الله الأجر والثواب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
__________
(1) نقلا عن مجلة الأسرة ، في موضوع خاص عن الحجامة .
ســـد الحاجة فـي أحـكـام الحجــامـة لـحسن قاري الحسيني
منقول من 525 بحثاً ومقالاً في الطب والأعشاب
من مجموعة من المؤلفين بالمكتبة الشاملة