دراسات وبحوث وتحليل المنتدى-الإدارة العلمية والبحوثعالم الجآن - الأولون في كوكب الأرض

أحاديث الجن والشياطين في صحيح البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى .

1- ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏ أنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏إِدَاوَةً ‏ ‏لِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقَالَ أَنَا ‏ ‏أَبُو هُرَيْرَةَ ‏ ‏فَقَالَ ‏ ‏ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مَشَيْتُ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ قَالَ هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا ‏ صحيح البخاري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
الشرح :

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :

‏قَوْله : ( اِبْغِنِي ) ‏
‏قَالَ اِبْن التِّين : هُوَ مَوْصُول مِنْ الثُّلَاثِيّ تَقُول : بَغَيْت الشَّيْء طَلَبْته وَأَبْغَيْتُك الشَّيْء أَعَنْتُك عَلَى طَلَبه . ‏

‏قَوْله : ( وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْد جِنّ نَصِيبِينَ ) ‏
‏يَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَبَرًا عَمَّا وَقَعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَبَرًا عَمَّا مَضَى قَبْل ذَلِكَ , وَنَصِيبِينَ بَلْدَة مَشْهُورَة بِالْجَزِيرَةِ , وَوَقَعَ فِي كَلَام اِبْن التِّين أَنَّهَا بِالشَّامِ وَفِيهِ تَجَوُّز , فَإِنَّ الْجَزِيرَة بَيْن الشَّام وَالْعِرَاق , وَيَجُوز صَرْف نَصِيبِينَ وَتَرْكه . ‏

‏قَوْله : ( فَسَأَلُونِي الزَّاد ) ‏
‏أَيْ مِمَّا يَفْضُل عَنْ الْإِنْس , وَقَدْ يَتَعَلَّق بِهِ مَنْ يَقُول إِنَّ الْأَشْيَاء قَبْل الشَّرْع عَلَى الْحَظْر حَتَّى تَرِد الْإِبَاحَة , وَيُجَاب عَنْهُ بِمَنْعِ الدَّلَالَة عَلَى ذَلِكَ , بَلْ لَا حُكْم قَبْل الشَّرْع عَلَى الصَّحِيح . ‏

‏قَوْله : ( فَدَعَوْت اللَّه لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَة إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طُعْمًا ) ‏
‏فِي رِوَايَة السَّرَخْسِيّ ” إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا ” قَالَ اِبْن التِّين : يَحْتَمِل أَنْ يَجْعَل اللَّه ذَلِكَ عَلَيْهَا , وَيَحْتَمِل أَنْ يُذِيقهُمْ مِنْهَا طَعَامًا . وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود عِنْد مُسْلِم ” إِنَّ الْبَعْر زَادُ دَوَابّهمْ ” وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حَدِيث الْبَاب لِإِمْكَانِ حَمْل الطَّعَام فِيهِ عَلَى طَعَام الدَّوَابّ . ‏ 

2– ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏ عَنْ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: ‏ إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي ‏ ‏سُلَيْمَانَ ‏ ‏رَبِّ (هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ‏فَرَدَدْتُهُ ‏ ‏خَاسِئًا ‏ عِفْرِيتٌ ‏ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ مِثْلُ زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَةُصحيح البخاري
الشرح :
‏ قال الحافظ ابن حجر:
حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي تَفَلُّت الْعِفْرِيت عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ‏

‏قَوْله : ( تَفَلَّتَ عَلَيَّ ) ‏
‏بِتَشْدِيدِ اللَّام أَيْ تَعَرَّضَ لِي فَلْتَة أَيْ بَغْتَة . ‏

‏قَوْلُهُ : ( الْبَارِحَة ) ‏
‏أَيْ اللَّيْلَة الْخَالِيَة الزَّائِلَة , وَالْبَارِح الزَّائِل وَيُقَال مِنْ بَعْد الزَّوَال إِلَى آخَر النَّهَار الْبَارِحَة . ‏

‏قَوْله : ( فَذَكَرْت دَعْوَة أَخِي سُلَيْمَان ) ‏
أَيْ قَوْله : ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) وَفِي هَذِهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ رِعَايَة لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام , وَيُحْتَمَل أَنْ تَكُون خُصُوصِيَّة سُلَيْمَان اِسْتِخْدَام الْجِنّ فِي جَمِيع مَا يُرِيدهُ لَا فِي هَذَا الْقَدْر فَقَطْ , وَاسْتَدَلَّ الْخَطَّابِيُّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ أَصْحَاب سُلَيْمَان كَانُوا يَرَوْنَ الْجِنّ فِي أَشْكَالهمْ وَهَيْئَتهمْ حَال تَصَرُّفهمْ , قَالَ : وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) فَالْمُرَاد الْأَكْثَر الْأَغْلَب مِنْ أَحْوَال بَنِي آدَم , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ نَفْي رُؤْيَة الْإِنْس لِلْجِنِّ عَلَى هَيْئَتهمْ لَيْسَ بِقَاطِع مِنْ الْآيَة بَلْ ظَاهِرهَا أَنَّهُ مُمْكِن , فَإِنَّ نَفْي رُؤْيَتنَا إِيَّاهُمْ مُقَيَّد بِحَالِ رُؤْيَتهمْ لَنَا وَلَا يَنْفِي إِمْكَان رُؤْيَتنَا لَهُمْ فِي غَيْر تِلْكَ الْحَالَة , وَيُحْتَمَل الْعُمُوم . وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَكْثَر الْعُلَمَاء حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيّ : مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنّ أَبْطَلْنَا شَهَادَته , وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . ‏

‏قَوْله : ( عِفْرِيت مُتَمَرِّد مِنْ إِنْس أَوْ جَانّ مِثْل زِبْنِيَة جَمَاعَته زَبَانِيَة ) ‏
الزَّبَانِيَة فِي الْأَصْل اِسْم أَصْحَاب الشُّرْطَة , مُشْتَقّ مِنْ الزَّبْن وَهُوَ الدَّفْع , وَأُطْلِقَ عَلَى الْمَلَائِكَة , ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ الْكُفَّار فِي النَّار , وَوَاحِد الزَّبَانِيَة زِبْنِيَة وَقِيلَ : زَبْنِي وَقِيلَ : زَابِن وَقِيلَ : زَبَانِي وَقَالَ قَوْم لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه وَقِيلَ وَاحِده زِبْنِيت وَزْن عِفْرِيت , وَيُقَال عِفْرِيَة لُغَة مُسْتَقِلَّة لَيْسَتْ مَأْخُوذَة مِنْ عِفْرِيت , وَمُرَاد الْمُصَنِّف بِقَوْلِهِ : ” مِثْل زِبْنِيَة ” أَيْ أَنَّهُ قِيلَ فِي عِفْرِيت عِفْرِيَة , وَهِيَ قِرَاءَة رُوِيَتْ فِي الشَّوَاذّ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق , وَعَنْ أَبِي رَجَاء الْعُطَارِدِيّ وَأَبِي السِّمَال بِالْمُهْمَلَةِ وَاللَّام , وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : ‏ ‏كَأَنَّهُ كَوْكَب فِي إِثْر عِفْرِيَة ‏ ‏مُصَوِّب فِي ظَلَام اللَّيْل مُنْتَصِب ‏ ‏وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِير مِنْ بَيَان أَحْوَال الْجِنّ فِي ” بَاب صِفَة إِبْلِيس وَجُنُوده ” مِنْ بَدْء الْخَلْق . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : الْجِنّ عَلَى مَرَاتِب , فَالْأَصْل جِنِّيّ , فَإِنْ خَالَطَ الْإِنْس قِيلَ : عَامِر , وَمَنْ تَعَرَّضَ مِنْهُمْ لِلصِّبْيَانِ قِيلَ : أَرْوَاح , وَمِنْ زَادَ فِي الْخُبْث قِيلَ شَيْطَان , فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ : مَارِد , فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ : عِفْرِيت . وَقَالَ الرَّاغِب : الْعِفْرِيت مِنْ الْجِنّ هُوَ الْعَارِم الْخَبِيث , وَإِذَا بُولِغَ فِيهِ قِيلَ عِفْرِيت نِفْرِيت . وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : الْعِفْرِيت الْمُوثَق الْخَلْق , وَأَصْله مِنْ الْعَفَر وَهُوَ التُّرَاب , وَرَجُل عِفِرّ بِكَسْرِ أَوَّله وَثَانِيه وَتَثْقِيل ثَالِثه إِذَا بُولِغَ فِيهِ أَيْضًا .

3- ‏ عَنْ ‏ ‏ابْنِ عَبَّاسٍ ‏رضي الله عنهما ‏قَالَ ‏:
انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى ‏ ‏سُوقِ عُكَاظٍ ‏ ‏ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ فَقَالُوا مَا لَكُمْ فَقَالُوا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ قَالَ مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا مَا حَدَثَ فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ قَالَ فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ ‏ ‏تِهَامَةَ ‏ ‏إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏بِنَخْلَةَ ‏ ‏وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى ‏ ‏سُوقِ عُكَاظٍ ‏ ‏وَهُوَ ‏ ‏يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ ‏ ‏فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَسَمَّعُوا لَهُ فَقَالُوا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا يَا قَوْمَنَا ‏
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ‏
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ ‏ .
وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّصحيح البخاري
الشرح :
‏قَوْله : ( اِنْطَلَقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ‏
كَذَا اِخْتَصَرَهُ الْبُخَارِيّ هُنَا وَفِي صِفَة الصَّلَاة , وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي ” الْمُسْتَخْرَج ” عَنْ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ مُعَاذ بْن الْمُثَنَّى عَنْ مُسَدَّد شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ فَزَادَ فِي أَوَّله ” مَا قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنّ وَلَا رَآهُمْ اِنْطَلَقَ ” إِلَخْ , وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ شَيْبَانَ بْن فَرُّوخ عَنْ أَبِي عَوَانَة بِالسَّنَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْبُخَارِيّ , فَكَأَنَّ الْبُخَارِيّ حَذَفَ هَذِهِ اللَّفْظَة عَمْدًا لِأَنَّ اِبْن مَسْعُود أَثْبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْجِنّ , فَكَانَ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَى نَفْي اِبْن عَبَّاس . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ مُسْلِم فَأَخْرَجَ عَقِب حَدِيث اِبْن عَبَّاس هَذَا حَدِيثَ اِبْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ” أَتَانِي دَاعِي الْجِنّ فَانْطَلَقْت مَعَهُ فَقَرَأْت عَلَيْهِ الْقُرْآن ” وَيُمْكِن الْجَمْع بِالتَّعَدُّدِ. ‏

‏قَوْله : ( فِي طَائِفَة مِنْ أَصْحَابه ) ‏
تَقَدَّمَ فِي أَوَائِل الْمَبْعَث فِي ” بَاب ذِكْر الْجِنّ ” أَنَّ اِبْن إِسْحَاق وَابْن سَعْد ذَكَرَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ذِي الْقِعْدَة سَنَة عَشْر مِنْ الْمَبْعَث لَمَّا خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِف ثُمَّ رَجَعَ مِنْهَا , وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي هَذَا الْحَدِيث ” إِنَّ الْجِنّ رَأَوْهُ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفَجْر ” وَالصَّلَاة الْمَفْرُوضَة إِنَّمَا شُرِعَتْ لَيْلَة الْإِسْرَاء وَالْإِسْرَاء كَانَ عَلَى الرَّاجِح قَبْل الْهِجْرَة بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاث فَتَكُون الْقِصَّة بَعْد الْإِسْرَاء , لَكِنَّهُ مُشْكِل مِنْ جِهَة أُخْرَى , لِأَنَّ مُحَصَّل مَا فِي الصَّحِيح كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْء الْخَلْق وَمَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى الطَّائِف لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابه إِلَّا زَيْد بْن حَارِثَة , وَهُنَا قَالَ إِنَّهُ اِنْطَلَقَ فِي طَائِفَة مِنْ أَصْحَابه , فَلَعَلَّهَا كَانَتْ وُجْهَة أُخْرَى . وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ لَاقَاهُ بَعْض أَصْحَابه فِي أَثْنَاء الطَّرِيق فَرَافَقُوهُ . ‏

‏قَوْله : ( عَامِدِينَ ) ‏
‏أَيْ قَاصِدِينَ . ‏

‏قَوْله : ( إِلَى سُوق عُكَاظ ) ‏
بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الْكَاف وَآخِره ظَاء مُعْجَمَة بِالصَّرْفِ وَعَدَمه , قَالَ اللِّحْيَانِيّ الصَّرْف لِأَهْلِ الْحِجَاز وَعَدَمه لُغَة تَمِيم , وَهُوَ مَوْسِم مَعْرُوف لِلْعَرَبِ . بَلْ كَانَ مِنْ أَعْظَم مَوَاسِمهمْ , وَهُوَ نَخْل فِي وَادٍ بَيْن مَكَّة وَالطَّائِف وَهُوَ إِلَى الطَّائِف أَقْرَب بَيْنهمَا عَشَرَة أَمْيَال , وَهُوَ وَرَاء قَرْن الْمَنَازِل بِمَرْحَلَةٍ مِنْ طَرِيق صَنْعَاء الْيَمَن . وَقَالَ الْبَكْرِيّ : أَوَّل مَا أُحْدِثَتْ قَبْل الْفِيل بِخَمْسَ عَشْرَة سَنَة , وَلَمْ تَزَلْ سُوقًا إِلَى سَنَة تِسْع وَعِشْرِينَ وَمِائَة , فَخَرَجَ الْخَوَارِج الْحَرُورِيَّة فَنَهَبُوهَا فَتُرِكَتْ إِلَى الْآن , كَانُوا يُقِيمُونَ بِهِ جَمِيع شَوَّال يَتَبَايَعُونَ وَيَتَفَاخَرُونَ وَتُنْشِد الشُّعَرَاء مَا تَجَدَّدَ لَهُمْ , وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارهمْ كَقَوْلِ حَسَّان : ‏ ‏سَأَنْشُرُ إِنْ حَيِيت لَكُمْ كَلَامًا ‏ ‏يُنْشَر فِي الْمَجَامِع مِنْ عُكَاظ ‏ ‏وَكَانَ الْمَكَان الَّذِي يَجْتَمِعُونَ بِهِ مِنْهُ يُقَال لَهُ الِابْتِدَاء , وَكَانَتْ هُنَاكَ صُخُور يَطُوفُونَ حَوْلهَا . ثُمَّ يَأْتُونَ مَجَنَّة فَيُقِيمُونَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَة مِنْ ذِي الْقِعْدَة . ثُمَّ يَأْتُونَ ذَا الْمَجَاز , وَهُوَ خَلْف عَرَفَة فَيُقِيمُونَ بِهِ إِلَى وَقْت الْحَجّ , وَقَالَ اِبْن التِّين : سُوق عُكَاظ مِنْ إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفْسه , كَذَا قَالَ , وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ السُّوق كَانَتْ تُقَام بِمَكَانٍ مِنْ عُكَاظ يُقَال لَهُ الِابْتِدَاء لَا يَكُون كَذَلِكَ . ‏

‏قَوْله : ( وَقَدْ حِيلَ ) ‏
بِكَسْرِ الْحَاء الْمُهْمَلَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا لَام أَيْ حُجِزَ وَمُنِعَ عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ . ‏

‏قَوْله : ( بَيْن الشَّيَاطِين وَبَيْن خَبَرِ السَّمَاء وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُب ) ‏
بِضَمَّتَيْنِ جَمْع شِهَاب , وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْحَيْلُولَة وَإِرْسَال الشُّهُب وَقَعَ فِي هَذَا الزَّمَان الْمُقَدَّم ذِكْره وَاَلَّذِي تَضَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَار أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الْبَعْثَة النَّبَوِيَّة , وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّد تَغَايُر زَمَن الْقِصَّتَيْنِ , وَأَنَّ مَجِيء الْجِنّ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآن كَانَ قَبْل خُرُوجه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِف بِسَنَتَيْنِ , وَلَا يُعَكِّر عَلَى ذَلِكَ إِلَّا قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر إِنَّهُمَا رَأَوْهُ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفَجْر , لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْل فَرْض الصَّلَوَات لَيْلَة الْإِسْرَاء فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْل الْإِسْرَاء يُصَلِّي قَطْعًا , وَكَذَلِكَ أَصْحَابه لَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ اُفْتُرِضَ قَبْل الْخَمْس شَيْء مِنْ الصَّلَاة أَمْ لَا ؟ فَيَصِحّ عَلَى هَذَا قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّ الْفَرْض أَوَّلًا كَانَ صَلَاة قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَصَلَاة قَبْل غُرُوبهَا , وَالْحُجَّة فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } وَنَحْوهَا مِنْ الْآيَات , فَيَكُونُ إِطْلَاق صَلَاة الْفَجْر فِي حَدِيث الْبَاب بِاعْتِبَارِ الزَّمَان لَا لِكَوْنِهَا إِحْدَى الْخَمْس الْمُفْتَرَضَة لَيْلَة الْإِسْرَاء , فَتَكُونُ قِصَّة الْجِنّ مُتَقَدِّمَة مِنْ أَوَّلِ الْمَبْعَث . وَهَذَا الْمَوْضِع مِمَّا لَمْ يُنَبِّه عَلَيْهِ أَحَد مِمَّنْ وَقَفْت عَلَى كَلَامِهِمْ فِي شَرْح هَذَا الْحَدِيث . وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ وَالطَّبَرِيُّ حَدِيث الْبَاب بِسِيَاقِ سَالِم مِنْ الْإِشْكَال الَّذِي ذَكَرْته مِنْ طَرِيق أَبِي إِسْحَاق السُّبَيْعِيِّ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْنِ عَبَّاس قَالَ ” كَانَتْ الْجِنّ تَصْعَد إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا يَسْتَمِعُونَ الْوَحْي , فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَة زَادُوا فِيهَا أَضْعَافًا , فَالْكَلِمَة تَكُونُ حَقًّا وَأَمَّا مَا زَادُوا فَيَكُونُ بَاطِلًا , فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا مَقَاعِدهمْ , وَلَمْ تَكُنْ النُّجُوم يُرْمَى بِهَا قَبْل ذَلِكَ ” وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَغَيْرهَا مِنْ طَرِيق عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر مُطَوَّلًا وَأَوَّله ” كَانَ لِلْجِنِّ مَقَاعِد فِي السَّمَاء يَسْتَمِعُونَ الْوَحْي ” الْحَدِيث ” فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بُعِثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَدُحِرَتْ الشَّيَاطِين مِنْ السَّمَاء , وَرُمُوا بِالْكَوَاكِبِ , فَجَعَلَ لَا يَصْعَد أَحَد مِنْهُمْ إِلَّا اِحْتَرَقَ , وَفَزِعَ أَهْل الْأَرْض لِمَا رَأَوْا مِنْ الْكَوَاكِب وَلَمْ تَكُنْ قَبْل ذَلِكَ فَقَالُوا : هَلَكَ أَهْل السَّمَاء كَانَ أَهْل الطَّائِف أَوَّل مَنْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ فَعَمَدُوا إِلَى أَمْوَالهمْ فَسَيَّبُوهَا وَإِلَى عَبِيدهمْ فَعَتَقُوهَا , فَقَالَ لَهُمْ رَجُل : وَيْلكُمْ لَا تُهْلِكُوا أَمْوَالكُمْ , فَإِنَّ مَعَالِمكُمْ مِنْ الْكَوَاكِب الَّتِي تَهْتَدُونَ بِهَا لَمْ يَسْقُط مِنْهَا شَيْء , فَأَقْلَعُوا . وَقَالَ إِبْلِيس : حَدَثَ فِي الْأَرْض حَدَث , فَأَتَى مِنْ كُلّ أَرْضٍ بِتُرْبَةٍ فَشَمَّهَا , فَقَالَ لِتُرْبَةِ تِهَامَة : هَاهُنَا حَدَثَ الْحَدَث , فَصَرَفَ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنْ الْجِنّ , فَهُمْ الَّذِينَ اِسْتَمَعُوا الْقُرْآن ” وَعِنْد أَبِي دَاوُدَ فِي ” كِتَاب الْمَبْعَث ” مِنْ طَرِيق الشَّعْبِيّ أَنَّ الَّذِي قَالَ لِأَهْلِ الطَّائِف مَا قَالَ هُوَ عَبْد يَا لَيْل اِبْن عَمْرو , وَكَانَ قَدْ عَمِيَ , فَقَالَ لَهُمْ : لَا تَعْجَلُوا وَانْظُرُوا , فَإِنْ كَانَتْ النُّجُوم الَّتِي يُرْمَى بِهَا هِيَ الَّتِي تُعْرَف فَهُوَ عِنْد فَنَاء النَّاس , وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَف فَهُوَ مِنْ حَدَث فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ نُجُوم لَا تُعْرَف , فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ سَمِعُوا بِمَبْعَثِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق السُّدِّيِّ مُطَوَّلًا , وَذَكَرَ اِبْنُ إِسْحَاق نَحْوَهُ مُطَوَّلًا بِغَيْرِ إِسْنَاد فِي ” مُخْتَصَر اِبْنِ هِشَام ” , زَادَ فِي رِوَايَة يُونُس بْن بُكَيْر فَسَاقَ سَنَده بِذَلِكَ عَنْ يَعْقُوب بْن عُتْبَة بْن الْمُغِيرَة بْنِالْأَخْنَس أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيف يُقَال لَهُ عَمْرو بْن أُمَيَّة كَانَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَب , وَكَانَ أَوَّل مَنْ فَزِعَ لَمَّا رُمِيَ بِالنُّجُومِ مِنْ النَّاس , فَذَكَرَ نَحْوَهُ . وَأَخْرَجَهُ اِبْنُ سَعْد مِنْ وَجْه آخَر عَنْ يَعْقُوب بْنِ عُتْبَة قَالَ : أَوَّل الْعَرَب فَزِعَ مِنْ رَمْي النُّجُوم ثَقِيف , فَأَتَوْا عَمْرو بْن أُمَيَّة . وَذَكَرَ الزُّبَيْر بْن بَكَّار فِي النَّسَب نَحْوَهُ بِغَيْرِ سِيَاقه , وَنُسِبَ الْقَوْل الْمَنْسُوب لِعَبْدِ يَا لَيْل لِعُتْبَةَ بْن رَبِيعه , فَلَعَلَّهُمَا تَوَارَدَا عَلَى ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْأَخْبَار تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقِصَّة وَقَعَتْ أَوَّلَ الْبَعْثَة وَهُوَ الْمُعْتَمَد , وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ عِيَاض وَتَبِعَهُ الْقُرْطُبِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيْرهمَا مِنْ حَدِيث الْبَاب مَوْضِعًا آخَر وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا ذَكَرْته , فَقَالَ عِيَاض : ظَاهِرُ الْحَدِيث أَنَّ الرَّمْي بِالشُّهُبِ لَمْ يَكُنْ قَبْل مَبْعَث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِنْكَارِ الشَّيَاطِين لَهُ وَطَلَبِهِمْ سَبَبه , وَلِهَذَا كَانَتْ الْكَهَانَة فَاشِيَة فِي الْعَرَب وَمَرْجُوعًا إِلَيْهَا فِي حُكْمهمْ , حَتَّى قُطِعَ سَبَبهَا بِأَنْ حِيلَ بَيْن الشَّيَاطِين وَبَيْن اِسْتِرَاق السَّمْع , كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَة { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا , وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُد مِنْهَا مَقَاعِد لِلسَّمْعِ , فَمَنْ يَسْتَمِع الْآن يَجِد لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } وَقَوْله تَعَالَى { إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْع لَمَعْزُولُونَ } وَقَدْ جَاءَتْ أَشْعَار الْعَرَب بِاسْتِغْرَابِ رَمْيهَا وَإِنْكَاره إِذْ لَمْ يَعْهَدُوهُ قَبْل الْمَبْعَث , وَكَانَ ذَلِكَ أَحَد دَلَائِل نُبُوَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . يُؤَيِّدهُ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيث مِنْ إِنْكَار الشَّيَاطِين . قَالَ وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمْ تَزَلْ الشُّهُب يُرْمَى بِهَا مُذْ كَانَتْ الدُّنْيَا , وَاحْتَجُّوا بِمَا جَاءَ فِي أَشْعَار الْعَرَب مِنْ ذَلِكَ قَالَ : وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ اِبْنِ عَبَّاس وَالزُّهْرِيّ , وَرَفَعَ فِيهِ اِبْنُ عَبَّاس حَدِيثًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لِمَنْ اِعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { فَمَنْ يَسْتَمِع الْآن يَجِد لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } قَالَ : غُلِّظَ أَمْرهَا وَشُدِّدَ اِنْتَهَى . وَهَذَا الْحَدِيث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ طَرِيق الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْد اللَّه عَنْ اِبْنِ عَبَّاس عَنْ رِجَال مِنْ الْأَنْصَار قَالُوا ” كُنَّا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ , فَقَالَ : مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهَذَا إِذَا رُمِيَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّة ” ؟ الْحَدِيث . وَأَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر قَالَ : سُئِلَ الزُّهْرِيُّ عَنْ النُّجُوم أَكَانَ يُرْمَى بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة ؟ قَالَ : نَعَمْ , وَلَكِنَّهُ إِذْ جَاءَ الْإِسْلَام غُلِّظَ وَشُدِّدَ . وَهَذَا جَمْع حَسَن . وَمُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” إِذَا رُمِيَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة ” أَيْ جَاهِلِيَّة الْمُخَاطَبِينَ , وَلَا يَلْزَم أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْل الْمَبْعَث فَإِنَّ الْمُخَاطَب بِذَلِكَ الْأَنْصَار , وَكَانُوا قَبْل إِسْلَامهمْ فِي جَاهِلِيَّة , فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْلِمُوا إِلَّا بَعْد الْمَبْعَث ثَلَاث عَشْرَة سَنَة . وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ : لَمْ يَزَلْ الْقَذْف بِالنُّجُومِ قَدِيمًا , وَهُوَ مَوْجُود فِي أَشْعَار قُدَمَاء الْجَاهِلِيَّة كَأَوْسِ بْن حَجَرٍ وَبِشْر بْن أَبِي حَازِم وَغَيْرهمَا . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : يُجْمَع بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ يُرْمَى بِهَا قَبْل الْمَبْعَث رَمْيًا يَقْطَع الشَّيَاطِين عَنْ اِسْتِرَاق السَّمْع , وَلَكِنْ كَانَتْ تُرْمَى تَارَة وَلَا تُرْمَى أُخْرَى , وَتُرْمَى مِنْ جَانِبٍ وَلَا تُرْمَى مِنْ جَمِيع الْجَوَانِب , وَلَعَلَّ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلّ جَانِبٍ دُحُورًا } اِنْتَهَى . ثُمَّ وَجَدْت عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه مَا يَرْفَع الْإِشْكَال وَيَجْمَع بَيْن مُخْتَلَف الْأَخْبَار قَالَ : كَانَ إِبْلِيس يَصْعَد إِلَى السَّمَاوَات كُلّهنَّ يَتَقَلَّب فِيهِنَّ كَيْف شَاءَ لَا يُمْنَع مُنْذُ أُخْرِجَ آدَمُ إِلَى أَنْ رُفِعَ عِيسَى , فَحُجِبَ حِينَئِذٍ مِنْ أَرْبَعِ سَمَاوَات , فَلَمَّا بُعِثَ نَبِيّنَا حُجِبَ مِنْ الثَّلَاث فَصَارَ يَسْتَرِق السَّمْع هُوَ وَجُنُوده وَيُقْذَفُونَ بِالْكَوَاكِبِ . وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيق الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْنِ عَبَّاس قَالَ : لَمْ تَكُنْ السَّمَاء تُحْرَس فِي الْفَتْرَة بَيْن عِيسَى وَمُحَمَّد , فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّد حُرِسَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَرُجِمَتْ الشَّيَاطِين , فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ . وَمِنْ طَرِيق السُّدِّيِّ قَالَ : إِنَّ السَّمَاء لَمْ تَكُنْ تُحْرَس إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْض نَبِيّ أَوْ دِين ظَاهِرٌ , وَكَانَتْ الشَّيَاطِين قَدْ اِتَّخَذَتْ مَقَاعِد يَسْمَعُونَ فِيهَا مَا يَحْدُث , فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّد رُجِمُوا . وَقَالَ الزَّيْن ابْن الْمُنِير : ظَاهِرُ الْخَبَر أَنَّ الشُّهُب لَمْ تَكُنْ يُرْمَى بِهَا , وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيث مُسْلِم . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ يَسْتَمِع الْآن يَجِد لَهُ شِهَابًا رَصَدًا } فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشُّهُب كَانَتْ تُرْمَى فَتُصِيب تَارَة وَلَا تُصِيب أُخْرَى , وَبَعْد الْبَعْثَة أَصَابَتْهُمْ إِصَابَة مُسْتَمِرَّة فَوَصَفُوهَا لِذَلِكَ بِالرَّصَدِ , لِأَنَّ الَّذِي يَرْصُد الشَّيْء لَا يُخْطِئهُ , فَيَكُونُ الْمُتَجَدِّد دَوَام الْإِصَابَة لَا أَصْلهَا . وَأَمَّا قَوْل السُّهَيْلِيّ : لَوْلَا أَنَّ الشِّهَاب قَدْ يُخْطِئ الشَّيْطَان لَمْ يَتَعَرَّض لَهُ مَرَّة أُخْرَى , فَجَوَابه أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَقَع التَّعَرُّض مَعَ تَحَقُّق الْإِصَابَة لِرَجَاءِ اِخْتِطَاف الْكَلِمَة وَإِلْقَائِهَا قَبْل إِصَابَة الشِّهَاب , ثُمَّ لَا يُبَالِي الْمُخْتَطِف بِالْإِصَابَةِ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرّ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَغَيْرهمَا وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَر بِغَيْرِ سَنَدٍ مِنْ طَرِيق لَهَب – بِفَتْحَتَيْنِ وَيُقَال بِالتَّصْغِيرِ – بْنِ مَالِك اللَّيْثِيِّ قَالَ : ذَكَرْت عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَهَانَة فَقُلْت : نَحْنُ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَ حِرَاسَة السَّمَاء وَرَجْم الشَّيَاطِين وَمَنْعهمْ مِنْ اِسْتِرَاق السَّمْع عِنْد قَذْف النُّجُوم , وَذَلِكَ أَنَّا اِجْتَمَعْنَا عِنْد كَاهِنٍ لَنَا يُقَال لَهُ خُطْر بْن مَالِك – وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَسِتَّة وَثَمَانُونَ سَنَة – فَقُلْنَا : يَا خُطْر , هَلْ عِنْدك عِلْم مِنْ هَذِهِ النُّجُوم الَّتِي يُرْمَى بِهَا , فَإِنَّا فَزِعْنَا مِنْهَا وَخِفْنَا سُوء عَاقِبَتهَا ؟ الْحَدِيث , وَفِيهِ : فَانْقَضَّ نَجْم عَظِيم مِنْ السَّمَاء , فَصَرَخَ الْكَاهِن رَافِعًا صَوْته : ‏ ‏أَصَابَهُ أَصَابَهُ ‏ ‏خَامَرَهُ عَذَابه ‏ ‏أَحْرَقَهُ شِهَابه ‏ ‏الْأَبْيَات , وَفِي الْخَبَر أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا : ‏ ‏قَدْ مُنِعَ السَّمْع عُتَاة الْجَان ‏ ‏بِثَاقِبٍ يُتْلِف ذِي سُلْطَان ‏ ‏مِنْ أَجْل مَبْعُوث عَظِيم الشَّان ‏ ‏وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ : ‏ ‏أَرَى لِقَوْمِي مَا أَرَى لِنَفْسِي ‏ ‏أَنْ يَتَبَعُوا خَيْر نَبِيّ الْإِنْس ‏ ‏الْحَدِيث بِطُولِهِ , قَالَ أَبُو عُمَر : سَنَده ضَعِيف جِدًّا , وَلَوْلَا فِيهِ حُكْم لَمَا ذَكَرْته لِكَوْنِهِ عَلَمًا مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة وَالْأُصُول . فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ الرَّمْي بِهَا غُلِّظَ وَشُدِّدَ بِسَبَبِ نُزُول الْوَحْي فَهَلَّا اِنْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الْوَحْي بِمَوْتِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نُشَاهِدهَا الْآن يُرْمَى بِهَا ؟ فَالْجَوَاب يُؤْخَذ مِنْ حَدِيث الزُّهْرِيِّ الْمُتَقَدِّم , فَفِيهِ عِنْد مُسْلِم قَالُوا : كُنَّا نَقُول وُلِدَ اللَّيْلَة رَجُل عَظِيم وَمَاتَ رَجُل عَظِيم , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنَّهَا لَا تُرْمَى لِمَوْتِ أَحَد وَلَا لِحَيَاتِهِ , وَلَكِنْ رَبّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا أَخْبَرَ أَهْل السَّمَاوَات بَعْضهمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغ الْخَبَر السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَخْطَف الْجِنّ السَّمْع فَيَقْذِفُونَ بِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ . فَيُؤْخَذ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَبَب التَّغْلِيظ وَالْحِفْظ لَمْ يَنْقَطِع لِمَا يَتَجَدَّد مِنْ الْحَوَادِث الَّتِي تُلْقَى بِأَمْرِهِ إِلَى الْمَلَائِكَة , فَإِنَّ الشَّيَاطِين مَعَ شِدَّة التَّغْلِيظ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ بَعْد الْمَبْعَث لَمْ يَنْقَطِع طَمَعهمْ فِي اِسْتِرَاق السَّمْع فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْف بِمَا بَعْده , وَقَدْ قَالَ عُمَر لِغَيْلَان بْن سَلَمَة لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ : إِنِّي أَحْسِب أَنَّ الشَّيَاطِين فِيمَا تَسْتَرِق السَّمْع سَمِعَتْ بِأَنَّك سَتَمُوتُ فَأَلْقَتْ إِلَيْك ذَلِكَ الْحَدِيث , أَخْرَجَهُ عَبْد الرَّزَّاق وَغَيْره . فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اِسْتِرَاقهمْ السَّمْع اِسْتَمَرَّ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانُوا يَقْصِدُونَ اِسْتِمَاع الشَّيْء مِمَّا يَحْدُث فَلَا يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا إِنْ اِخْتَطَفَ أَحَدُهُمْ بِخِفَّةِ حَرَكَته خَطْفَة فَيَتْبَعهُ الشِّهَاب , فَإِنْ أَصَابَهُ قَبْل أَنْ يُلْقِيهَا لِأَصْحَابِهِ فَاتَتْ وَإِلَّا سَمِعُوهَا وَتَدَاوَلُوهَا , وَهَذَا يَرُدّ عَلَى قَوْل السُّهَيْلِيّ الْمُقَدَّم ذِكْرُهُ ‏
‏قَوْله : ( قَالَ مَا حَال بَيْنكُمْ وَبَيْن خَبَر السَّمَاء إِلَّا مَا حَدَثَ ) ‏
‏الَّذِي قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ هُوَ إِبْلِيس كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَة أَبِي إِسْحَاق الْمُتَقَدِّمَة قَرِيبًا . ‏

‏قَوْله : ( فَاضْرِبُوا مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا ) ‏
‏أَيْ سِيرُوا فِيهَا كُلّهَا , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَفِي رِوَايَة نَافِع بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس عِنْد أَحْمَد ” فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيس , فَبَثَّ جُنُوده , فَإِذَا هُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِرَحْبَةٍ فِي نَخْلَة ” . ‏

‏قَوْله : ( فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا ) ‏

‏قِيلَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ مِنْ الْجِنّ عَلَى دِين الْيَهُود , وَلِهَذَا قَالُوا ” أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ” وَأَخْرَجَ اِبْن مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيق عُمَر بْن قَيْس عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُمْ كَانُوا تِسْعَة , وَمِنْ طَرِيق النَّضْر بْن عَرَبِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس كَانُوا سَبْعَة مِنْ أَهْل نَصِيبِين , وَعِنْد اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق مُجَاهِد نَحْوه لَكِنْ قَالَ : كَانُوا أَرْبَعَة مِنْ نَصِيبِين وَثَلَاثَة مِنْ حَرَّان , وَهُمْ حسا ونسا وشاصر وماضر والأدرس ووردان وَالأحقب . وَنَقَلَ السُّهَيْلِيُّ فِي ” التَّعْرِيف ” أَنَّ اِبْن دُرَيْد ذَكَرَ مِنْهُمْ خَمْسَة : شاصر وماضر ومنشى وناشي وَالْأَحْقَب . قَالَ وَذَكَرَ يَحْيَى بْن سَلَّامٍ وَغَيْره قِصَّة عَمْرو بْن جَابِر وَقِصَّة سرق وَقِصَّة زوبعة قَالَ : فَإِنْ كَانُوا سَبْعَة فالأحقب لَقَب أَحَدهمْ لَا اِسْمه . وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ اِبْن عَسْكَر مَا تَقَدَّمَ عَنْ مُجَاهِد قَالَ : فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِمْ عَمْرو وزوبعة وَسرق وَكَانَ الأحقب لَقَبًا كَانُوا تِسْعَة . ‏
‏قُلْت : هُوَ مُطَابِق لِرِوَايَةِ عُمَر بْن قَيْس الْمَذْكُورَة . وَقَدْ رَوَى اِبْن مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيق الْحَكَم بْن أَبَان عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا مِنْ جَزِيرَة الْمَوْصِل , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ مَسْعُود : اُنْظُرْنِي حَتَّى آتِيك . وَخَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا . الْحَدِيث . وَالْجَمْع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ تَعَدُّد الْقِصَّة , فَإِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا أَوَّلًا كَانَ سَبَب مَجِيئِهِمْ مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيث مِنْ إِرْسَال الشُّهُب , وَسَبَب مَجِيء الَّذِينَ فِي قِصَّة اِبْن مَسْعُود أَنَّهُمْ جَاءُوا لِقَصْدِ الْإِسْلَام وَسَمَاع الْقُرْآن وَالسُّؤَال عَنْ أَحْكَام الدِّين , وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي أَوَائِل الْمَبْعَث فِي الْكَلَام عَلَى حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة , وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّة عَلَى تَعَدُّد الْقِصَّة فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَة إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْد الْهِجْرَة , وَالْقِصَّة الْأُولَى كَانَتْ عَقِب الْمَبْعَث , وَلَعَلَّ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقِصَص الْمُفَرَّقَة كَانُوا مِمَّنْ وَفَدَ بَعْد , لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلّ قِصَّة مِنْهَا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ وَفَدَ , وَقَدْ ثَبَتَ تَعَدُّد وُفُودهمْ .
‏قَوْله : ( نَحْو تِهَامه ) ‏
‏بِكَسْرِ الْمُثَنَّاة اِسْم لِكُلِّ مَكَان غَيْر عَالٍ مِنْ بِلَاد الْحِجَاز , سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشِدَّةِ حَرّهَا اِشْتِقَاقًا مِنْ التَّهَم بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ شِدَّة الْحَرّ وَسُكُون الرِّيح , وَقِيلَ مِنْ تَهِمَ الشَّيْء إِذَا تَغَيَّرَ , قِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِتَغَيُّرِ هَوَائِهَا . قَالَ الْبَكْرِيّ : حَدّهَا مِنْ جِهَة الشَّرْق ذَات عِرْق , وَمِنْ قِبَل الْحِجَاز السَّرْج بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الرَّاء بَعْدهَا جِيم قَرْيَة مِنْ عَمَل الْفَرْع بَيْنهَا وَبَيْن الْمَدِينَة اِثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلًا . ‏

‏قَوْله : ( إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ‏
‏فِي رِوَايَة أَبِي إِسْحَاق : فَانْطَلَقُوا فَإِذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ‏

 ‏قَوْله : ( بِنَخْلَة ) ‏
‏بِفَتْحِ النُّون وَسُكُون الْمُعْجَمَة مَوْضِع بَيْن مَكَّة وَالطَّائِف , قَالَ الْبَكْرِيّ : عَلَى لَيْلَة مِنْ مَكَّة . وَهِيَ الَّتِي يُنْسَب إِلَيْهَا بَطْن نَخْل . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُسْلِم بِنَخْلٍ بِلَا هَاء وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا . ‏

‏قَوْله : ( يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفَجْر ) ‏
‏لَمْ يُخْتَلَف عَلَى اِبْن عَبَّاس فِي ذَلِكَ , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة عَبْد الرَّزَّاق عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرو بْن دِينَار قَالَ : قَالَ الزُّبَيْر – أَوْ اِبْن الزُّبَيْر – كَانَ ذَلِكَ بِنَخْلَةَ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأ فِي الْعِشَاء , وَخَرَّجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرو عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : قَالَ الزُّبَيْر فَذَكَرَهُ , وَزَادَ : فَقَرَأَ { كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } . وَكَذَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم , وَهَذَا مُنْقَطِع , وَالْأَوَّل أَصَحّ . ‏

‏قَوْله : ( تَسَمَّعُوا لَهُ ) ‏
‏أَيْ قَصَدُوا لِسَمَاعِ الْقُرْآن وَأَصْغَوْا إِلَيْهِ . ‏

‏قَوْله : ( فَهُنَالِكَ ) ‏
‏هُوَ ظَرْف مَكَان وَالْعَامِل فِيهِ قَالُوا , وَفِي رِوَايَة ” فَقَالُوا ” وَالْعَامِل فِيهِ رَجَعُوا . ‏

‏قَوْله : ( رَجَعُوا إِلَى قَوْمهمْ فَقَالُوا : يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ) ‏
‏قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : ظَاهِر هَذَا أَنَّهُمْ آمَنُوا عِنْد سَمَاع الْقُرْآن , قَالَ : وَالْإِيمَان يَقَع بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا بِأَنْ يَعْلَم حَقِيقَة الْإِعْجَاز وَشُرُوط الْمُعْجِزَة فَيَقَع لَهُ الْعِلْم بِصِدْقِ الرَّسُول , أَوْ يَكُون عِنْده عِلْم مِنْ الْكُتُب الْأُولَى فِيهَا دَلَائِل عَلَى أَنَّهُ النَّبِيّ الْمُبَشَّر بِهِ , وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ فِي الْجِنّ مُحْتَمَل . وَاَللَّه أَعْلَم . ‏

‏قَوْله : ( وَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ ) ‏
‏زَادَ التِّرْمِذِيّ ” قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَقَوْل الْجِنّ لِقَوْمِهِمْ : لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا , قَالَ : لَمَّا رَأَوْهُ يُصَلِّي وَأَصْحَابه يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ يَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ , قَالَ فَتَعَجَّبُوا مِنْ طَوَاعِيَة أَصْحَابه لَهُ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ذَلِكَ ” . ‏

‏قَوْله : ( وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْل الْجِنّ )

هَذَا كَلَام اِبْن عَبَّاس , كَأَنَّهُ تَقَرَّرَ فِيهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَوَّلًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَمِع بِهِمْ , وَإِنَّمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ اِسْتَمَعُوا , وَمِثْله قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ صَرَّفْنَا إِلَيْك نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } الْآيَة . وَلَكِنْ لَا يَلْزَم مِنْ عَدَم ذِكْر اِجْتِمَاعه بِهِمْ حِين اِسْتَمَعُوا أَنْ لَا يَكُون اِجْتَمَعَ بِهِمْ بَعْد ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيره . وَفِي الْحَدِيث إِثْبَات وُجُود الشَّيَاطِين وَالْجِنّ وَأَنَّهُمَا لِمُسَمًّى وَاحِد , وَإِنَّمَا صَارَا صِنْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْكُفْر وَالْإِيمَان , فَلَا يُقَال لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ إِنَّهُ شَيْطَان . وَفِيهِ أَنَّ الصَّلَاة فِي الْجَمَاعَة شُرِعَتْ قَبْل الْهِجْرَة . وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّتهَا فِي السَّفَر . وَالْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاة الصُّبْح , وَأَنَّ الِاعْتِبَار بِمَا قَضَى اللَّه لِلْعَبْدِ مِنْ حُسْن الْخَاتِمَة لَا بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ الشَّرّ وَلَوْ بَلَغَ مَا بَلَغَ , لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَادَرُوا إِلَى الْإِيمَان بِمُجَرَّدِ اِسْتِمَاع الْقُرْآن لَوْ لَمْ يَكُونُوا عِنْد إِبْلِيس فِي أَعْلَى مَقَامَات الشَّرّ مَا اِخْتَارَهُمْ لِلتَّوَجُّهِ إِلَى الْجِهَة الَّتِي ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْحَدَث الْحَادِث مِنْ جِهَتهَا . وَمَعَ ذَلِكَ فَغَلَبَ عَلَيْهِمْ مَا قَضَى لَهُمْ مِنْ السَّعَادَة بِحُسْنِ الْخَاتِمَة , وَنَحْو ذَلِكَ قِصَّة سَحَرَة فِرْعَوْن .

4- عَنْ ‏ ‏عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ‏ ‏قَالَ: مَا سَمِعْتُ ‏ ‏عُمَرَ ‏ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ ‏ ‏بَيْنَمَا ‏ ‏عُمَرُ ‏ ‏جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ ‏ ‏رَجُلٌ جَمِيلٌ ‏ ‏فَقَالَ لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ عَلَيَّ الرَّجُلَ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَالَ فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي قَالَ كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَتْ أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ ‏ ‏إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا قَالَ ‏ ‏عُمَرُ ‏ ‏صَدَقَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ ‏ ‏رَجُلٌ ‏ ‏بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ يَا ‏ ‏جَلِيحْ ‏ ‏أَمْرٌ ‏ ‏نَجِيحْ رَجُلٌ ‏ ‏فَصِيحْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَوَثَبَ الْقَوْمُ قُلْتُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا ثُمَّ نَادَى يَا ‏ ‏جَلِيحْ ‏ ‏أَمْرٌ ‏ ‏نَجِيحْ رَجُلٌ ‏ ‏فَصِيحْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقُمْتُ فَمَا ‏ ‏نَشِبْنَا ‏ ‏أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِيٌّ ‏ .صحيح البخاري
‏‏ الشرح :
‏قَوْله : ( مَا سَمِعْت عُمَر يَقُول لِشَيْءٍ إِنِّي لَأَظُنّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ ) ‏
‏أَيْ عَنْ شَيْء , وَاللَّام قَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى عَنْ كَقَوْلِهِ : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ) . ‏

 ‏قَوْله : ( إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُل جَمِيل ) ‏
‏هُوَ سَوَاد – بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الْوَاو وَآخِره مُهْمَلَة – اِبْن قَارِب بِالْقَافِ وَالْمُوَحَّدَة , وَهُوَ سَدُوسِيّ أَوْ دُوسِيّ . وَقَدْ أَخْرَجَ اِبْن أَبِي خَيْثَمَةَ وَغَيْره مِنْ طَرِيق أَبِي جَعْفَر الْبَاقِر قَالَ : ” دَخَلَ رَجُل يُقَال لَهُ سَوَاد بْن قَارِب السَّدُوسِيّ عَلَى عُمَر , فَقَالَ . يَا سَوَاد أَنْشُدك اللَّه , هَلْ تُحْسِن مِنْ كِهَانَتك شَيْئًا ” فَذَكَرَ الْقِصَّة . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِم وَغَيْرهمَا مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ قَالَ : ” بَيْنَمَا عُمَر قَاعِد فِي الْمَسْجِد ” فَذَكَرَ مِثْل سِيَاق أَبِي جَعْفَر وَأَتَمَّ مِنْهُ , وَهُمَا طَرِيقَانِ مُرْسَلَانِ يُعَضِّد أَحَدهمَا الْآخَر . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق عَبَّاد بْن عَبْد الصَّمَد عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : ” أَخْبَرَنِي سَوَاد بْن قَارِب قَالَ : كُنْت نَائِمًا ” فَذَكَرَ قِصَّته الْأُولَى دُون قِصَّته مَعَ عُمَر . وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَى تَأَخُّر وَفَاته , لَكِنَّ عَبَّادًا ضَعِيف . وَلِابْنِ شَاهِينَ مِنْ طَرِيق أُخْرَى ضَعِيفَة عَنْ أَنَس قَالَ : ” دَخَلَ رَجُل مِنْ دَوْس يُقَال لَهُ سَوَاد بْن قَارِب عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” فَذَكَرَ قِصَّته أَيْضًا , وَهَذِهِ الطُّرُق يَقْوَى بَعْضهَا بِبَعْضٍ , وَلَهُ طُرُق أُخْرَى سَأَذْكُرُ مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَة . ‏

‏قَوْله : ( لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي ) ‏
‏فِي رِوَايَة اِبْن عُمَر عِنْد الْبَيْهَقِيِّ ” لَقَدْ كُنْت ذَا فَرَاسَة , وَلَيْسَ لِي الْآن رَأْي إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرَّجُل يَنْظُر فِي الْكِهَانَة ” . ‏

‏قَوْله : ( أَوْ ) ‏
‏بِسُكُونِ الْوَاو ‏
‏( عَلَى دِين قَوْمه فِي الْجَاهِلِيَّة ) ‏
‏أَيْ مُسْتَمِرّ عَلَى عِبَادَة مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ . ‏

‏قَوْله : ( أَوْ ) ‏
‏بِسُكُونِ الْوَاو أَيْضًا ‏
‏( لَقَدْ كَانَ كَاهِنهمْ ) ‏
‏أَيْ كَانَ كَاهِن قَوْمه . وَحَاصِله أَنَّ عُمَر ظَنَّ شَيْئًا مُتَرَدِّدًا بَيْن شَيْئَيْنِ أَحَدهمَا يَتَرَدَّد بَيْن شَيْئَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ : هَذَا الظَّنّ إِمَّا خَطَأ أَوْ صَوَاب فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَهَذَا الْآن إِمَّا بَاقٍ عَلَى كُفْره وَإِمَّا كَانَ كَاهِنًا , وَقَدْ أَظْهَرَ الْحَال الْقِسْم الْأَخِير , وَكَأَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ مِنْ صِفَة مَشْيه أَوْ غَيْر ذَلِكَ قَرِينَة أَثَّرَتْ لَهُ ذَلِكَ الظَّنّ , فَاَللَّه أَعْلَم . ‏

‏قَوْله : ( عَلَيَّ ) ‏
‏بِالتَّشْدِيدِ ‏
‏( الرَّجُلَ ) ‏
‏بِالنَّصْبِ أَيْ أَحْضِرُوهُ إِلَيَّ وَقَرِّبُوهُ مِنِّي . ‏

‏قَوْله : ( فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ ) ‏
‏أَيْ مَا قَالَهُ فِي غَيْبَته مِنْ التَّرَدُّد . وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن كَعْب ” فَقَالَ لَهُ فَأَنْتَ عَلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ مِنْ كِهَانَتك ” فَغَضِبَ , وَهَذَا مِنْ تَلَطُّف عُمَر , لِأَنَّهُ اِقْتَصَرَ عَلَى أَحْسَن الْأَمْرَيْنِ . ‏

‏قَوْله : ( مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ ) ‏
‏أَيْ رَأَيْت شَيْئًا مِثْل مَا رَأَيْت الْيَوْم . ‏

‏قَوْله : ( اُسْتُقْبِلَ ) ‏
‏بِضَمِّ التَّاء عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ . ‏

‏قَوْله : ( رَجُل مُسْلِم ) ‏
‏فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَأَبِي ذَرّ ” رَجُلًا مُسْلِمًا ” وَرَأَيْته مُجَوَّدًا بِفَتْحِ تَاء ” اِسْتَقْبَلَ ” عَلَى الْبِنَاء لِلْفَاعِلِ وَهُوَ مَحْذُوف تَقْدِيره أَحَد , وَضَبَطَهُ الْكَرْمَانِيُّ اُسْتُقْبِلَ بِضَمِّ التَّاء وَأَعْرَبَ رَجُلًا مُسْلِمًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول رَأَيْت , وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِير فِي قَوْله ” بِهِ ” يَعُود عَلَى الْكَلَام , وَيَدُلّ عَلَيْهِ السِّيَاق , وَبَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَة مُرْسَلَة ” قَدْ جَاءَ اللَّه بِالْإِسْلَامِ , فَمَا لَنَا وَلِذِكْرِ الْجَاهِلِيَّة ” . ‏
‏قَوْله : ( فَإِنِّي أَعْزِم عَلَيْك ) ‏
‏أَيْ أُلْزِمُك , وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن كَعْب ” مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك أَعْظَم مِمَّا كُنْت عَلَيْهِ مِنْ كِهَانَتك ” . ‏

‏قَوْله : ( إِلَّا أَخْبَرْتنِي ) ‏
‏أَيْ مَا أَطْلُب مِنْك إِلَّا الْإِخْبَار . ‏

‏قَوْله : ( كُنْت كَاهِنهمْ فِي الْجَاهِلِيَّة ) ‏
‏الْكَاهِن الَّذِي يَتَعَاطَى الْخَبَر مِنْ الْأُمُور الْمُغَيَّبَة , وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة كَثِيرًا , فَمُعْظَمهمْ كَانَ يَعْتَمِد عَلَى تَابِعه مِنْ الْجِنّ , وَبَعْضهمْ كَانَ يَدَّعِي مَعْرِفَة ذَلِكَ بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَاب يَسْتَدِلّ بِهَا عَلَى مَوَاقِعهَا مِنْ كَلَام مَنْ يَسْأَلهُ , وَهَذَا الْأَخِير يُسَمَّى الْعَرَّاف بِالْمُهْمَلَتَيْنِ , وَلَقَدْ تَلَطَّفَ سَوَاد فِي الْجَوَاب إِذْ كَانَ سُؤَال عُمَر عَنْ حَاله فِي كِهَانَته إِذْ كَانَ مِنْ أَمْر الشِّرْك , فَلَمَّا أَلْزَمهُ أَخْبَرَهُ بِآخِرِ شَيْء وَقَعَ لَهُ لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ الْإِعْلَام بِنُبُوَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِ . ‏

‏قَوْله : ( مَا أَعْجَبُ ) ‏
‏بِالضَّمِّ وَ ” مَا ” اِسْتِفْهَامِيَّة . ‏

‏قَوْله : ( جِنِّيَّتك ) ‏
‏بِكَسْرِ الْجِيم وَالنُّون الثَّقِيلَة أَيْ الْوَاحِدَة مِنْ الْجِنّ كَأَنَّهُ أَنْتَ تَحْقِيرًا , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَرَفَ أَنَّ تَابِع سَوَاد مِنْهُمْ كَانَ أُنْثَى , أَوْ هُوَ كَمَا يُقَال تَابِع الذَّكَر يَكُون أُنْثَى وَبِالْعَكْسِ . ‏

‏قَوْله : ( أَعْرِف فِيهَا الْفَزَع ) ‏
‏بِفَتْحِ الْفَاء وَالزَّاي أَيْ الْخَوْف , وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن كَعْب ” إِنَّ ذَلِكَ كَانَ وَهُوَ بَيْن النَّائِم وَالْيَقْظَانِ ” . ‏

‏قَوْله : ( أَلَمْ تَرَ الْجِنّ وَإِبْلَاسهَا ) ‏
‏بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَة وَالْمُرَاد بِهِ الْيَأْس ضِدّ الرَّجَاء , وَفِي رِوَايَة أَبِي جَعْفَر ” عَجِبْت لِلْجِنِّ وَإِبْلَاسهَا ” وَهُوَ أَشْبَهُ بِإِعْرَابِ بَقِيَّة الشِّعْر , وَمِثْله لِمُحَمَّدِ بْن كَعْب لَكِنْ قَالَ : ” وَتَحْسَاسهَا ” بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة وَبِمُهْمَلَاتٍ , أَيْ أَنَّهَا فَقَدَتْ أَمْرًا فَشَرَعَتْ تُفَتِّش عَلَيْهِ . ‏

‏قَوْله : ( وَيَأْسهَا مِنْ بَعْد إِنْكَاسِهَا ) ‏
‏الْيَأْس بِالتَّحْتَانِيَّةِ ضِدّ الرَّجَاء وَالْإِنْكَاس الِانْقِلَاب , قَالَ اِبْن قَارِس : مَعْنَاهُ أَنَّهَا يَئِسَتْ مِنْ اِسْتِرَاق السَّمْع بَعْد أَنْ كَانَتْ قَدْ أَلِفَتْهُ , فَانْقَلَبَتْ عَنْ الِاسْتِرَاق قَدْ يَئِسَتْ مِنْ السَّمْع , وَوَقَعَ فِي شَرْح الدَّاوُدِيّ بِتَقْدِيمِ السِّين عَلَى الْكَاف , وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ الْمَكَان الَّذِي أَلِفَتْهُ , قَالَ : وَوَقَعَ فِي رِوَايَة ” مِنْ بَعْد إِينَاسِهَا ” أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ أَنِسَتْ بِالِاسْتِرَاقِ , وَلَمْ أَرَ مَا قَالَهُ فِي شَيْء مِنْ الرِّوَايَات , وَقَدْ شَرَحَ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى اللَّفْظ الْأَوَّل الَّذِي ذَكَرَهُ الدَّاوُدِيّ وَقَالَ : الْإِنْسَاك جَمْع نُسُك , وَالْمُرَاد بِهِ الْعِبَادَة , وَلَمْ أَرَ هَذَا الْقَسِيم فِي غَيْر الطَّرِيق الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيّ . وَزَادَ فِي رِوَايَة الْبَاقِر وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَكَذَا عِنْد الْبَيْهَقِيِّ مَوْصُولًا مِنْ حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب بَعْد قَوْله : ” وَأَحْلَاسهَا ” : ‏ ‏تَهْوِي إِلَى مَكَّة تَبْغِي الْهُدَى ‏ ‏مَا مُؤْمِنُوهَا مِثْل أَرْجَاسهَا ‏ ‏فَاسْم إِلَى الصَّفْوَة مِنْ هَاشِم ‏ ‏وَاسْم بِعَيْنَيْك إِلَى رَأْسهَا ‏ ‏وَفِي رِوَايَتهمْ أَنَّ الْجِنِّيّ عَاوَدَهُ ثَلَاث لَيَالٍ يَنْشُدهُ هَذِهِ الْأَبْيَات مَعَ تُغَيِّر قَوَافِيهَا , فَجَعَلَ بَدَل قَوْله إِبْلَاسهَا ” تَطْلَابهَا ” أَوَّله مُثَنَّاة , وَتَارَة ” تَجْآرهَا ” بِجِيمٍ وَهَمْزَة , وَبَدَّلَ قَوْله أَحْلَاسهَا ” أَقْتَابهَا ” بِقَافٍ وَمُثَنَّاة جَمْع قَتَب , وَتَارَة ” أَكْوَارهَا ” وَبَدَّلَ قَوْله . مَا مُؤْمِنُوهَا مِثْل أَرْجَاسهَا ” لَيْسَ قُدَّامَاهَا كَأَذْنَابِهَا ” وَتَارَة ” لَيْسَ ذَوُو الشَّرّ كَأَخْيَارِهَا ” وَبَدَّلَ قَوْله : رَأْسهَا ” نَابَهَا ” وَتَارَة قَالَ : ” مَا مُؤْمِنُو الْجِنّ كَكُفَّارِهَا ” . وَعِنْدهمْ مِنْ الزِّيَادَة أَيْضًا أَنَّهُ فِي كُلّ مَرَّة يَقُول لَهُ ” قَدْ بُعِثَ مُحَمَّد , فَانْهَضْ إِلَيْهِ تَرْشُد ” , وَفِي الرِّوَايَة الْمُرْسَلَة قَالَ : ” فَارْتَعَدَتْ فَرَائِصِي حَتَّى وَقَعْت ” , وَعِنْدهمْ جَمِيعًا أَنَّهُ لَمَّا أَصْبَحَ تَوَجَّهَ إِلَى مَكَّة فَوَجَدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ هَاجَرَ , فَأَتَاهُ فَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتًا يَقُول فِيهَا : ‏ ‏أَتَانِي رُئًى بَعْد لَيْل وَهَجْعَة ‏ ‏وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْت بِكَاذِبِ ‏ ‏ثَلَاث لَيَالٍ قَوْله كُلّ لَيْلَة ‏ ‏أَتَاك نَبِيّ مِنْ لُؤَيّ بْن غَالِب ‏ ‏يَقُول فِي آخِرهَا : ‏ ‏فَكُنَّ لِي شَفِيعًا يَوْم لَا ذُو شَفَاعَة ‏ ‏سِوَاك بِمُغْنٍ عَنْ سَوَاد بْن قَارِب ‏ ‏وَفِي آخِر الرِّوَايَة الْمُرْسَلَة ” فَالْتَزَمَهُ عُمَر وَقَالَ : لَقَدْ كُنْت أُحِبّ أَنْ أَسْمَع هَذَا مِنْك ” . ‏

‏قَوْله : ( وَلُحُوقهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسهَا ) ‏
‏الْقِلَاص بِكَسْرِ الْقَاف وَبِالْمُهْمَلَةِ جَمْع قُلُص بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جَمْع قُلُوص وَهِيَ الْفَتِيَّة مِنْ النِّيَاق , وَالْأَحْلَاس جَمْع حِلْس بِكَسْرِ أَوَّله وَسُكُون ثَانِيه وَبِالْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ مَا يُوضَع عَلَى ظُهُور الْإِبِل تَحْت الرَّحْل , وَوَقَعَ هَذَا الْقَسِيم غَيْر مَوْزُون . وَفِي رِوَايَة الْبَاقِر ” وَرَحْلهَا الْعِيس بِأَحْلَاسِهَا ” وَهَذَا مَوْزُون , وَالْعِيس بِكَسْرِ أَوَّله وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة وَبِالْمُهْمَلَتَيْنِ : الْإِبِل . ‏

‏قَوْله : ( قَالَ عُمَر : صَدَقَ , بَيْنَمَا أَنَا عِنْد آلِهَتهمْ ) ‏
‏ظَاهِر هَذَا أَنَّ الَّذِي قَصَّ الْقِصَّة الثَّانِيَة هُوَ عُمَر , وَفِي رِوَايَة اِبْن عُمَر وَغَيْره أَنَّ الَّذِي قَصَّهَا هُوَ سَوَاد بْن قَارِب , وَلَفْظ اِبْن عُمَر عِنْد الْبَيْهَقِيِّ قَالَ : ” لَقَدْ رَأَى عُمَر رَجُلًا – فَذَكَرَ الْقِصَّة – قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ بَعْض مَا رَأَيْت , قَالَ : إِنِّي ذَات لَيْلَة بِوَادٍ إِذْ سَمِعْت صَائِحًا يَقُول : يَا جَلِيحْ , خَبَرٌ نَجِيحْ , رَجُلٌ فَصِيحْ , يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . عَجِبْت لِلْجِنِّ وَإِبْلَاسهَا ” فَذَكَرَ الْقِصَّة , ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيق أُخْرَى مُرْسَلَة قَالَ : ” مَرَّ عُمَر بِرَجُلٍ فَقَالَ : لَقَدْ كَانَ هَذَا كَاهِنًا ” الْحَدِيث وَفِيهِ ” فَقَالَ عُمَر أَخْبِرْنِي , فَقَالَ : نَعَمْ , بَيْنَا أَنَا جَالِس إِذْ قَالَتْ لِي : أَلَمْ تَرَ إِلَى الشَّيَاطِين وَإِبْلَاسهَا ” الْحَدِيث ” قَالَ عُمَر : اللَّه أَكْبَر , فَقَالَ : أَتَيْت مَكَّة فَإِذَا بِرَجُلٍ عِنْد تِلْكَ الْأَنْصَاب ” فَذَكَرَ قِصَّة الْعِجْل , وَهَذَا يَحْتَمِل فِيهِ مَا اُحْتُمِلَ فِي حَدِيث الصَّحِيح أَنْ يَكُون الْقَائِل ” أَتَيْت مَكَّة ” هُوَ عُمَر أَوْ صَاحِب الْقِصَّة . ‏

‏قَوْله : ( عِنْد آلِهَتهمْ ) ‏
‏أَيْ أَصْنَامهمْ . ‏

‏قَوْله : ( إِذْ جَاءَ رَجُل ) ‏
‏لَمْ أَقِف عَلَى اِسْمه ” لَكِنْ عِنْد أَحْمَد مِنْ وَجْه آخَر أَنَّهُ اِبْن عَبْس , فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيق مُجَاهِد عَنْ شَيْخ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهُ اِبْن عَبْس قَالَ : ” كُنْت أَسُوق بَقَرَة لَنَا , فَسَمِعْت مِنْ جَوْفهَا ” فَذَكَرَ الرَّجَز قَالَ : ” فَقَدِمْنَا فَوَجَدْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بُعِثَ ” وَرِجَاله ثِقَات , وَهُوَ شَاهِد قَوِيّ لِمَا فِي رِوَايَة اِبْن عُمَر وَأَنَّ الَّذِي حَدَّثَ بِذَلِكَ هُوَ سَوَاد بْن قَارِب , وَسَأَذْكُرُ بَعْد هَذَا مَا يُقَوِّي أَنَّ الَّذِي سَمِعَ ذَلِكَ هُوَ عُمَر فَيُمْكِن أَنْ يُجْمَع بَيْنهمَا بِتَعَدُّدِ ذَلِكَ لَهُمَا . ‏

‏قَوْله : ( يَا جَلِيحْ ) ‏

بِالْجِيمِ وَالْمُهْمَلَة بِوَزْنِ عَظِيم وَمَعْنَاهُ الْوَقِح الْمُكَافِح بِالْعَدَاوَةِ , قَالَ اِبْن التِّين : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَادَى رَجُلًا بِعَيْنِهِ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ مَنْ كَانَ بِتِلْكَ الصِّفَة قُلْت : وَوَقَعَ فِي مُعْظَم الرِّوَايَات الَّتِي أَشَرْت إِلَيْهَا ” يَا آلَ ذَرِيح ” بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَآخِره مُهْمَلَة , وَهُمْ بَطْن مَشْهُور فِي الْعَرَب . ‏

‏قَوْله : ( رَجُل فَصِيح ) ‏
‏مِنْ الْفَصَاحَة , وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ بِتَحْتَانِيَّةٍ أَوَّله بَدَل الْفَاء مِنْ الصِّيَاح وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عَبْس ” قَوْل فَصِيح رَجُل يَصِيح ” . ‏

‏قَوْله : ( يَقُول لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ ) ‏
‏وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ ” لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ” وَهُوَ الَّذِي فِي بَقِيَّة الرِّوَايَات . ‏

‏قَوْله : ( فَمَا نَشِبْنَا ) ‏
‏بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمُوَحَّدَة أَيْ لَمْ نَتَعَلَّق بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاء حَتَّى سَمِعْنَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ , يُرِيد أَنْ ذَلِكَ كَانَ بِقُرْبِ مَبْعَث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ‏
‏( تَنْبِيهَانِ ) : ‏
‏أَحَدهمَا : ذَكَرَ اِبْن التِّين أَنَّ الَّذِي سَمِعَهُ سَوَاد بْن قَارِب مِنْ الْجِنِّيّ كَانَ مِنْ أَثَر اِسْتِرَاق السَّمْع , وَفِي جَزْمه بِذَلِكَ نَظَر , وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَثَر مَنْع الْجِنّ مِنْ اِسْتِرَاق السَّمْع , وَيُبَيِّن ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّف فِي الصَّلَاة وَيَأْتِي فِي تَفْسِير سُورَة الْجِنّ عَنْ اِبْن عَبَّاس ” أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بُعِثَ مَنَعَ الْجِنّ مِنْ اِسْتِرَاق السَّمْع , فَضَرَبُوا الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب يَبْحَثُونَ عَنْ سَبَب ذَلِكَ , حَتَّى رَأَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفَجْر ” الْحَدِيث . ‏


‏( التَّنْبِيه الثَّانِي ) : ‏
‏لَمَّحَ الْمُصَنِّف بِإِيرَادِ هَذِهِ الْقِصَّة فِي ” بَاب إِسْلَام عُمَر ” بِمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَة وَطَلْحَة عَنْ عُمَر مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة كَانَتْ سَبَب إِسْلَامه , فَرَوَى أَبُو نُعَيْم فِي ” الدَّلَائِل ” أَنَّ أَبَا جَهْل ” جَعَلَ لِمَنْ يَقْتُل مُحَمَّدًا مِائَة نَاقَة , قَالَ عُمَر : فَقُلْت لَهُ : يَا أَبَا الْحَكَم آلضَّمَان صَحِيح ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ فَتَقَلَّدَتْ سَيْفِي أُرِيدهُ , فَمَرَرْت عَلَى عِجْل وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَذْبَحُوهُ , فَقُمْت أَنْظُر إِلَيْهِمْ , فَإِذَا صَائِح يَصِيح مِنْ جَوْف الْعِجْل : يَا آلَ ذَرِيح , أَمْر نَجِيح , رَجُل يَصِيح بِلِسَانِ فَصِيح . قَالَ عُمَر : فَقُلْت فِي نَفْسِي إِنَّ هَذَا الْأَمْر مَا يُرَاد بِهِ إِلَّا أَنَا , قَالَ فَدَخَلْت عَلَى أُخْتِي فَإِذَا عِنْدهَا سَعِيد بْن زَيْد ” فَذَكَرَ الْقِصَّة فِي سَبَب إِسْلَامه بِطُولِهَا ,

5- ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عَائِشَةَ ‏ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ‏ ‏قَالَتْ ‏ :
سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏نَاسٌ ‏ ‏عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنْ الْجِنِّيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ ‏
قَالَ ‏ ‏عَلِيٌّ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏عَبْدُ الرَّزَّاقِ ‏ ‏مُرْسَلٌ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ .‏صحيح البخاري
الشرح :
‏قَوْله : ( سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ‏
‏فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ ” سَأَلَ نَاس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة يُونُس , وَعِنْد مُسْلِم مِنْ رِوَايَة مَعْقِل مِثْله وَمِنْ رِوَايَة مَعْقِل مِثْل الَّذِي قَبْله , وَقَدْ سُمِّيَ مِمَّنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ مُعَاوِيَة بْن الْحَكَم السُّلَمِيّ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيثه ” قَالَ قُلْت يَا رَسُول اللَّه , أُمُورًا كُنَّا نَصْنَعهَا فِي الْجَاهِلِيَّة كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّان , فَقَالَ : لَا تَأْتُوا الْكُهَّان ” الْحَدِيث . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَؤُلَاءِ الْكُهَّان فِيمَا عُلِمَ بِشَهَادَةِ الِامْتِحَان قَوْم لَهُمْ أَذْهَان حَادَّة وَنُفُوس شِرِّيرَة وَطَبَائِع نَارِيَّة , فَهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى الْجِنّ فِي أُمُورهمْ وَيَسْتَفْتُونَهُمْ فِي الْحَوَادِث فَيُلْقُونَ إِلَيْهِمْ الْكَلِمَات , ثُمَّ تَعَرَّضَ إِلَى مُنَاسَبَة ذِكْر الشُّعَرَاء بَعْد ذِكْرهمْ فِي قَوْله تَعَالَى : ( هَلْ أُنَبِّئكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّل الشَّيَاطِين ) . ‏

‏قَوْله : ( فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ) ‏
‏فِي رِوَايَة مُسْلِم ” لَيْسُوا بِشَيْءٍ ” , وَكَذَا فِي رِوَايَة يُونُس فِي التَّوْحِيد , وَفِي نُسْخَة ” فَقَالَ لَهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ ” أَيْ لَيْسَ قَوْلهمْ بِشَيْءٍ يُعْتَمَد عَلَيْهِ , وَالْعَرَب تَقُول لِمَنْ عَمِلَ شَيْئًا وَلَمْ يُحْكِمهُ : مَا عَمِلَ شَيْئًا , قَالَ الْقُرْطُبِيّ : كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يَتَرَافَعُونَ إِلَى الْكُهَّان فِي الْوَقَائِع وَالْأَحْكَام وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَقْوَالهمْ , وَقَدْ اِنْقَطَعَتْ الْكِهَانَة بِالْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّة , لَكِنْ بَقِيَ فِي الْوُجُود مَنْ يَتَشَبَّه بِهِمْ , وَثَبَتَ النَّهْي عَنْ إِتْيَانهمْ فَلَا يَحِلّ إِتْيَانهمْ وَلَا تَصْدِيقهمْ . ‏

‏قَوْله : ( إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانَا بِشَيْءٍ فَيَكُون حَقًّا ) ‏
‏فِي رِوَايَة يُونُس ” فَإِنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ ” هَذَا أَوْرَدَهُ السَّائِل إِشْكَالًا عَلَى عُمُوم قَوْله ” لَيْسُوا بِشَيْءٍ ” لِأَنَّهُ فُهِمَ أَنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ أَصْلًا فَأَجَابَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَب ذَلِكَ الصِّدْق , وَأَنَّهُ إِذَا اِتَّفَقَ أَنْ يُصَدَّق لَمْ يَتْرُكهُ خَالِصًا بَلْ يَشُوبهُ بِالْكَذِبِ . ‏


‏قَوْله : ( تِلْكَ الْكَلِمَة مِنْ الْحَقّ ) ‏
‏كَذَا فِي الْبُخَارِيّ بِمُهْمَلَةٍ وَقَاف أَيْ الْكَلِمَة الْمَسْمُوعَة الَّتِي تَقَع حَقًّا , وَوَقَعَ فِي مُسْلِم ” تِلْكَ الْكَلِمَة مِنْ الْجِنّ ” قَالَ النَّوَوِيّ : كَذَا فِي نُسَخ بِلَادنَا بِالْجِيمِ وَالنُّون , أَيْ الْكَلِمَة الْمَسْمُوعَة مِنْ الْجِنّ أَوْ الَّتِي تَصِحّ مِمَّا نَقَلَتْهُ الْجِنّ . قُلْت : التَّقْدِير الثَّانِي يُوَافِق رِوَايَة الْبُخَارِيّ , قَالَ النَّوَوِيّ : وَقَدْ حَكَى عِيَاض أَنَّهُ وَقَعَ يَعْنِي فِي مُسْلِم بِالْحَاءِ وَالْقَاف . ‏

‏قَوْله : ( يَخْطَفهَا الْجِنِّيّ ) ‏
‏كَذَا لِلْأَكْثَرِ , وَفِي رِوَايَة السَّرَخْسِيّ ” يَخْطَفهَا مِنْ الْجِنِّيّ ” أَيْ الْكَاهِن يَخْطَفهَا مِنْ الْجِنِّيّ أَوْ الْجِنِّيّ الَّذِي يَلْقَى الْكَاهِن يَخْطَفهَا مِنْ جِنِّيّ آخَر فَوْقه , وَيَخْطَفهَا بِخَاءٍ مُعْجَمَة وَطَاء مَفْتُوحَة وَقَدْ تُكْسَر بَعْدهَا فَاءَ وَمَعْنَاهُ الْأَخْذ بِسُرْعَةٍ . وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ ” يَحْفَظهَا ” بِتَقْدِيمِ الْفَاء بَعْدهَا ظَاء مُعْجَمَة وَالْأَوَّل هُوَ الْمَعْرُوف وَاَللَّه أَعْلَم . ‏

‏قَوْله ( فَيَقَرّهَا ) ‏
‏بِفَتْحِ أَوَّله وَثَانِيه وَتَشْدِيد الرَّاء أَيْ يَصُبُّهَا , تَقُول قَرَرْت عَلَى رَأْسه دَلْوًا إِذَا صَبَبْته , فَكَأَنَّهُ صُبَّ فِي أُذُنه ذَلِكَ الْكَلَام , قَالَ الْقُرْطُبِيّ : وَيَصِحّ أَنْ يُقَال الْمَعْنَى أَلْقَاهَا فِي أُذُنه بِصَوْتٍ , يُقَال قَرَّ الطَّائِر إِذَا صَوَّتَ اِنْتَهَى . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة يُونُس الْمَذْكُورَة ” فَيُقَرْقِرُهَا ” أَيْ يُرَدِّدهَا , يُقَال قَرْقَرَتْ الدَّجَاجَة تُقَرْقِر قَرْقَرَة إِذَا رَدَّدَتْ صَوْتهَا , قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَيُقَال أَيْضًا قَرَّتْ الدَّجَاجَة تُقِرّ قَرًّا وَقَرِيرًا , وَإِذَا رَجَّعَتْ فِي صَوْتهَا قِيلَ قَرْقَرَتْ قَرْقَرَة وَقَرْقَرِيرَة , قَالَ : وَالْمَعْنَى أَنَّ الْجِنِّيّ إِذَا أَلْقَى الْكَلِمَة لِوَلِيِّهِ تَسَامَعَ بِهَا الشَّيَاطِين فَتَنَاقَلُوهَا كَمَا إِذَا صَوَّتَتْ الدَّجَاجَة فَسَمِعَهَا الدَّجَاج فَجَاوَبَتْهَا . وَتَعَقَّبَهُ الْقُرْطُبِيّ بِأَنَّ الْأَشْبَه بِمَسَاقِ الْحَدِيث أَنَّ الْجِنِّيّ يُلْقِي الْكَلِمَة إِلَى وَلِيّه بِصَوْتٍ خَفِيّ مُتَرَاجِع لَهُ زَمْزَمَة وَيُرْجِعهُ لَهُ , فَلِذَلِكَ يَقَع كَلَام الْكُهَّان غَالِبًا عَلَى هَذَا النَّمَط , وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فِي أَوَاخِر الْجَنَائِز فِي قِصَّة اِبْن صَيَّاد وَبَيَان اِخْتِلَاف الرُّوَاة فِي قَوْله ” فِي قَطِيفَة لَهُ فِيهَا زَمْزَمَة ” وَأُطْلِقَ عَلَى الْكَاهِن وَلِيّ الْجِنِّيّ لِكَوْنِهِ يُوَالِيه أَوْ عَدَلَ عَنْ قَوْله الْكَاهِن إِلَى قَوْله وَلِيّه لِلتَّعْمِيمِ فِي الْكَاهِن وَغَيْره مِمَّنْ يُوَالِي الْجِنّ . قَالَ الْخَطَّابِيُّ بَيَّنَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إِصَابَة الْكَاهِن أَحْيَانًا إِنَّمَا هِيَ لِأَنَّ الْجِنِّيّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَة الَّتِي يَسْمَعهَا اِسْتِرَاقًا مِنْ الْمَلَائِكَة فَيَزِيد عَلَيْهَا أَكَاذِيب يَقِيسهَا عَلَى مَا سَمِعَ , فَرُبَّمَا أَصَابَ نَادِرًا وَخَطَؤُهُ الْغَالِب , وَقَوْله فِي رِوَايَة يُونُس ” كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَة ” يَعْنِي الطَّائِر الْمَعْرُوف , وَدَالهَا مُثَلَّثَة وَالْأَشْهَر فِيهَا الْفَتْح , وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي ” الزُّجَاجَة ” بِالزَّايِ الْمَضْمُومَة وَأَنْكَرَهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَدَّهَا فِي التَّصْحِيف , وَقَالَ الْقَابِسِيّ : الْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُون لِمَا يُلْقِيه الْجِنِّيّ إِلَى الْكَاهِن حِسّ كَحِسِّ الْقَارُورَة إِذَا حُرِّكَتْ بِالْيَدِ أَوْ عَلَى الصَّفَا , وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْمَعْنَى أَنَّهُ يُطْبَق بِهِ كَمَا يُطْبَق رَأْس الْقَارُورَة بِرَأْسِ الْوِعَاء الَّذِي يُفْرَغ فِيهِ مِنْهَا مَا فِيهَا . وَأَغْرَبَ شَارِح ” الْمَصَابِيح ” التُّورْبَشْتِيُّ فَقَالَ : الرِّوَايَة بِالزَّايِ أَحْوَط لِمَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى ” كَمَا تُقَرّ الْقَارُورَة ” وَاسْتِعْمَال قَرَّ فِي ذَلِكَ شَائِع بِخِلَافِ مَا فَسَرُّوا عَلَيْهِ الْحَدِيث فَإِنَّهُ غَيْر مَشْهُور وَلَمْ نَجِد لَهُ شَاهِدًا فِي كَلَامهمْ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَة بِالدَّالِ تَصْحِيف أَوْ غَلَط مِنْ السَّامِع . وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ فَقَالَ : لَا رَيْب أَنَّ قَوْله ” قَرَّ الدَّجَاجَة ” مَفْعُول مُطْلَق , وَفِيهِ مَعْنَى التَّشْبِيه , فَكَمَا يَصِحّ أَنْ يُشَبِّهَ إِيرَاد مَا اِخْتَطَفَهُ مِنْ الْكَلَام فِي أُذُن الْكَاهِن بِصَبِّ الْمَاء فِي الْقَارُورَة يَصِحّ أَنْ يُشَبِّهَ تَرْدِيد الْكَلَام فِي أُذُنه بِتَرْدِيدِ الدَّجَاجَة صَوْتهَا فِي أُذُن صَوَاحِبَاتهَا , وَهَذَا مُشَاهَد , تَرَى الدِّيك إِذَا رَأَى شَيْئًا يُنْكِرهُ يُقَرْقِر فَتَسْمَعهُ الدَّجَاج فَتَجْتَمِع وَتُقَرْقِر مَعَهُ , وَبَاب التَّشْبِيه وَاسِع لَا يَفْتَقِر إِلَى الْعَلَاقَة , غَيْر أَنَّ الِاخْتِطَاف مُسْتَعَار لِلْكَلَامِ مِنْ فِعْل الطَّيْر كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ( فَتَخْطَفهُ الطَّيْر ) فَيَكُون ذِكْر الدَّجَاجَة هُنَا أَنْسَب مِنْ ذِكْر الزُّجَاجَة لِحُصُولِ التَّرْشِيح فِي الِاسْتِعَارَة . قُلْت : وَيُؤَيِّدهُ دَعْوَى الدَّارَقُطْنِيِّ وَهُوَ إِمَام الْفَنّ أَنَّ الَّذِي بِالزَّايِ تَصْحِيف , وَإِنْ كُنَّا مَا قَبِلْنَا ذَلِكَ فَلَا أَقَلّ أَنْ يَكُون أَرْجَح . ‏

‏قَوْله : ( فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَة كَذْبَة ) ‏
‏فِي رِوَايَة اِبْن جُرَيْجٍ ” أَكْثَر مِنْ مِائَة كَذْبَة ” وَهُوَ دَالّ عَلَى أَنَّ ذِكْر الْمِائَة لِلْمُبَالَغَةِ لَا لِتَعْيِينِ الْعَدَد , وَقَوْله كَذْبَة هُنَا بِالْفَتْحِ وَحُكِيَ الْكَسْر , وَأَنْكَرَهُ بَعْضهمْ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْهَيْئَة وَالْحَالَة وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه , وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم فِي حَدِيث آخَر أَصْل تَوَصُّل الْجِنِّيّ إِلَى الِاخْتِطَاف فَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس ” حَدَّثَنِي رِجَال مِنْ الْأَنْصَار أَنَّهُمْ بَيْنَا هُمْ جُلُوس لَيْلًا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ , فَقَالَ : مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا رُمِيَ مِثْل هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة ؟ قَالُوا : كُنَّا نَقُول وُلِدَ اللَّيْلَة رَجُل عَظِيم أَوْ مَاتَ رَجُل عَظِيم , فَقَالَ : إِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَد وَلَا لِحَيَاتِهِ . وَلَكِنْ رَبّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَة الْعَرْش ثُمَّ سَبَّحَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغ التَّسْبِيح إِلَى أَهْل هَذِهِ السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ : مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ حَتَّى يَصِل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا , فَيَسْتَرِق مِنْهُ الْجِنِّيّ , فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهه فَهُوَ حَقّ , وَلَكِنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ وَيَنْقُصُونَ ” وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير سَبَأ وَغَيْرهَا بَيَان كَيْفِيَّتهمْ عِنْد اِسْتِرَاقهمْ , وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي بَدْء الْخَلْق مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة ” أَنَّ الْمَلَائِكَة تَنْزِل فِي الْعَنَان – وَهُوَ السَّحَاب – فَتَذْكُر الْأَمْر قُضِيَ فِي السَّمَاء فَتَسْتَرِق الشَّيَاطِين السَّمْع ” فَيُحْتَمَل أَنْ يُرِيد بِالسَّحَابِ السَّمَاء كَمَا أَطْلَقَ السَّمَاء عَلَى السَّحَاب , وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون عَلَى حَقِيقَته وَأَنَّ بَعْض الْمَلَائِكَة إِذَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ إِلَى الْأَرْض تَسْمَع مِنْهُمْ الشَّيَاطِين , أَوْ الْمُرَاد الْمَلَائِكَة الْمُوَكَّلَة بِإِنْزَالِ الْمَطَر . ‏


‏ ‏قَوْله : ( قَالَ عَلِيّ قَالَ عَبْد الرَّزَّاق مُرْسَل الْكَلِمَة مِنْ الْحَقّ , ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْد ) ‏
‏عَلَى هَذَا هُوَ اِبْن الْمَدِينِيّ شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ , وَمُرَاده أَنَّ عَبْد الرَّزَّاق كَانَ يُرْسِل هَذَا الْقَدْر مِنْ الْحَدِيث , ثُمَّ أَنَّهُ بَعْد ذَلِكَ وَصَلَهُ بِذِكْرِ عَائِشَة فِيهِ , وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ عَبْد بْن حُمَيْدٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيّ مِنْ طَرِيق فَيَّاض بْن زُهَيْر , وَأَبُو نُعَيْم مِنْ طَرِيق عَبَّاس الْعَنْبَرِيّ ثَلَاثَتهمْ عَنْ عَبْد الرَّزَّاق مَوْصُولًا كَرِوَايَةِ هِشَام بْن يُوسُف عَنْ مَعْمَر , وَفِي الْحَدِيث بَقَاء اِسْتِرَاق الشَّيَاطِين السَّمْع , لَكِنَّهُ قَلَّ وَنَدَرَ حَتَّى كَادَ يَضْمَحِلّ بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْجَاهِلِيَّة وَفِيهِ النَّهْي عَنْ إِتْيَان الْكُهَّان قَالَ الْقُرْطُبِيّ : يَجِب عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مُحْتَسِب وَغَيْره أَنْ يُقِيم مَنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْوَاق وَيُنْكِر عَلَيْهِمْ أَشَدّ النَّكِير وَعَلَى مَنْ يَجِيء إِلَيْهِمْ وَلَا يَغْتَرّ بِصِدْقِهِمْ فِي بَعْض الْأُمُور وَلَا بِكَثْرَةِ مَنْ يَجِيء إِلَيْهِمْ مِمَّنْ يُنْسَب إِلَى الْعِلْم , فَإِنَّهُمْ غَيْر رَاسِخِينَ فِي الْعِلْم بَلْ مِنْ الْجُهَّال بِمَا فِي إِتْيَانهمْ مِنْ الْمَحْذُور . ‏

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى