جواز الاستعانة بالجن في المباحات الفصل الأول ــــ 2ــ 3 .
جواز الاستعانة بالجن في المباحات
الفصل الأول
القائلين بجواز الاستعانة بالجن في المباحات وأدلتهم، وتحته مباحث
المبحث الأول
من أجاز الاستعانة بالجن في المباحات
أجاز ذلك شيخ الإسلام – وهو مع قوله بالجواز يرى أن الأولى تركه وأنه مكروه – كاستعانة الإنسي بالإنسي. وفي “مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى[1] “: ( قال: في مغني ذوي الأفهام[2]: ويباح فعل دواء لرؤية أرواح الجن [3]، وطردهم، مع أمن ضررهم، وكذا طاعتهم له)[4]. وممن صرح بذلك من المعاصرين شيخنا الفقيه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، والشيخ عبدالعزيز الراجحي متابعين في ذلك لشيخ الإسلام.
ووقفت على استعانة بهم من بعض الفقهاء أو إقرارهم ومنهم أبو يعقوب الأذرعي، والمدابغي من الشافعية، والشوكاني، والشيخ محمد رشيد رضا، وذكره الشيخ رشيد رضا عن بعض علماء الأزهر، فأقدم من وقفت على استعماله الجن في ذلك من المتقدمين هو أبو يعقوب الأذرعي[5] – رحمه الله- فقد جاء عنه أنه كان لا يكاد تفارقه قارورة البول؛ لعِلَّة كانت به، وأنه دفعها إلى بعض من كان يخدمه لغسلها، أو لإراقة ما فيها، فاحتاج إليها ولم يحضر من يناوله إياها، فقال: أسأل من حضر من إخواننا المسلمين من الجن أن يناولنيها؛ فناولوه إياها [6]. ولكن هذا فعل وليس قولاً، والاستدلال بالأفعال لا يلزم منه أن فاعلها يرى جواز ذلك أو مطلقاً، ولعلها الضرورة، وقد قال بعض الفقهاء كما في أعلام الموقعين: لا تنظر إلى عمل الفقيه لكن سله يصدقك.
وجاء عن الفقيه الشافعي المدابغي نحو هذا [7]، وهو: (أنه كان في بيته جني يلازمه يستفيد منه في صورة قِطّ، والشيخ لا يعلم، ولما علم به وطلب منه أن يأتيه بنقود خرج ولم يعد )[8].
وقال الصفدي: ( قال الشيخ شمس الدين – أي ابن القيم- حدثني الشيخ تقي الدين ابن تيمية أن الشهاب العابر كان له رئي من الجن يخبره بالمغيبات ) [9]، والمراد بالمغيبات كمَكَان ضالة أو اسم شخص أو ما جرى بين أناس ونحو ذلك فإن الجني يذهب وينظر ويستمع ويخبر بما رأى، لا المغيبات في المستقبل فهذه لا يعلمها إلا الله، وقد تعلم باستراق السمع أو غير ذلك.
وقال العلامة الشوكاني، في ترجمة العباس التونسي: (السيد العباس بن محمد المغربي التونسي قدم إلى صنعاء في سنة 1200، وله معرفة بعلم الحروف والأوفاق، رأينا منه في ذلك عجائب وغرائب، وأخذنا عنه في علم الأوفاق لقصد التجريب لا لاعتقاد شيء من ذلك، وكان إذا احتاج إلى دراهم أخذ بياضاً وقطعه قطعاً على صور الضربة المتعامل بها، ثم يجعلها في وعاء ويتلو عليها، فتنقلب دراهم، وكنت في الابتداء أظن ذلك حيلة وشعوذة، فأخذت ذلك الوعاء وفتشته فلم أقف على الحقيقة، فسألته أن يصدقنى؟ فقال: أن تلك الدراهم يجئ بها خادم من الجن يضعها في ذلك الوعاء بقدر ما جعلته من قطع البياض، ويكون ذلك قرضاً حتى يتمكن من القضاء فيقضي.. وكان يكثر التردد إلي، وأنا إذ ذاك مشتغل بطلب العلم..وكذلك وصف لنا من رافقه من حجاج اليمن في الطريق من مروءته وإحسانه إليهم في الطريق وشكره لأهل اليمن عند أصحابه وغيرهم ما يدل على أنه من أهل المروءات… وكان طويلاً ضخماً حسن الأخلاق أبيض اللون شديد القوة، ويحفظ منظومة في فقه المالكية، وله معرفة بمسائل من أصول الدين، وكان يصمم على ما يعرفه فإذا ظهر له الحق مال إليه..) [10].
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا: (وقد كان من علماء الأزهر من يُحكى عنهم إخضاع الجن، أو جعلهم تلاميذ لهم)[11]، وهذا إن دل على شيء ربما يدل على جوازه عندهم لا استحبابه، ولكن هذه من الاستعانة المحرمة، وغالب من يفعلها يؤذيه الجن في النهاية بالضرب أو القتل وقد حصل كثراً، وكذا لا يجوز إجبارهم على التتلمذ عليه.
وفي كتب التاريخ أيضاً حكايات حول هذا، ولكن أكثرها لا يعرف حال صاحبه، وكثير منها من الطرق التي هي شعوذة فلا يغتر بها [12].
يقول شيخ الإسلام: (ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له، فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له )[13]. وقال: (ومنهم من يستخدمهم – أي الجن – في أمور مباحة إما إحضار ماله، أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم، أو دفع من يؤذيه ونحو ذلك،فهذا كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك )[14]. يعني يستعين بهم فيما يقدرون عليه.
فهذا كلام المجيزين، ولكن ليس هذا الحكم عندهم على إطلاقه، بل له ضوابط، وأذكرها في المطلب الآتي، وبالله أتأيد:
المبحث الثاني
ضوابط الجواز
في كلام المجيزين رحمهم الله ضوابط لحكم الإباحة، وهي مستقاة من كلام بعضهم نصاً أو فحوى:
الضابط الأول: كون السبب مباحاً، ويتبين من قول شيخ الإسلام: (وآخرون دون هؤلاء قد يستخدمون بعض الجن في مباحات، كما قد يستخدمون بعض الإنس، وقد يكون ذلك مما ينقص دينهم لا سيما إن كان بسبب غير مباح )، ويتبين أيضاً من قوله: (وتارة يأتونه- أي الجن – من المفاوز بماء عذب، وطعام، وغير ذلك، وليس شيء من ذلك من معجزات الأنبياء، ولا كرامات الصالحين، فإن ذلك إنما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة، وهو لو كان مباحاً لم يجز أن يُفعل بهذا السبب)[15]، فقوله: (لم يجز أن يفعل بهذا السبب) يدل أنه لابد أن يكون السبب مباحاً، وهو متفق عليه ولو لم يصرَّح به.
يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- وهو يتكلم عن أنواع الاستعانة التي ذكرها شيخ الإسلام: (الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة).
الضابط الثاني: وهو الذي سبق ذكره أيضاً وهو ألا تفضي هذه الاستعانة إلى محرم، والذي منه تعظيمهم وتنفيذ أوامرهم بحيث يأمرونه وينهونه، ويذلُّ لهم وقد كرَّمه الله، أو تصديقهم في كل ما يقولون، مما يُشعر بتسلطهم، وخوفه وحاجته لهم، فهذا يمكن الخروج منه بالضوابط التي يجب وجودها في المستعين، وهي في الظابط الثالث.
الضابط الثالث:وهو في المستعين؛ وهو أنه يجب أن يكون متصفاً بعدة صفات:
الأولى: أن يكون من الموحدين الصالحين، وبتعبير شيخ الإسلام يكون “من أولياء الرحمن”، الذين عندهم من الورع والعلم، وخاصة معرفة التوحيد وما يضاده، والخبرة والحذر والحيطة ما لا يمكن للجن معه من استدراجه إلى محرم؛ في حالة ما إذا كانوا من شياطينهم أو مبتدعتهم أو فساقهم[16]، ويفرق بين أولياء الرحمن وبين المشعوذين باتباع السنة والصلاح والاستقامة.
الثانية: أن يكون استعماله لهم كاستعمال الملوك، بحيث أن يكون هو الآمر الناهي، وسائر ما للملوك من تصرفات، فيكون الجن خدماً له لا أن يذل ويخضع لهم.
يتبين هذان الضابطان من قوله -رحمه الله-: (ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له ، فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له ، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له ، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك ، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله ، فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول: كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)[17].
فهذا الذي استعان بهم من الأولياء، وهم: الذين آمنوا وكانوا يتقون، وأنه يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم. لكن قوله: ( وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله) يدل على كراهتها عنده وأن ذلك لا يقع إلا ممن ليس هو في الولاية بالمرتبه العليا وسيأتي تصريحه بذلك إن شاء الله.
ومن ذلك قوله: (ومن الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة، كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة؛ لكن هؤلاء لا يخدمهم الإنس والجن إلا بعوض، مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم، أو يعينونهم على بعض مقاصدهم، وإلا فليس أحد من الإنس والجن يفعل شيئاً إلا لغرض، والإنس والجن إذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة، فإما أن يكونوا مخلصين يطلبون الأجر من الله، وإلا طلبوه منه، إما دعاؤه لهم، وإما نفعه لهم بجاهه وغير ذلك )[18]، فقال: إذا خدموا الرجل الصالح، ومن هم الذين يُطلب منهم الدعاء إلا الصالحين.
فلا بد إذا أن يكون المستعين بهم بمنزلة الملوك، الذين يكون الجن لهم كالخدم الذين يخدمونهم، ويحترمونهم، فتنتفي الذريعة إلى المحرم، لكن هذا الشرط وهو أن يكون معهم كالملك لا أرى صحة اشتراطه فيما يبدو لي والله أعلم؛ لأنها حينئذ استخدام وليست استعانة، أو هي استعانة لا كراهة فيها، فلا يقال للملك أنه مستعين بجنوده بل آمر لهم مستخدم لهم.
الضابط الرابع: في نوع المباحات التي يعينونه فيها وهذه المباحات لها في كلام شيخ الإسلام – رحمه الله- ضابطان فيما يبدو:
الأول: من قوله: “بعض أغراضه المباحة” فيستعملهم في بعضها، وليس تمادياً، يوضحه الثاني وهو من قوله:”كاستعانة الإنس بعضهم ببعض في ذلك” فينظر ما هي المباحات التي يمكن أن يعاون فيها الإنس بعضهم بعضاً إذا ما طلب منهم، من غير ترتب محظور، فهو كإصلاح سيارة، أو إعانة على حرث مزرعة، أو إحضار كتاب ، أو ماء، أو نحو ذلك. يوضح هذا أمثلة الشيخ التي ذكرها وهي: إحضار ماله، أو دلالة على مكان فيه مال ليس له مالك معصوم، أو دفع من يؤذيه، أو يأتونه بماء، وطعام، يعني فيما يقدر عليه الجني، وهو يقدر على أشياء لا يقدر عليها الإنس، والخلاصة أنها إعانة فيما يقدر عليه الجني وهو يقدر على أشياء لا يقدر عليها الإنسي أحياناً، كأن يخبره بأشياء غائبة عنه، وقعت في مكان بعيد لسرعة تنقل الجن، لا إخبارة بالمغيبات في المستقبل فعلم الغيب لا يعلمه غير الله.
وهذا المطلب مهم؛ لأن هناك أمور مباحة ولكن لا يتصور الاستعانة بهم فيها بدون شرك أو محرم، كالحال مع الإنس، وهناك مباحات يظهر من سبب الخدمة الاستدراج للشر، ومن ذلك – فيما يظهر- أن يكون الشخص غير متوقع لمثله أن يُخدم، ويخدمه بغير عوض ونحو ذلك، فقد يكون المكر مقصوداً وظاهراً، أو حديث عهد بتوبة، أو يقرأ على المرضى وهو غير متمكن من العلم، ومثال ذلك قول الشيخ: (وإن لم يكن تام العلمبالشريعة [19] فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج ، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي ، أو أن يحملوه إلى عرفات ، ولا يحج الحج الشرعي الذيأمره الله به ورسوله ، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به ). فلا بد من التفريق بين أنواع المباحات.
فإن قيل: وكيف يُعرف أن هذا المستعين بهم لم يقع في محذور، أو أن الخدمة ليست مباحة، فجواب المجيزين: أن هذا من التفريق بين الأحوال الرحمانية والشيطانية، يعرفه من قذف الله في قلبه من نوره، وكان خبيراً بحقائق الإيمان,كما قال شيخ الإسلام [20]. ومن معاونتهم لأولياء الشيطان قول الشيخ: (والذين تحملهم الجن وتطير بهم من مكان إلى مكان أكثرهم لا يدري كيف حمل، بل يحمل الرجل إلى عرفات ويرجع وما يدري كيف حملته الشياطين، ولا يدعونه يفعل ما أمر الله به كما أمر الله به، بل قد يقف بعرفات من غير إحرام ولا إتمام مناسك الحج، وقد يذهبون به إلى مكة ويطوف بالبيت من غير إحرام إذا حاذى الميقات، وذلك واجب في أحد قولي العلماء ومستحب في الآخر، فيفوته المشروع أو يوقعونه في الذنب ويغرونه بأن هذا من كرامات الصالحين، وليس هو مما يكرم الله به وليه بل هو مما أضلته به الشياطين، وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة.
أو يكون صاحبه له عند الله منزلة عظيمة وليس هو قربة وطاعة، وصاحبه لا يزداد بذلك منزلة عند الله، فإن التقرب إلى الله إنما يكون بواجب أو مستحب وهذا ليس بواجب ولا مستحب، بل يضلون صاحبه ويصدونه عن تكميل ما يحبه الله منه من عبادته وطاعته وطاعة رسوله، ويوهمونه أن هذا من أفضل الكرامات، حتى يبقى طالبا له عاملا عليه وهم بسبب إعانتهم له على ذلك قد استعملوه في بعض ما يريدون مما ينقص قدره عند الله، أو وقوعه في ذنوب وإن لم يعرف أنها ذنوب، فيكون ضالا ناقصا وإن غفر له ذلك لعدم علمه، فإنه نقص درجته وخفض منزلته بذلك الذي أوهموه أنه رفع درجته وأعلى منزلته.
وهذا من جنس ما تفعله السحرة فإن الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه، وقد يركب شيئا من الجمادات: إما قصبة وإما خابية وإما مكنسة وإما غير ذلك، فيصعد به في الهواء، وذلك أن الشياطين تحمله وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثير من العباد والضلال من عباد المشركين وأهل الكتاب، والضلال من المسلمين فتحملهم من مكان إلى مكان، وقد يرى أحدهم بما يركبه إما فرس وإما غيره وهو شيطان تصور له في صورة مركوب، وقد يرى أنه يمشي في الهواء من غير مركوب والشيطان قد حمله، والحكايات في هذا كثيرة معروفة عند من يعرف هذا الباب، ونحن نعرف من هذا أمورا يطول وصفها، وكذلك المشي على الماء قد يجعل له الجن ما يمشي عليه وهو يظن أنه يمشي على الماء، وقد يخيلون أليه أنه التقى طرفا النهر ليعبر والنهر لم يتغير في نفسه ولكن خيلوا إليه ذلك )[21].
المبحث الثالث
سبب خدمة الجن للإنس
يرِد على المجيزين سؤال وهو: لماذا يخدم الجني الإنسي؟ وهل يمكن أن يكون للجن مصلحة مع الإنس غير محرَّمة؟ ومن كلامهم يتبين أنه يمكن وجود أسباب مباحة، ومما قالوا في هذا أن الجن فيهم صالحون يريدون الأجر من الله بهذه الخدمة كالإنس، وقد يخدمه ليطعمه أو يعطيه مالاً ربما ليتصدق به، وقد يريدون مصلحة من الإنسي دنيوية كجاهه ونحوه، وقد يكون الإنسي شيخه الذي يستفيد منه، فيحبه ويحترمه ويريد خدمته وتنفيذ أوامره بلا مقابل، إما يريد الأجر أو أن يدعو له، أو يردّ شيئاً من جميله، كما يفعل الإنسي فلا فرق عند المجيزين بين الإنس والجن في مثل هذا [22].
يقول شيخ الإسلام –رحمه الله-: (ومن الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة،كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة لكن هؤلاء لا يخدمهم الإنس والجن إلا بعوض، مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم أو يعينونهم على بعض مقاصدهم وإلا فليس أحد من الإنس والجن يفعل شيئا إلا لغرض، والإنس والجن إذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة، فإما أن يكونوا مخلصين يطلبون الأجر من الله، وإلا طلبوه منه: إما دعاؤه لهم، وإما نفعه لهم بجاهه وغير ذلك )[23].
ويقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله -: ( وخدمة الجني للإنسي ليست محرمة على كل حال، بل هي على حسب الحال، فالجني يخدم الإنسي في أمور لمصلحة الإنسي، وقد يكون للجن فيها مصلحة، وقد لا يكون له فيها مصلحة، بل لأنه يحبه في الله ولله، ولا شك أن من الجن مؤمنين يحبون المؤمنين من الإنس؛ لأنه يجمعهم الإيمان بالله)[24].
ومما يمكن أن يقرَّب به هذا القول أن الجني المسلم قد يخدم الصالحين من المسلمين بدون أن يطلبوا ذلك منه، وأحياناً من غير أن يعلم الإنسي بهم، وهذا كثير، فيعاونونهم على أمور الدنيا أو على البر والتقوى، ويذكر المجيزون هنا مما وقع في كتب المتقدمين مثلاً القصة التي ذُكر أنها وقعت بعد معركة نهاوند[25]؛ قال القاضي بدر الدين الشبلي: ( وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشاً فقدم شخص إلى المدينة، فأخبرهم أنهم انتصروا على عدوهم، وشاع الخبر، فسأل عمر عن ذلك، فذكر له، فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتي بريد الإنس، فجاء بعد ذلك بأيام)[26]، حتى إنَّ الحافظ ابن حجر -رحمه الله- عد أبا الهيثم هذا من الجن الصحابة، فذكره في كتابه “الإصابة في تمييز الصحابة”[27]. والذين ذُكروا من الصحابة وهم من الجن كثر وفي قصص كثيرة [28]، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد )[29]، وقال: إخواننا، فعند مسلم: (وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ولكم كل بعرة علف لدوابكم ، ثم قال: لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم)[30]، وعند الترمذي وغيره ( زاد إخوانكم من الجن )[31].
فكما كان فيهم صحابة ففيهم صالحين بلا نزاع، ومعونتهم للإنس في مثل هذا أمر ممكن.
ومما ذكر في إعانة الجن المؤمن للصالحين من عباد الله: ما حصل من تبليغ قول عمر رضي الله عنه لسارية: يا سارية الجبل، وكان عمر يصيح بها على المنبر في المدينة وكان الجيش في نهاوند، فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بها، فسمعها الجيش وأسند ظهره للجبل فهزم الله أعداءهم [32]، فهذا ممكن من الجن؛ يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – معلقا عليه:( وعمر رضي الله عنه لما نادى: يا سارية الجبل، قال: إن لله جنودا يبلغون صوتي، وجنود الله هم من الملائكة، ومن صالحي الجن، فجنود الله بلغوا صوت عمر إلى سارية، وهو أنهم نادوه بمثل صوت عمر، وإلا نفس صوت عمر لا يصل نفسه في هذه المسافة البعيدة، وهذا كالرجل يدعو آخر وهو بعيد عنه، فيقول: يا فلان، فيعان على ذلك، فيقول الواسطة بينهما: يا فلان، وقد يقول لمن هو بعيد عنه: يا فلان احبس الماء، تعال إلينا، وهو لا يسمع صوته، فيناديه الواسطة بمثل ذلك، يا فلان احبس الماء، أرسل الماء، إما بمثل صوت الأول إن كان لا يقبل إلا صوته، وإلا فلا يضر بأي صوت كان إذا عرف أن صاحبه قد ناداه)[33].
ويقول أيضاً مبيناً معاونة الجن الصالح للإنس: (كنت في مصر في قلعتها [في السجن فجاء شخص إلى أمير البلد][34] وجرى مثل هذا كثير من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى مصر رسولاً وكنت في الحبس، فاستعظموا ذلك، وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنياً يحبنا، فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاءوا إلى دمشق؛كنت أدعوهم إلى الإسلام فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك، قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون ملَكا؟ قلت: لا؛ إن الملك لا يكذب، وهذا قال أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب) [35].
ويقول الشيخ ابن جبرين – رحمه الله -: (وقد تواتر عن بعض الصالحين من الناس أن هناك من يوقظهم للصلاة آخر الليل ولا يرون أحداً، وإنما هم من صالحي الجن والله أعلم )[36].
وفي ترتيب المدارك [37] في ترجمة عبدالرحيم بن عبدربه الربعي المعروف بالزاهد[38]، قال القاضي: (ومن كراماته ما حكاه المالكي: أن سحنون بلغه أن عبدالرحيم أقام ستة أشهر لم يشرب ماء، فأنكر ذلك سحنون، وركب مع جماعة من الشيوخ إليه، فبات عنده، وسأله عما بلغه واستشنع عليه فقال له: ومن لا يأكل ولا يشرب؟ فلما انصرف عنه سحنون، راجعه وقال له، سألتني عن شيء فكتمته، ثم حاسبت نفسي، والذي قيل لك صحيح، ولي ستة أشهر لم أشرب ماء، وذلك أني كنت أصلي، فأصابني عطش شديد، فقلت: أفرغ من حزبي وأشرب، فلما فرغت، مددت يدي للقسط، فانقلب وذهب ما فيه من ماء، وكانت ليلة كثيرة الريح والبرد، والماجل أسفل القصر، فكبر علي النزول، وقلت: يا رب: إن هذا شغلني عن حزبي، فاحمل عني المؤونة، فأجابني من زاوية البيت، ولا أحد فيه، يقول: أنا من مؤمني الجن أصلي بصلاتك مدة، فمر هذه الليلة شيطان مارد – وهم علينا أمر مما هم عليكم – فحسدك، ورمى لك في القسط شيئاً، فلو شربته لعرض في جسمك ما لا طاقة لك به، فلما مددت يدك إلى القسط سبقتك إليه فأهرقته.
قال عبد الرحيم: فأخلصت لله الدعاء، فحمل عني المؤونة، وإن احتجت للماء بعد شربته. فنزل سحنون إلى الناس، وقال:عبد سأل مولاه حاجة، فقضاها له).
ويقول شيخ الإسلام: (من الجن المؤمنين من يعاون المؤمنين، ومن الجن الفساق والكفار من يعاون الفساق، كما يعاون الإنس بعضهم بعضا)[39].
ويقول تعالى حكاية عن الجن: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ﴾[40]، قال أبو السعود في تفسيرها: (أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم، وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح، حسبما تقتضيه الفطرة السليمة، لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة) [41].


ولكن قال الذهبي في السير: (2/357): ( زائدة [ وهو ابن قدامة الثقفي ] حدثنا عاصم بن كليب الجرمي، حدثني أبي أنه أبطأ على عمر خبر نهاوند، وابن مقرن، وأنه كان يستنصر، وأن الناس كانوا مما يرون من استنصاره، ليس همهم إلا نهاوند، وابن مقرن، فجاء إليه أعرابي مهاجر، فلما بلغ البقيع قال: ما أتاكم عن نهاوند ؟ قالوا: وما ذاك ؟ قال: لا شيء، فأرسل إليه عمر، فأتاه فقال: أقبلت بأهلي مهاجرا حتى وردنا مكان كذا وكذا، فلما صدرنا: إذا نحن براكب على جمل أحمر ما رأيت مثله، فقلت: يا عبد الله من أين أقبلت ؟ قال: من العراق، قلت: ما خبر الناس ؟ قال: اقتتل الناس بنهاوند ففتحها الله، وقتل ابن مقرن، والله ما أدري أي الناس هو ولا ما نهاوند ! قال: أتدري أي يوم ذاك من الجمعة ؟ قال: لا، قال عمر: لكني أدري، عد منازلك، قال: نزلنا مكان كذا ثم ارتحلنا، فنزلنا مكان كذا، فنزلنا منزل كذا، حتى عد . فقال عمر: ذاك يوم كذا وكذا من الجمعة، لعلك تكون لقيت بريداً من برد الجن، فإن لهم برداً، فلبث ما لبث، ثم جاء البشير: بأنهم التقوا ذلك اليوم ) ورجال السند المذكور هنا ثقات . والقصة مشهورة ذكرها الطبري في تاريخه (2/528-529)، وابن كثير في البداية والنهاية في أحداث وقعة نهاوند (10/124)، وابن الأثير في الكامل (2/148) قال: قال السائب وذكرها، وابن الجوزي في المنتظم (4/269) وذكر إسنادها قال: أخبرنا محمد بن الحسين وإسماعيل، قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن عبدالله، قال: حدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: كان سبب نهاوند في زمان سعد بن أبي وقاص .. وذكر المعركة وذكر القصة في آخرها .، وسموا – عدا ابن الجوزي- الجنِّي: عثيم، وكذا ذكر في الإصابة (5465) وذكر أنه أبو الهيثم أيضا(10686)، وقد ذكر الحافظ القصة عند الترجمتين، فلعله تحرف لتقارب الاسمين؛ لأن القصة لم تتكرر وسمى بشير الإنس: طريف بن سهم .ولعل اسم الجني غثيم بالغاء؛ لأن في تاج العروس (33/166) مادة (غ ث م): (وغَيْثَمٌ وغُثَيْمٌ اسْمَانِ الأخِيرُ اسمُ لبريدِ الجِنِّ نَقَلَه شَيخُنا) .