بداية العداوة في الأرض .
عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
[ ص: 294 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ : الْأُولَى : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا قَرَأَ الْجَمَاعَةُ فَأَزَلَّهُمَا بِغَيْرِ أَلِفٍ ، مِنَ الزَّلَّةِ وَهِيَ الْخَطِيئَةُ ، أَيِ اسْتَزَلَّهُمَا وَأَوْقَعَهُمَا فِيهَا . وَقَرَأَ حَمْزَةُ ” فَأَزَالَهُمَا ” بِأَلِفٍ ، مِنَ التَّنْحِيَةِ ، أَيْ نَحَّاهُمَا . يُقَالُ : أَزَلْتُهُ فَزَالَ . قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : فَأَزَالَهُمَا مِنَ الزَّوَالِ ، أَيْ صَرَفَهُمَا عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ .
قُلْتُ : وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى ، إِلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ أَمْكَنُ فِي الْمَعْنَى . يُقَالُ مِنْهُ : أَزْلَلْتُهُ فَزَلَّ . وَدَلَّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ، وَقَوْلُهُ : فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ وَالْوَسْوَسَةُ إِنَّمَا هِيَ إِدْخَالُهُمَا فِي الزَّلَلِ بِالْمَعْصِيَةِ ، وَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ قُدْرَةٌ عَلَى زَوَالِ أَحَدٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ ، إِنَّمَا قُدْرَتُهُ عَلَى إِدْخَالِهِ فِي الزَّلَلِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى زَوَالِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ بِذَنْبِهِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مَعْنَى أَزَلَّهُمَا مِنْ زَلَّ عَنِ الْمَكَانِ إِذَا تَنَحَّى ، فَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى كَقِرَاءَةِ حَمْزَةَ مِنَ الزَّوَالِ . قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
يُزِلُّ الْغُلَامُ الْخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ وَيُلْوِي بِأَثْوَابِ الْعَنِيفِ الْمُثَقَّلِ
وَقَالَ أَيْضًا :
كُمَيْتٍ يُزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالْمُتَنَزِّلِ
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ إِذَا جَعَلَ أَزَالَ مِنْ زَالَ عَنِ الْمَكَانِ فَقَوْلُهُ : ( فَأَخْرَجَهُمَا ) تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِلزَّوَالِ ، إِذْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَا عَنْ مَكَانٍ كَانَا فِيهِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا كَانَ إِخْرَاجُهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ ، لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْهَا ، وَلِيَكُونَ آدَمُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ . وَلَمْ يَقْصِدْ إِبْلِيسُ – لَعَنَهُ اللَّهُ – إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَإِنَّمَا قَصَدَ إِسْقَاطَهُ مِنْ مَرْتَبَتِهِ وَإِبْعَادِهِ كَمَا أُبْعِدَ هُوَ ، فَلَمْ يَبْلُغْ مَقْصِدَهُ وَلَا أَدْرَكَ مُرَادَهُ ، بَلِ ازْدَادَ سُخْنَةَ عَيْنٍ وَغَيْظَ نَفْسٍ وَخَيْبَةَ ظَنٍّ . قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَارًا لَهُ فِي دَارِهِ ، فَكَمْ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْجَارِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِسَبَبِهِ وَإِغْوَائِهِ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُتَوَلِّيَ إِغْوَاءِ آدَمَ ، وَاخْتُلِفَ فِي الْكَيْفِيَّةِ ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَغْوَاهُمَا مُشَافَهَةً ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَالْمُقَاسَمَةُ ظَاهِرُهَا الْمُشَافَهَةُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ : دَخَلَ الْجَنَّةَ فِي فَمِ الْحَيَّةِ وَهِيَ [ ص: 295 ] ذَاتُ أَرْبَعٍ كَالْبُخْتِيَّةِ مِنْ أَحْسَنِ دَابَّةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ فَلَمْ يُدْخِلْهُ إِلَّا الْحَيَّةُ ، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ الْجَنَّةَ خَرَجَ مِنْ جَوْفِهَا إِبْلِيسُ فَأَخَذَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ آدَمَ وَزَوْجَهُ عَنْهَا فَجَاءَ بِهَا إِلَى حَوَّاءَ فَقَالَ : انْظُرِي إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ ، مَا أَطْيَبَ رِيحَهَا وَأَطْيَبَ طَعْمَهَا وَأَحْسَنَ لَوْنَهَا فَلَمْ يَزَلْ يُغْوِيهَا حَتَّى أَخَذَتْهَا حَوَّاءُ فَأَكَلَتْهَا . ثُمَّ أَغْوَى آدَمَ ، وَقَالَتْ لَهُ حَوَّاءُ : كُلْ فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُ فَلَمْ يَضُرَّنِي ، فَأَكَلَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَحَصَلَا فِي حُكْمِ الذَّنْبِ ، فَدَخَلَ آدَمُ فِي جَوْفِ الشَّجَرَةِ ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ : أَيْنَ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : أَنَا هَذَا يَا رَبِّ ، قَالَ : أَلَا تَخْرُجُ ؟ قَالَ : أَسْتَحِي مِنْكَ يَا رَبِّ ، قَالَ : اهْبِطْ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقْتَ مِنْهَا . وَلُعِنَتِ الْحَيَّةُ وَرُدَّتْ قَوَائِمُهَا فِي جَوْفِهَا وَجُعِلَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ ، وَلِذَلِكَ أُمِرْنَا بِقَتْلِهَا ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ . وَقِيلَ لِحَوَّاءَ : كَمَا أَدْمَيْتِ الشَّجَرَةَ فَكَذَلِكَ يُصِيبُكِ الدَّمُ كُلَّ شَهْرٍ وَتَحْمِلِينَ وَتَضَعِينَ كُرْهًا تُشْرِفِينَ بِهِ عَلَى الْمَوْتِ مِرَارًا . زَادَ الطَّبَرِيُّ وَالنَّقَّاشُ : وَتَكُونِي سَفِيهَةً وَقَدْ كُنْتِ حَلِيمَةً . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِلَى آدَمَ بَعْدَ مَا أُخْرِجَ مِنْهَا وَإِنَّمَا أَغْوَى بِشَيْطَانِهِ وَسُلْطَانِهِ وَوِسْوَاسِهِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَسَيَأْتِي فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ بَقِيَ عُرْيَانًا وَطَلَبَ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ الْأَشْجَارُ وَبَكَّتُوهُ بِالْمَعْصِيَةِ ، فَرَحِمَتْهُ شَجَرَةُ التِّينِ ، فَأَخَذَ مِنْ وَرَقِهِ فَاسْتَتَرَ بِهِ ، فَبُلِيَ بِالْعُرْيِ دُونَ الشَّجَرِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقِيلَ : إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِخْرَاجِ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ عِمَارَةُ الدُّنْيَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ : وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً ، إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ ، فَقَالَ : ( اقْتُلُوهَا ) ، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا فَسَبَقَتْنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا . فَلَمْ يُضْرِمْ نَارًا وَلَا احْتَالَ فِي قَتْلِهَا . قِيلَ لَهُ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَجِدْ نَارًا فَتَرَكَهَا ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْجُحْرُ بِهَيْئَةٍ يُنْتَفَعُ بِالنَّارِ هُنَاكَ مَعَ ضَرَرِ الدُّخَانِ وَعَدَمِ وُصُولِهِ إِلَى الْحَيَوَانِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ : ” وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ ” أَيْ قَتْلَكُمْ إِيَّاهَا ” كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا ” أَيْ لَسْعَهَا .
قَدْ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْ رَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهَ وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْ
نِ فَلَمْ نُخْطِ فُؤَادَهُ
وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا لِيُبَيِّنَ طَرِيقًا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَرُّزُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ وَيَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى قَتْلِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ . رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَتْ جَانًّا فَأُرِيَتْ فِي الْمَنَامِ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهَا : لَقَدْ قَتَلْتِ مُسْلِمًا ، فَقَالَتْ : لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ [ ص: 299 ] عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَعَلَيْكِ ثِيَابُكِ . فَأَصْبَحَتْ فَأَمَرَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَفِي رِوَايَةٍ : مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَأَنْتِ مُسْتَتِرَةٌ ، فَتَصَدَّقَتْ وَأَعْتَقَتْ رِقَابًا . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ : الْجَانُّ مِنَ الْحَيَّاتِ الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا هِيَ الَّتِي تَمْشِي وَلَا تَلْتَوِي ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ نَحْوُهُ .
قُلْتُ : وَهَذَا يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْإِذْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّهُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ : أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – أَلَّا تُؤْذِينَنَا وَأَلَّا تَظْهَرْنَ عَلَيْنَا .
التَّاسِعَةُ : رَوَى جُبَيْرُ بَنُ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ – وَاسْمُهُ جُرْثُومٌ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْلَاثٍ فَثُلُثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ وَثُلُثٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ وَثُلُثٌ يَحُلُّونَ وَيَظْعَنُونَ . وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ – وَاسْمُهُ عُوَيْمِرٌ – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُلِقَ الْجِنُّ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثٍ فَثُلُثٌ كِلَابٌ وَحَيَّاتٌ وَخَشَاشُ الْأَرْضِ وَثُلُثٌ رِيحٌ هَفَّافَةٌ وَثُلُثٌ كَبَنِي آدَمَ لَهُمُ الثَّوَابُ وَعَلَيْهِمُ الْعِقَابُ وَخَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَ ثَلَاثَةَ أَثْلَاثٍ فَثُلُثٌ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَأَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ [ ص: 300 ] بِهَا وَآذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا وَثُلُثٌ أَجْسَادُهُمْ كَأَجْسَادِ بَنِي آدَمَ وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ وَثُلُثٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ .
فَالْحَيَّةُ أَبْدَتْ جَوْهَرَهَا الْخَبِيثَ حَيْثُ خَانَتْ آدَمَ بِأَنْ أَدْخَلَتْ إِبْلِيسَ الْجَنَّةَ بَيْنَ فَكَّيْهَا ، وَلَوْ كَانَتْ تُبْرِزُهُ مَا تَرَكَهَا رَضْوَانُ تَدْخُلُ بِهِ . وَقَالَ لَهَا إِبْلِيسُ أَنْتِ فِي ذِمَّتِي ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا وَقَالَ : اقْتُلُوهَا وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ يَعْنِي الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ .
وَالْوَزَغَةُ نَفَخَتْ عَلَى نَارِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الدَّوَابِّ فَلُعِنَتْ . وَهَذَا مِنْ نَوْعِ مَا يُرْوَى فِي الْحَيَّةِ . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ كَافِرًا . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَفِي الثَّانِيَةِ دُونَ ذَلِكَ وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ وَفِي رَاوِيَةٍ أَنَّهُ قَالَ : فِي أَوَّلِ ضَرْبَةٍ سَبْعُونَ حَسَنَةٍ .
[ ص: 301 ] وَالْفَأْرَةُ أَبْدَتْ جَوْهَرَهَا بِأَنْ عَمَدَتْ إِلَى حِبَالِ سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطَعَتْهَا . وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحِدَأَةَ وَالسَّبُعَ الْعَادِيَّ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالْفُوَيْسِقَةَ . وَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخَذَتْ فَتِيلَةً لِتَحْرُقَ الْبَيْتَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهَا . وَالْغُرَابُ أَبْدَى جَوْهَرَهُ حَيْثُ بَعَثَهُ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّفِينَةِ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ فَتَرَكَ أَمْرَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى جِيفَةٍ . هَذَا كُلُّهُ فِي مَعْنَى الْحَيَّةِ ، فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَابِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي التَّعْلِيلِ فِي ” الْمَائِدَةِ ” وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْأُولَى : قَوْلُهُ تَعَالَى وَقُلْنَا اهْبِطُوا حُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنَ اهْبِطُوا فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهَا أَلِفُ وَصْلٍ . وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ قُلْنَا فِي اللَّفْظِ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الْهَاءِ بَعْدَهَا . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى عَنْ أَبِي حَيْوَةَ ضَمَّ الْبَاءِ فِي ( اهْبُطُوا ) ، وَهِيَ لُغَةٌ يُقَوِّيهَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالْأَكْثَرُ فِي غَيْرِ الْمُتَعَدِّي أَنْ يَأْتِيَ عَلَى يَفْعُلَ . وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَالْحَيَّةِ وَالشَّيْطَانِ ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ الْحَسَنُ : آدَمُ وَحَوَّاءُ وَالْوَسْوَسَةُ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ أَيْضًا : بَنُو آدَمَ وَبَنُو إِبْلِيسَ . وَالْهُبُوطُ : النُّزُولُ مِنْ فَوْقٍ إِلَى أَسْفَلَ ، فَأُهْبِطَ آدَمُ بِسَرَنْدِيبَ فِي الْهِنْدِ بِجَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ” بُوذُ ” وَمَعَهُ رِيحُ الْجَنَّةِ فَعَلِقَ بِشَجَرِهَا وَأَوْدِيَتِهَا فَامْتَلَأَ مَا هُنَاكَ طِيبًا ، فَمِنْ ثَمَّ يُؤْتَى بِالطِّيبِ مِنْ رِيحِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَكَانَ السَّحَابُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ فَأَصْلَعَ ، فَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَسَيَأْتِي . وَأُهْبِطَتْ حَوَّاءُ بِجَدَّةَ وَإِبْلِيسُ بِالْأُبُلَّةَ ، وَالْحَيَّةُ بِبَيْسَانَ ، وَقِيلَ : بِسِجِسْتَانَ . وَسِجِسْتَانَ أَكْثَرُ بِلَادِ اللَّهِ حَيَّاتٍ ، وَلَوْلَا الْعِرْبَدُّ الَّذِي يَأْكُلُهَا وَيُفْنِي كَثِيرًا مِنْهَا لَأُخْلِيَتْ سِجِسْتَانُ مِنْ أَجْلِ الْحَيَّاتِ ، ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَسْعُودِيُّ .
قُلْتُ : وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُ تَعَالَى : بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ عَلَى الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ ، وَفِيهِ بُعْدٌ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مَعْنًى . يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَصْبَحَ تَقُولُ جَوَارِحُهُ لِلِسَانِهِ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّكَ إِذَا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ : ( عَدُوٌّ ) وَلَمْ يَقُلْ : أَعْدَاءٌ ، فَفِيهِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَعْضًا وَكُلًّا يُخْبَرُ عَنْهُمَا بِالْوَاحِدِ عَلَى اللَّفْظِ وَعَلَى الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا عَلَى اللَّفْظِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ عَلَى الْمَعْنَى . وَالْجَوَابُ الْآخَرُ : أَنَّ عَدُوًّا يُفْرَدُ فِي مَوْضِعِ الْجَمْعِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا بِمَعْنَى أَعْدَاءٍ ، وَقَالَ تَعَالَى : يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ . وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ : الْعَدُوُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالتَّأْنِيثِ ، وَقَدْ يُجْمَعُ .
وَقَفْتُ عَلَى قَبْرٍ غَرِيبٍ بِقَفْرَةٍ مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ
كَابِي الرَّمَادِ عَظِيمُ الْقِدْرِ جَفْنَتُهُ حِينَ الشِّتَاءِ كَحَوْضِ الْمَنْهَلِ اللَّقِفِ
لَقِفَ الْحَوْضُ لَقْفًا ، أَيْ تَهَوَّرَ مِنْ أَسْفَلِهِ وَاتَّسَعَ . وَرُبَّمَا أَدْخَلُوا عَلَيْهِ التَّاءَ قَالَ أَبُو وَجْزَةَ :
الْعَاطِفُونَ تَحِينُ مَا مِنْ عَاطِفٍ وَالْمُطْعِمُونَ زَمَانَ أَيْنَ الْمُطْعِمُ
وَالْحُيْنُ أَيْضًا : الْمُدَّةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ وَالْحِينُ السَّاعَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الْحِينُ الْقِطْعَةُ مِنَ الدَّهْرِ كَالسَّاعَةِ فَمَا فَوْقَهَا وَقَوْلُهُ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيْ حَتَّى تَفْنَى آجَالُهُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ أَيْ كُلَّ سَنَةٍ ، وَقِيلَ : بَلْ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَقِيلَ : بَلْ غُدْوَةً وَعَشِيًّا ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْحِينُ اسْمٌ كَالْوَقْتِ يَصْلُحُ لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ كُلِّهَا طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَا يَنْقَطِعُ نَفْعُهَا الْبَتَّةَ قَالَ وَالْحِينُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَالْحِينُ الْغُدْوَةُ وَالْعَشِيَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَيُقَالُ عَامَلْتُهُ مُحَايَنَةً مِنَ الْحِينِ وَأَحْيَنْتُ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَمْتُ بِهِ حِينًا . وَحَانَ حِينَ كَذَا أَيْ قَرُبَ ، قَالَتْ بُثَيْنَةُ :
وَإِنَّ سُلُوِّيَ عَنْ جَمِيلٍ لَسَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ مَا حَانَتْ وَلَا حَانَ حِينُهَا
قُلْتُ : هَذَا الِاتِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَذْهَبِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْعَلَ شَيْئًا إِلَى حِينٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ دَهْرٍ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةٌ . وَقَالَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ : إِنَّهُ شَكَّ فِي الدَّهْرِ أَنْ يَكُونَ سَنَةً وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ يَعْقُوبَ وَابْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الدَّهْرَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَعُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَلَيْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْحِينِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَلَا لِلْحِينِ غَايَةٌ قَدْ يَكُونُ الْحِينُ عِنْدَهُ مُدَّةَ الدُّنْيَا وَقَالَ : لَا نُحَنِّثُهُ أَبَدًا ، وَالْوَرَعُ أَنْ يَقْضِيَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ : الْحِينُ وَالزَّمَانُ عَلَى مَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ يُقَالُ : قَدْ جِئْتَ مِنْ حِينٍ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَجِئْ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ وَبِالْجُمْلَةِ الْحِينُ لَهُ مَصَارِفُ وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ تَعْيِينَ مَحْمَلٍ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ لَمْ يُوضَعْ فِي اللُّغَةِ لِمَعْنًى مُعَيَّنٍ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِلَى حِينٍ فَائِدَةُ بِشَارَةٍ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ بَاقٍ فِيهَا وَمُنْتَقِلٌ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَهِيَ لِغَيْرِ آدَمَ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعَادِ فَحَسْبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ