العمل للدين مسؤولية الجميعفقه العبادات والمعاملات

مقدمة في أصول الفقه وتعريفاته

مقدمة في أصول الفقه وتعريفاته

الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (1)

أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

قال الشافعي:

ومنزلةُ السَّفيه من الفقيه نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
كمنزلة الفقيه من السَّفيه نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
فهذا زاهدٌ في قُرْب هذا نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
وهذا فيه أزهدُ منه فيه نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
إذا غلَب الشَّقاءُ على سفيه نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
تنطَّع في مخالفةِ الفقيه نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

مقدمة في أصول الفقه

[1]
:
هذا الفن من الأهمية بمكانٍ، فيَنبغي لطالب العلم الاهتمام والاعتناء به؛ لذا يقول العُلماء:
(من حُرِمَ الأصول، حُرِمَ الوصول)، فلا يُمكن أن تصل إلى العلوم إلا بأصولها وقواعدها.

إن أصول الفقه عِلم جليلُ القدر، بالغ الأهمية، وغزير الفائدة؛ فائدته التمكُّن من حصول قدرة
تستطيع بها استِخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسُس سليمة؛
أي أنك إذا عرفتَ أصول الفقه، أمكنَكَ أن تَستنبِط الأحكام الشرعية من أدلتها،
فتأمَّل معي المثال التالي:
قول الله – تعالى -: ( وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) [الطلاق: 4].

فظاهر الآية أن المرأة إذا وضعَت ولو بعد موت زوجِها بدقائق انتهَت عدَّتها،
علمنا هذا من دراسة أصول الفقه؛ لأن هذا عموم، والعموم يشمَل جميع أفراده.

أصول الفقه:
فائدة:
العلماء – رَحِمَهم الله – يَذكُرون عند التعريف: المعنى اللُّغوي؛ لأنه الحقيقة التي يُرجَع إليها،
ويَذكرون المعنى الشرعي؛ لأن الحقيقة الشرعية لها ارتباط بالمعنى اللُّغوي، ولها صِلة به؛
لأن الشرع جاء باللغة العربية، فله ارتباط بالمعنى اللغوي، أحيانًا يزيد أوصافًا، وأحيانًا ينقص مثاله:

الصلاة في اللغة:
الدعاء،
ولكن في الشرع هي:

(عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مُفتتَحة بالتكبير، ومختتَمة بالتسليم).

تعريف أصول الفقه:
يُعرَّف أصول الفقه باعتبارَين:
الأول: باعتِبار مُفردَيه:
أي كلمة “أصول” على حِدة، وكلمة “فقه” على حِدة.

فالأصول: هي جَمع أصل، وهو ما يُبنى عليه غيرُه، أو ما يَستنِد وجود الشيء إليه؛ قال – تعالى -:
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) [إبراهيم: 24].

لذا أبو الإنسان وجدُّه يسمى أصلاً؛ لأنه يتفرَّع منه أولاده.

أما الأصل اصطلاحًا: فيُطلَق على الدليل غالبًا؛ كقولهم: “أصل هذه المسألة الكتاب والسنَّة“؛
أي دليلها، ويُطلق على غير ذلك، إلا أن هذا الإطلاق هو المراد في علم الأصول

[2].

أما الفقه:
لغةً: فالفهم؛ قال – تعالى -: ( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي )[طه: 27، 28]،
وقال – تعالى -: ( وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) [الإسراء: 44]، ويُطلَق على العلم، وعلى الفِطنة.

أما الفقه اصطلاحًا فهو: (معرفة الأحكام الشرعية العملية المُكتسَبة من أدلتها التفصيلية)

[3].

الثاني: تعريف أصول الفقه باعتباره عِلمًا ولقبًا:
هو: (أدلة الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد)

[4].

المقصود بأدلة الفقه الإجمالية: هي الأدلة الشرعية المتَّفق عليها والمختلف فيها.

المقصود بكيفية الاستفادة منها: أي كيفية استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية،
وهي طرق الاستِنباط، مثل الأمر والنهي، والعام والخاص، والمُطلَق والمقيَّد،
والمُجمَل والمبيَّن، والمنطوق والمفهوم.

المقصود بحال المستفيد: أي المجتهد، ويدخُل في ذلك مباحث التعارُض والترجيح،
والفتوى؛ لأنها من خصائص المُجتهِد، ويَدخُل فيه أيضًا مبحث التقليد؛ لكون المقلد تابعًا له.

بقي من مباحث علم الأصول: مبحث الأحكام، لم يدخل في هذا التعريف باعتبار أن موضوع أصول الفقه هو:
الأدلة، فتكون الأحكام بهذا الاعتبار مقدِّمة من مُقدِّمات علم أصول الفقه، غير داخلة في موضوعه.

وعند التأمل نجد أنه داخِل في عِلم الأصول، سواء ذُكر في التعريف أم لا،
وسواء اعتُبر موضوعًا لعلم الأصول أم لا

[5].

هناك أيضًا قواعد الفقه: وهي تبحَث في قواعد وضوابط الفقه، التي يَنبني عليها مسائل.

مسألة:
هل يَنبغي أن يُقدَّم علم أصول الفقه على الفقه، أم يقدم الفقه عليه؟


قال ابن عثيمين:
قال بعض العلماء – رحمهم الله -: قدِّم الأصول حتى تَبني عليها الفروع، فاعرف أصول الفقه، قبل أن تعرف الفقه.

وقال بعض العلماء – رحمهم الله -: بل يقدَّم الفقه؛ لأن الإنسان يُمكن أن يعرف الفقه دون أن يرجع إلى أصول الفقه،
وحينئذ يمكن للإنسان أن يعرف الفقه قبل أن يعرف أصول الفقه؛ وهذا هو الذي عليه العمل الجاري من قديم الزمان،
حتى إن بعض المشايخ – فيما نسمَع – يقرؤون الفقه، ولا يقرؤون أصول الفقه إطلاقًا

[6].

موضوع أصول الفقه:
هو معرفة الأدلة الشرعية ومراتبها وأحوالها

[7].

مَصادر أصول الفقه:
المقصود بها الأدلة والأصول التي بُنيت عليها قواعده، وهي:
1- استِقراء نُصوص الكتاب والسنَّة الصحيحة.
2- الآثار المروية عن الصحابة والتابعين.
3- إجماع السلف الصالِح.
4- قواعد اللغة العربية وشواهِدها المنقولة عن العرب.
5- الفِطرة السوية والعقل السليم.
6- اجتهادات أهل العلم واستِنباطاتهم وفق الضوابط الشرعية

[8].

[1]
مستفادة من كتاب: شرح الأصول من علم الأصول؛ للشيخ ابن عثيمين،
ومن محاضرات شرح كتاب الأصول من علم الأصول؛ لشيخي عادل بن يوسف العزازي
في مسجد التوحيد بشُبرا، ومن كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنَّة والجماعة؛
لمحمد بن حسين الجيزاني، والوجيز في أصول الفقه؛ لعبدالكريم زيدان.

[2]
انظر: شرح الكوكب المنير (1: 39)، ويُطلَق على الراجح، مثل قولهم: الأصل في الكلام الحقيقة؛
أي: الراجح في الكلام حملُه على الحقيقة، لا على المجاز.
ويُطلَق على المستصحب، فيقال: الأصل براءة الذمَّة؛ أي: يُستصحَب خلوُّ الذمة من الانشغال بشيء حتى يَثبُت خلافه؛
انظر: الوجيز في أصول الفقه؛ لعبدالكريم زيدان (9 – 10).

[3]
انظر: مختصر ابن اللحام (31)، وشرح الكوكب المنير (1: 41).

[4]
انظر: قواعد الأصول (21)، شرح الكوكب المنير (1: 44).

[5]
انظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة (21)؛ لمحمد بن حسين الجيزاني.

[6]
شرح نظم الورقات (15 – 16).

[7]
انظر: مجموع الفتاوى (20: 401).

[8]
مستفاد من كتاب الرسالة للإمام الشافعي، نقلاً من كتاب معالم الفقه (22 – 23)؛
لمحمد بن حسين الجيزاني – حفظه الله.

فرسان السنة

=========================
مقدمة لطيفة

عن طرق دراسة الفقه
ونبذ التعصب لأقوال الرجال
أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة


إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هاديَ له،
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
[آل عمران: 102].

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
)
[النساء: 1].



( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
)
[الأحزاب: 70، 71].



أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-
وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار[1].



وبعد:
فقد منَّ الله علينا بأن حَفِظَ لنا دينَنا، وأتمَّ علينا نعمتَه بوجود العلماء الربَّانيين،
الذين أفنوا أعمارهم وأموالهم في سبيل خدمة دينه ونشره، فأعلى الله ذكرَهم، وشكر لهم سعيَهم.

وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مَن أراد الله به الخير يفقِّهه في الدِّين،
ففي حديث معاوية بن أبي سفيان قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ يُرِد اللهُ به خيرًا يُفقِّهْهُ في الدين))[2].

ودراسة الفقه ومعرفة كيفية العبادات من أجلِّ ما يُنفَق فيه الوقت والجهد والمال؛
لذا اعتنى العلماء قديمًا وحديثًا بالتصنيف والتأليف لتدوين وتسطير الفقه،
وتسابَقَ العلماء على خدمته بالشرح والتأليف، والتأصيل والتفريع، والاستدلال والاستنباط، وتخريج الأدلة والنصوص.

ومن المعلوم الملاحظ أن طريقة التدوين والتأليف والدراسة في الفقه تنتظم في طريقتين:
الطريقة الأولى: طريقة الفقه المذهبي، وهي عبارة عن اختيار مذهب من مذاهب الأئمة المعتبرين،
وهذا يعرف بالتفقه في المسائل من كتب الفروع.

والطريقة الثانية: فقه الراجح، وهي عبارة عن اختيار الراجح في كل مسألة من المسائل
بدليلها من الكتاب والسنة، وهذا يعرف بالتفقه في الدلائل.

فالتفقه من كتب المسائل له أربع مراتب:
الأولى: تصور المسألة.
الثانية: معرفة دليلها.
الثالثة: استنباط الحكم من الدليل.
الرابعة: معرفة كيفية الاستنباط التي أوصلت إلى الحكم.

وكذلك تحصيل التفقه من كتب الدلائل له أربع مراتب:
الأولى: معرفة الدليل.
الثانية: استنباط الحكم منه.
الثالثة: معرفة كيفية الاستنباط.
الرابعة: تصور المسألة.

والحاصل أن كلَّ طريقة من الطريقتين لا غنى لها عن الأخرى؛ إذ الفقيه لا بد له من حديث صحيح يعتمد عليه ويبني عليه مذهبه،
كذا المحدِّث يحتاج إلى نظرة الفقهاء للحديث لاستنباط الأحكام.

أما ما يدَّعيه البعض أن المحدِّثين لا علاقة لهم بالفقه، فهذه فِرْيَة وادِّعاء لا دليل عليه، ويكفي في الرد على هذه الفرية
أن ثلاثةً من أصحاب المذاهب المتبوعة من كبار المحدثين، وهم: مالك – الشافعي – أحمد.

قال الخطابي:
ورأيتُ أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر،
وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميَّز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛
لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع،
وكل بناء لم يُوضَع على قاعدة وأساس فهو منهارٌ، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.

ووجدتُ هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين، والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض،
وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه – إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.

فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث،
فإن الأكثرين منهم إنما وكدهم الروايات وجمع الطرق، وطلب الغريب والشاذ من الحديث، الذي أكثره موضوع أو مقلوب،
لا يراعون المتون ولا يتفهَّمون المعاني ولا يستنبطون سيرها، ولا يستخرجون رِكازها وفقهها، وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن،
وادَّعوا عليهم مخالفة السنن، ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون، وبسوء القول فيهم آثمون.

وأما الطبقة الأخرى – وهم أهل الفقه والنظر – فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقلِّه، ولا يكادون يميِّزون صحيحه من سقيمه،
ولا يعرفون جيِّدَه من رديئه، ولا يعبؤون بما بلَغهم منه أن يحتجُّوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها،
ووافق آراءهم التي يعتقدونها، وقد اصطلحوا على مُواضعةٍ بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم،
وتعاورته الألسن فيما بينهم، من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلَّةً من الرأي وغبنًا فيه، وهؤلاء – وفقنا الله وإياهم –
لو حُكِي لهم عن واحدٍ من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قولٌ يقوله باجتهاد من قِبَل نفسه، طلبوا فيه الثقة، واستبرؤوا له العهدة.

فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم والأشهب وضُرَبائهم من تلاد أصحابه،
فإذا وجدت رواية عبدالله بن عبدالحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً.

وترى أصحابَ أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعِلْية من أصحابه والأجلة من تلامذته،
فإنْ جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه روايةُ قولٍ بخلافه، لم يقبلوه ولم يعتمدوه.

وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعوِّلون في مذهبه على رواية المُزَني والربيع بن سليمان المرادي،
فإذا جاءت رواية حَرْمَلة والجيزي وأمثالهما، لم يلتفتوا إليها ولم يعتدُّوا بها في أقاويله.

وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمَّتهم وأستاذيهم.

فإذا كان هذا دأبَهم،
وكانوا لا يقنَعون في أمرِ هذه الفروع وروايتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت،
فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم، والخطب الأعظم، وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول ربِّ العزة،
الواجب حكمُه، اللازمة طاعتُه، الذي يجب علينا التسليم لحكمه، والانقياد لأمره؛
من حيث لا نجد في أنفسنا حرجًا مما قضاه، ولا في صدورنا غلاًّ من شيء مما أبرمه وأمضاه؟![3].

ومعلوم أن الأئمة عندما تكلَّموا وصنَّفوا في العلم والفقه، إنما أرادوا إظهار الحق بدليله، وأن كلام الرجال غيرُ مرادٍ لذاته،
وإنما المرادُ هو إصابة الحق والوصول إليه، فمَن اختار طريقةً من الطريقتين، فله وجه من الحق والصواب،
ولكن ينبغي التنبيه على عدم التعصب لأقوال الرجال، وإنما التعصب – إن صح التعبير – يكون للدليل.

وإليك بعضًا من أقوال الأئمة في رد التمسك بأقوالهم وإنما التمسك بالدليل:
قال أبو حنيفة:
(لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه)[4].

وقال مالك بن أنس:
(ليس أحدٌ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ويؤخذ من قوله ويُترَك إلا النبي – صلى الله عليه وسلم)[5].

وقال الشافعي:
(أجمع المسلمون على أن مَن استبان له سنةٌ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحلَّ له أن يَدَعها لقول أحد)[6].

وقال أحمد:
(لا تقلِّدني ولا تقلِّد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخُذْ من حيث أخذوا)[7].

وهذا لا يعني أننا نترك قولَ واختيارَ الأئمة ونذهب فنأخذ بقول واختيار فلان وفلان، ولكن هو اتباعُ الدليل ندور وراءه حيث دار،
فلا أحد كائنًا مَن كان مطلوب اتباعه إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- ورحم الله ابن عباس؛ حيث قال:
(يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول لكم:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون: قال أبو بكر وعمر!)،
وهما مَن هما، إنهما أعلم الصحابة وأفضل الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين.

ومن المعلوم أن لا أحد يقول بأن أقوال الأئمة يجب اتباعها مطلقًا، فالصواب أن ننظر في أقوالهم،
فإذا وافقتِ الحقَّ قبِلناها، وإلا أخذنا بكلامِهم في العودة إلى الدليل؛ لأن الأئمة كلَّهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع النصوص،
فالصحابة – رضي الله عنهم – خَفِي عليهم بعض السنن، فما ظنُّك بغيرهم من الأئمة، وقد يصلُ الإمامَ الحديثُ ولكن لم يصحَّ عنده،
أو صح عنده ولم يصحَّ عند غيره، وقد لا يصله أصلاً، وقد يصلُه بعض الأدلة دون بعضها الآخر في المسألة الواحدة.

فإذا علِمنا هذا، فاعلَم أن واجبَنا نحو أئمتنا أن نعتذرَ لهم، ونترحَّم عليهم، وأنهم يدور اجتهادهم بين الأجر والأجرين،
ولكن ليس لمقلِّدي الأئمة من العذر ما للأئمة إذا تبين لهم الخطأ؛
لأن الأئمة بذلوا جهدهم ووُسْعَهم في الوصول للحق بدليله من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة،
ومَن كان هذا شأنه فهو جديرٌ بالعذر في خطئه، والأجر في اجتهاده، أما المقلِّدون فيبقى لهم كلام الأئمة في ذم التقليد في الخطأ[8].



[1] خطبة الحاجة، رواها مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة 2/496، وشرحها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة مفيدة،
وقد وردت عن ثمانية من الصحابة – رضي الله عنهم – جمعها العلامة الألباني في رسالة ماتعة.

[2] البخاري 71، ومسلم 2436، من حديث معاوية بن أبي سفيان.

[3] معالم السنن للخطابي 1/3 – 5.

[4] الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء؛ لابن عبدالبر 145، وإعلام الموقعين؛ لابن القيم 2/309.

[5] الجامع؛ لابن عبدالبر 2/91.

[6] إعلام الموقعين 2/361.

[7] إعلام الموقعين 2/302.

[8] الكلام في هذه المسألة يطول، وهذه النبذة من سن القلم،

ومَن أراد الاستزادة فعليه بكتاب “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية،
ومقدمة صفة صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – للألباني.
=====================
ما يُنجِّسُ الماءَ ~ الصراط السوي في سؤالات الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم – الطهارة (1) ~

ما يُنجِّسُ الماءَ

الصراط السوي في سؤالات الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم – الطهارة (1)
أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

(الطهارة)

معنى الطهارة:
في اللغة: النظافة، والنزاهة من الأقذار.

وفي الاصطلاح:
رفع الحَدَث، وزوال الخَبَث.

أنواع الطهارة:
طهارة حكمية: هي الطهارة عن الحدث، أو الطهارة عن النجاسة حكمًا، وهي ثلاثة أنواع:
(الوضوء، والغسل، والتيمم).

طهارة حقيقية: وهي الطهارة عن النجاسة حقيقة، وهي ثلاثة أنواع:
(طهارة البدن، وطهارة المكان، وطهارة الثياب).

عن عبدالله بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، قال: سُئِل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الماء وما ينوبُه من الدوابِّ والسِّباع،
فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان الماء قُلَّتينِ، لم يحمِلِ الخَبَث))[1].

المسألة الأولى: معاني الكلمات:
قوله: (وما ينوبُه من الدوابِّ)؛ أي: سئل أيضًا عن الماء الذي ينوبه الدواب؛ أي: تقصده،
يقال: نابه ينوبُه نَوْبًا، وانتابه: إذا قصده مرَّة بعد أخرى، ويقال: معنى تنوبه الدواب؛ أي: تنزل به للشرب.

والدوابُّ: جمع دابة، وهي اسم ما يدبُّ على وجه الأرض في اللغة، وفي العرف:
الدابة تطلق على ذوات الأربع مما يُركَب، وقال في الصحاح: الدابة التي تركب.

والسباع: جمع سبع، وهي كل حيوان عادٍ مفترس ضار ممتنع.

قوله (إذا كان الماء قُلَّتينِ): القُلَّتان تثنية قُلَّة، وهي الحُب العظيم، والجمع قِلال،
واختلفوا في تفسير القُلَّة، فقيل: خمس قِرَب، وكل قِرْبة خمسون منًّا،
وقيل:
القُلَّة جرَّة تسع فيها مائة وخمس وعشرون منًّا،
وقيل: القلتان خمسمائة رطل بالبغدادي، وقيل: القلتان خمسمائة منٍّ.

وقال الخطابي:
(قد تكون القُلَّة الإناء الصغير الذي تنقله الأيدي، ويتعارض فيه الشراب كالكيزان ونحوها،
وتكون القُلَّة الجرة الكبيرة التي ينقلها القوي من الرجال، إلا أن مخرج الخبر قد دلَّ على أن المراد ليس النوع الأول؛
لأنه إنما سُئِل عن الماء الذي يكون بالفلاة من الأرض في المصانع والوهاد والغدران ونحوها،
ومثل هذه المياه لا يُحدُّ بالكوز والكوزين في العرف والعادة؛ لأن أدنى النجس إذا أصابه نجَّسَه،
فعُلِم أنه بمعنى الثاني، وقد روي في غير طريق أبي داود من رواية ابن جريج: ((إذا كان قلتين بقلال هجر))[2]،
وقِلال هجر مشهورة الصنعة، ومعلومة المقدار، وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها؛
ولذلك قيل “قُلَّتين” على لفظ التثنية، ولو كان وراءها قُلَّة في الكبر لأشكلت دلالته،
فلما ثنَّاه دلَّ على أنه أكبر القِلال؛ لأن التثنيةَ لا بدَّ لها من فائدة، وليست فائدتها إلا ما ذكرناه)[3].

قوله: ((لم يحملِ الخَبَث)): بفتح الخاء والباء؛ أي: لم يحمِلِ النَّجَس، واحتجَّ الشافعي وأصحابه بهذا الحديث
على أن الماء إذا بلغ قُلَّتين لا ينجُسُ إلا بالتغيير، وهو مذهب أحمد وأبي ثور، وفسَّروا قوله: ((لم يحملِ الخَبَث))؛ أي:
يدفعُه عن نفسه، كما يقال: فلان لا يحمل الضيم، إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه، ويؤكِّد ذلك الرواية الأخرى: ((فإنه لا ينجس))[4].

المسألة الثانية: حكم الماء إذا خالطته نجاسة:
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال؛ منها:
القول الأول: أن الماء لا ينجس مطلقًا وإن تغيَّر لونه وطعمه وريحه، وهو مذهب الظاهرية،
واستدلوا بحديث: ((الماءُ طَهورٌ لا يُنجِّسُه شيءٌ))[5].

القول الثاني: أن الماء لا يتنجس إلا إذا تغير لونه أو ريحه أو طعمه، وهو مذهب المالكية، واستدلوا:
أن عمر بن الخطاب خرج في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضًا،
فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل تَرِدُ حوضَك السباع؟
فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تُخبِرنا، فإنا نَرِدُ على السِّباع وتَرِدُ علينا[6].

القول الثالث: أنه إن كان الماء قُلَّتين لا يتنجس، وإلا تنجس، وهو مذهب الشافعية، واستدلوا بحديث الباب الذي مرَّ معنا.

القول الرابع: فرَّقوا بين قليل الماء وكثيرِه، فقالوا: إذا كان قليلاً تنجَّس، وإذا كان كثيرًا لا يتنجَّس،
وهو مذهب الحنفية، واختلفوا فيما بينهم في تحديد القليل والكثير، فمنهم مَن قال: التحديد بالكدرة،
ومنهم مَن قال: التحديد بالصبغ، ومنهم مَن قال: التحديد بالسبع في السبع، ومنهم مَن قال: التحديد بالثمانية في الثمانية،
ومنهم مَن قال: عشرون في عشرين، ومنهم مَن قال: العشر في العشر، ومنهم مَن قال: خمسة عشر في خمسة عشر،
ومنهم مَن قال: اثنا عشر في اثني عشر، ومنهم مَن قال: بالتحريك باليد أو الغسل أو الوضوء، وكلها تحديدات لا دليل عليها.

القول الخامس: فرَّقوا بين بَوْل الآدمي وعَذرته المائعة وغيرها من النجاسات، فقالوا: إذا خالط الماء،
تنجَّس إذا كان دون القُلَّتين أو بلغ القُلَّتين، تغير أم لم يتغير.

أما غيره من النجاسات، فجعلوا المعتبر فيه القُلَّتين، فإذا بلغ قُلَّتين ولم يتغير، فطهور،
وإن لم يبلغ القلتين، فنجسٌ بمجرد الملاقاة.

واعتمَدوا في التفريق بين بَوْل الآدمي وعذرته المائعة وغيرها من النجاسات على قوله – صلى الله عليه وسلم -:
((لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه))[7].

ورُدَّ عليه بأن الحديث لم يتعرَّض للنجاسة لا من قريب ولا من بعيد، ولكن نهى عن البول في الماء،
ثم الاغتسال فيه؛ لأنه كيف يغتسل في ماء بال هو فيه، وهذا نظير قوله – صلى الله عليه وسلم -:
((لا يجلد أحدُكم امرأتَه جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم))[8].

فالحديث ليس فيه النهي عن المضاجعة (أي: الجماع)، ولكن النهي عن الجمع بين الضرب والمضاجعة؛ لأنه تناقض.

والراجح من هذه الأقوال أن الماء قليلاً كان أم كثيرًا، إذا لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة
(الطعم – اللون – الرائحة)،
فهو على طهوريته، ولم يخرج من كونه ماءً طاهرًا مطهِّرًا، ولا فرقَ بين نجاسة وأخرى،
والدليل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري، أنه قيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
أنتوضَّأ من بئر بُضَاعة، وهي بئر يُطرَح فيها الحَيض ولحم الكلاب والنَّتْن؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((الماء طهور لا يُنجِّسه شيء))[9].

وقد نقل الإجماعَ ابنُ المنذر، فقال:
(أجمعوا على أن الماء القليلَ أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسةٌ فغيَّرت للماء طعمًا أو لونًا أو ريحًا، أنه نجسٌ ما دام كذلك)[10].

وقال ابن القيم: (إن الذي دلَّت عليه سنةُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
وآثارُ أصحابه أن الماء لا ينجُسُ إلا بالتغير وإن كان يسيرًا، وهذا قول أهل المدينة،
وجمهور السلف، وأكثر أهل الحديث، وبه أفتى عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس،
وبه قال أهل الظاهر، ونصَّ عليه أحمد في إحدى روايتيه، واختاره جماعة من أصحابنا، منهم:
ابن عقيل في مفرداته، وشيخنا أبو العباس ابن تيمية، وشيخه ابن أبي عمر)[11]،[12].

يتبع

 

============================

 

ما يُنجِّسُ الماءَ


الصراط السوي في سؤالات الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم – الطهارة (1)

أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

إشكال:
قال بعضهم: إن حديث القلتين يعارض حديث: ((الماء طهور لا ينجسه شيء)).

نقول – وبالله التوفيق -: إن للعلماء مسالكَ في التوفيق بين الحديثين على النحو التالي:
المسلك الأول: قالوا بضعف حديث القلتين؛ للاضطراب في متنه وسنده، فلا تعارض حينئذٍ؛
لأن الحديث ضعيف لا تقوم به الحجة.

المسلك الثاني: قالوا: الحديث صحيح، وذهبوا إلى الترجيح، فقالوا إن حديث: ((الماء طهور لا ينجِّسه شيء))،
صريح بمنطوقه على أن الماء طاهر لا ينجسه شيء.

أما حديث القلتين، فمفهومه يدل على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، وعلماء الأصول يقولون:
إن دلالة المنطوق إذا تعارضت مع دلالة المفهوم، قُدِّم دلالة المنطوق.

وسلك بعضهم مسلكًا آخر للترجيح، وهو أن حديث: ((الماء طهور لا ينجسه شيء)) عامٌّ،
وحديث (القلتين) خاصٌّ، وعلماء الأصول عندهم: (إذا تعارض العام والخاص، قُدِّم الخاص).

فأصبح عندنا الآن منطوق عام، ومفهوم خاص، ولكن العلماء يقدِّمون دلالة المنطوق على دلالة المفهوم؛
لأنه أقوى في الدلالة، وهذا نظير قولِه – تعالى -: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
[التوبة: 80]،
فمفهوم الآية أنه لو استغفر لهم واحدًا وسبعين غُفِر لهم، لكن هذا مفهوم معارَض بقوله – تعالى -:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]،
إذًا لو استغفر لهم ألفَ مرَّة ما غفر لهم، فألغينا دلالة المفهوم هنا؛ لأنها معارَضة بدلالة المنطوق،
وما قلنا: إن عموم قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
مخصوص بمفهوم قوله: ﴿ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ﴾.

المسلك الثالث: ذهب بعضهم إلى الجمع بين الحديثين، فقالوا: إن حديث (القلتين)
يُفِيد أن الماء إذا بلغ قلتين فأكثر، فإنه لا ينجس؛ لأن كثرته تَحُول بينه وبين النجاسة ولا تأثير في الماء،
وهذا موافق لحديث (الماء طهور).

وأما ما دون القلتين، فإن الحديث لم ينصَّ على أنه يحمِلِ الخبث يقينًا، ولكن يُفِيد مظنَّة واحتمال حمل الخبث،
فيكون المعنى: أن الماء طهور لا ينجِّسه شيء، إلا إذا تغيَّر أحد أوصافه الثلاثة.

قال صديق حسن خان:
(إن ما دون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغيُّر ريح الماء أو لونه أو طعمه، فهذا هو الأمر المُوجِب للنجاسة والخروج عن الطهورية،
وإن حمل حملاً لا يُغيِّر أحد تلك الأوصاف، فليس هذا الحمل مستلزمًا للنجاسة)[13]،[14]،[15].

المسألة الثانية: حكم سؤر السباع:
السُّؤر: بالهمز، هي ما يبقى في الإناء بعد الشرب، وجمعها آسار.

اعلم أن المتبقي من الشرب لا يخلو أن يكون من آدمي أو من حيوان.

أما سؤر الآدمي، فلا يخلو أن يكون مسلمًا أو غير مسلم، فالمسلم سؤره طاهر بل خلاف،
والدليل قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمنَ لا ينجُسُ))[16].

وكذا سؤر الحائض طاهر، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت:
“كنتُ أشرب وأنا حائضٌ، ثم أناوله النبي – صلى الله عليه وسلم – فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشربُ،
وأتعرَّق العَرْق وأنا حائض، ثم أناوله النبي – صلى الله عليه وسلم – فيضع فاه على موضع فيَّ”
[17].

وأما غير المسلم، ففيه خلاف، والراجح طهارة سؤره كذلك؛ لما ورد أن النبي
– صلى الله عليه وسلم – توضَّأ من مزادة مشركة[18].

وربطه – صلى الله عليه وسلم – ثمامة بن أثال وهو مشرك في سارية المسجد[19].

وأما مَن قال بنجاسة سؤر الكافر، فتعلق بقوله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
[التوبة: 28]،
فالمقصود بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية، وهي نجاسة الاعتقاد.

أما الحيوان، فإما مأكول اللحم، وإما غير مأكول اللحم؛
فمأكول اللحم سؤره طاهر بلا خلاف، والدليل على ذلك الإجماع، قال ابن المنذر:
(أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أُكل لحمه طاهر، ويجوز شربه والوضوء به)[20].

وأما غير مأكول اللحم، فسؤرها طاهر عدا الكلب والخنزير على الراجح،
وفي المسألة تفصيل على النحو التالي:

1- الهرة:
قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن بالكراهة، وقال أبو يوسف، والشافعي، ومالك، وأحمد،
والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيدة – رحمهم الله – بعدم الكراهة، وهو الراجح؛
لما ثبت في الحديث عن كبشة بنت كعب بن مالك – وكانت تحت ابن أبي قتادة –
أن أبا قتادة دخل فسكبتْ له وضوءًا، فجاءت هرَّة فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت،
قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال:
إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوَّافين عليكم والطوافات))[21].

قال الترمذي: (وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – والتابعين ومَن بعدهم؛
مثل: الشافعي، وأحمد، وإسحاق: لم يَرَوا بسؤرِ الهرة بأسًا).

قال ابن قدامة: (السِّنَّوْر وما دونها في الخلقة – كالفأرة وابن عرس وغيرهما من حشرات الأرض –
سؤرها طاهر، يجوز شربه والوضوء به ولا يُكره، وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين من أهل المدينة
والشام وأهل الكوفة وأصحاب الرأي، إلا النعمان، فإنه كره الوضوء بسؤر الهرة، فإن فعل أجزأه)[22].

2- البغال والحمير:
قال مالك: لا بأس بسؤرهما، وعن يحيى بن سعيد وبُكير بن عبدالله بن الأشج أنهما كانا يقولان:
لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل الحمير والبغال وغيرهما من الدواب،
وقال ابن شهاب مثله في الحمار، وقال عطاء بن أبي رباح، وربيعة بن أبي عبدالرحمن،
وأبو الزِّناد في الحمار والبغال مثله، وتلا عطاء قوله – تعالى -:
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
[النحل: 8].

قال ابن قدامة:
(والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم –
كان يركبها وتُركَب في زمنه وفي عصر الصحابة، فلو كان نجسًا لبيَّن النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك؛
لأنهما لا يمكن التحرُّز منهما لمقتنيهما، فأشبَهَا السِّنَّور)[23]، وهو قول الشافعي، وكره أبو حنيفة والثوري الوضوء به.

3- الكلب:
قد اختلف في سؤره اختلافًا كبيرًا، فجمهور العلماء على نجاسته، واستدلوا بقوله – صلى الله عليه وسلم -:
((طهورُ إناء أحدكم إذا ولَغ فيه الكلب أن يغسلَه سبع مرات، أُولاهن بالتراب))[24].

وقالوا: فالأمر بالغسل دليل على النجاسة، وقد ورد في بعض الروايات: ((فليُرِقْه))[25]، وهو الراجح.

وذهب مالك إلى القول بطهارة سؤره، معلِّلاً ذلك بأن الأمر بالغسل في الحديث للتعبد لا للتعليل،
وهناك أقوال عند المالكية بنجاسته، وهو قول مالك في رواية ابن وهب، وبعض المالكية فرَّق بين الكلب المأذون في اتخاذِه
وغير المأذون باتخاذه، وقالوا بأن العلة التي من أجلها أبيح سؤر الهرة هي عدم التحرُّز منها،
وهي موجودة في الكلب المأذون باتخاذه، وفرَّق ابن الماجشون بين الكلب البدوي والحضري[26].

وأجيب بأن الكلب معرَّف بالألف واللام يتناول جنس الكلاب، سواء كان كلب البدوي أو الحضري،
أو كلب الصيد أو كلب الزرع أو غير ذلك[27].

قال صاحب عون المعبود:
(لكن القول المحقق نجاسة سؤر الكلب؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم -:
((طهورُ إناءِ أحدكم))، والطهارة تُستَعمل إما عن حدثٍ أو خبث، ولا حدث على الإناء،
فتعيَّن الخبث، وقد ثبت عن ابن عباس التصريحُ بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس؛
رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح، ولم يصحَّ عن أحد من الصحابة خلافه، فلا يجوز التوضي به)[28].

4- الخنزير:
لم يأتِ نص في نجاسة سؤر الخنزير ولا طهارته، ولكن هناك أدلة على نجاسة الخنزير نفسه؛ منها قوله – تعالى -:
﴿ أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ [الأنعام: 145].

وقوله – صلى الله عليه وسلم – في حديثٍ عن أبي ثعلبة الخشني، أنه سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:
إنا نُجاوِر أهل الكتاب وهم يطبُخون في قدورِهم الخنزير، ويشربون في آنيتِهم الخمر؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((إن وجدتم غيرَها، فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها، فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا))[29]،
فالحديث فيه الأمر برحض القدور التي طُبخ فيها الخنزير بالماء، والرحض هو الغسل.

فمَن قال بنجاسة سؤره بناه على نجاسته ونجاسة ما تولَّد فيه، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد،
وهو الراجح، وذهب مالك والأوزاعي وداود إلى طهارة سؤره.

5- سؤر السباع:
قد اختُلِف في سؤره كثيرًا على النحو التالي:
القول الأول: ذهب أبو حنيفة والثوري وإسحاق بن راهويه والشعبي وابن سيرين إلى نجاسة سؤره، واستدلوا:
1- بحديث القُلَّتين الذي مرَّ معنا في الباب، وقالوا: لولا أن سؤر السباع والدواب نجسة،
لما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا القول.

2- قالوا: إن السباع حيوانات حرم أكلُها مثلها مثل الكلاب، وإن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتة والنجاسات؛
فتُنجس أفواههم.

القول الثاني: ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وداود، والحسن البصري، وعطاء، وربيعة،
ورُوِي عن عمر بن الخطاب، إلى طهارة سؤرها، واستدلوا بأحاديث، منها:

1- عن أبي سعيد الخدري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تَرِدُها السباع
والكلاب والحُمُر،وعن الطهارة منها، فقال: ((لها ما حملت في بطونِها، ولنا ما غبر طهور))[30].

2- عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص،
حتى وَرَدُوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل تَرِدُ حوضَك السباعُ؟
فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تُخبِرْنا؛ فإنا نَرِدُ على السباع وتَرِدُ علينا[31].

3- عن جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سُئل:
أنتوضَّأ بما أفضلتِ الحُمُر؟ قال: ((نعم، وبما أفضلت السباع كلها))[32].

4- عن ابن عمر قال: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بعض أسفاره فسار ليلاً،
فمرُّوا على رجلٍ جالس عند مُقْراةٍ له، فقال عمر: يا صاحب المقراة أَوَلَغتِ السباعُ الليلةَ في مُقراتِك،
فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -:
((يا صاحب المُقراةِ، لا تُخبِره، هذا متكلِّف، لها ما حملتْ في بطونها ولنا ما بقي شرابٌ وطهورٌ))[33].

مناقشة ورد القول بنجاسة سؤر السباع:
دليلهم الأول وهو حديث القلتين نقول: إن الحديث له منطوق وله مفهوم، أما منطوقه، فهو:
(إن الماء الذي يبلغ القلتين لا يتنجَّس بحلول النجاسة فيه)،
وهذا المنطوق لا يُفيدهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب.

أما مفهومه، فهو أن الماء الذي يقل عن القلتين يتنجَّس بحلول النجاسة فيه،
وهذا المفهوم أيضًا لا يفيدهم في القول بالنجاسة، وما قالوه: إنه لولا أن سؤر السِّباع والدوابِّ نجسٌ،
لَمَا قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذا الحديث.

فنقول: إن هذا احتمال ليس عليه دليل صريح، والقاعدة الأصولية: (أن الاحتمال يُسقط الاستدلال)،
إذًا هذا الحديث غاية ما هنالك أن فيه شبهة دليل فحسب.

أما قياسهم السباع على الكلاب وإعطاؤها حكمها، فنقول:
إن القياس في العبادات لا يجوز، إلا أن يكون هناك علة ظاهرة في النص، ولا علة ظاهرة هنا،
وإن كان لا بد لهم من القياس، فإنه يتوجَّب أن يستوي في طرفيه التماثل، وإلا فلا قياس،
فالكلاب نجاسة آسارها تجبُ إزالتها بغسل ما أصيب منها سبع مرَّات مع التراب،
فهل يُفعل ذلك بآسار السباع والدواب؟!

أما قولهم: إنها تأكل النجاسات ولا مُطهر لها، فتكون نجسة:
فنرد عليهم بأن الضِّباع تأكل النجاسات؛ لأنها حيوانات مفترسة طعامُها الجيف النجسة، وهي لا مطهِّر لها،
فلماذا أحلَّ الله لنا أكله؟

فعن ابن أبي عمار قال: قلتُ لجابرٍ: الضَّبُع أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قال: قلتُ: آكُلُها؟ قال: نعم،
قال: قلتُ:أقاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم[34].

وعليه؛ فالراجح القول بعدم نجاسة سؤر السباع والدواب؛ وذلك للبراءة الأصلية،
وعدم وجود دليل قوي معتَبر ينهض للقول بالنجاسة، والله أعلم.

وقد ردَّ الخطابي الاستدلال بحديث القُلَّتين على نجاسة سؤر السباع والدواب؛ حيث قال:
(وقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن السباع إذا وردت المياه خاضتها وبالت فيها،
وتلك عادتها وطباعها، وقلما تخلو أعضاؤها من لوث أبوالها ورجيعها،
وقد ينتابها في جملة السباع الكلابُ، وآسارُها نجسةٌ ببيان السنة)[35].


[1] أبو داود 63، كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء، والترمذي 67، كتاب الطهارة،
باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، والنسائي 52، كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء،
وابن ماجه 517، كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، وأحمد 4605، والدارمي 759،
كتاب الطهارة، باب قدر الماء الذي لا ينجس، وصحَّحه ابن خزيمة، والحاكم، وابن منده، وابن دقيق العيد،
انظر: التلخيص الحبير 1/16 – 20، وقال الألباني: حسن صحيح.

[2] أخرجه البيهقي 1 /263، من طريق ابن جريج، وابن عدي في الكامل 2/82، من طريق المغيرة،
وذكر ابن عدي أن الزيادة غير محفوظة، وكذا الحافظ في التلخيص، والألباني في الإرواء 23.
• هجر التي تُنسَب إليها، قريةٌ ببلاد البحرين، ويقال: إنها تنسب إلى هجر التي باليمن، وهي قاعدة البحرين،
وهي إما أن تكون عملت بها وجلبت إلى المدينة، وإما أن تكون عملت في المدينة على مثلها.

[3] معالم السنن للخطابي 1/30 – 33.

[4] شرح أبي داود للعيني 1/187 – 191.

[5] جزء من حديث صحيح: أخرجه أبو داود 66، والترمذي 66، وقال: هذا حديث حسن،
والنسائي 326، وأحمد 11257، من حديث أبي سعيد الخدري، أنه قيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
أنتوضَّأ من بئر بُضَاعة، وهي بئر يُطرَح فيها الحَيض ولحم الكلاب والنَّتْن؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((الماء طهور لا يُنجِّسه شيء))؛ نقل المزِّي في تهذيب الكمال 19/84، عن الإمام أحمد قولَه:
حديث بئر بضاعة صحيح، وزاد الحافظ في التلخيص 1/13، أنه صحَّحه أيضًا يحيى بن معين، وأبو محمد بن حزم،
وصححه الألباني في المشكاة 288، والإرواء 14، وكذا محققو المسند 17/359.

[6] أخرجه مالك في الموطأ 14، وعبدالرزاق في المصنف 250، والدارقطني في السنن 62،
والبيهقي في السنن الكبرى 1181، قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق 1/75: في إسناده انقطاع.

[7] متفق عليه: البخاري 236، ومسلم 282، من حديث أبي هريرة.

[8] متفق عليه: البخاري 5204، ومسلم 2855، من حديث عبدالله بن زمعة.

[9] صحيح: تقدم تخريجه.

[10] الإجماع 4، والمجموع للنووي 1/110، وقد ورد حديث بلفظ:
((إن الماء لا ينجِّسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه))، روي مسندًا مرفوعًا من حديث أبي أمامة الباهلي وثوبان،
ومرسلاً عن راشد بن سعد، وكلها ضعيفة، قال ابن الملقن في البدر المنير 1/399:
فتلخَّص أن الاستثناء ضعيف، لا يحل الاحتجاج به؛ لأنه ما بين مرسل وضعيف؛ انظر: السلسلة الضعيفة 2644 للعلامة الألباني،
ولشيخنا عاطف بن حسن الفاروقي – حفظه الله – رسالة ماتعة نافعة تحت عنوان: “أحاديث ضعاف، وعليها العمل بغير خلاف”،
وذكر هذا الحديث 62 – 79.

[11] إغاثة اللهفان بتصرف 156.

[12] قال فضيلة الشيخ رمضان بن قرني معلقًا: أقول – وبالله عز وجل التوفيق -: إن القول باعتبار التأثير وتغير اللون
أو الطعم أو الرائحة يُرِيح المكلَّف ويريح طالب العلم؛ لأننا لو قلنا بالقُلَّتين فربما يؤدِّي إلى الوسوسة، هل بلغت القلتين أم لم تبلغ؟
فيدخل من الوسوسة على المكلَّف ما لا يعلمه إلا الله، والشريعة شريعة يُسْر وتخفيف وسماحة، واعتبار مذهب القلتين
تتفرَّع عليه مسائل دقيقة ومضنية، فالقول ما قال المحققون: إن الأمر مَرَدُّه إلى التأثير، وإن العبرة بالتأثير،
فأصبح المكلَّف مَرَدُّه إلى المؤثر الحقيقي، والحمد لله الذي جعل لنا فرجًا ومخرجًا في المسألة.

[13] الروضة الندية 1/8.

[14] انظر المسألة في: التمهيد لابن عبدالبر 91 – 105، والشرح الممتع لابن عثيمين 1/52 – 54،
وتمام المنة للعزازي 1/17 – 18، وشرح جوامع الأخبار لعبدالكريم الخضير 4/16 – 20،
والتعليق الممجد على موطأ محمد 1/270 – 272.

[15] قال فضيلة الشيخ رمضان بن قرني معلقًا: قاعدة: الشيء إذا ورد فيه حكمًا شرعيًّا واعتراه تغير
– طرأ عليه تغير – ولم يخرجه عن اسمه – لا يزيل عنه الاسم – بقي حكمه الشرعي كما هو.
مثل: مسألة الاستحالة: النجاسة إذا أحرقت وتحولت إلى رماد – أصبح اسمها رمادًا – تغير اسمها تمامًا،
ففي هذه الحالة تأخذ حكمًا آخر.
والماء إذا خالطه طاهر وغيَّر فيه، لكن اسمه ماء لم يغير اسمه، يبقى كما هو؛ حكمه أنه ماء طهور.
والقمح حينما تحول إلى دقيق، خرج عن اسمه – زال عنه اسم القمح – وبالتالي تغير حكمه،
ففي هذه لحالة يجوز بيع الدقيق بالقمح متفاصلاً، وهو قول أهل الظاهر وقول مالك في موطئه،
كما ذكره ابن رشد في بداية المجتهد، ويترجح هذا المذهب بهذه القاعدة: إن زال عنه الاسم، زال عنه الحكم.

[16] جزء من حديث متفق عليه: البخاري 283، ومسلم 371، من حديث أبي هريرة قال:
لقيني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا جُنُب، فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعَد، فانسللت فأتيت الرحل
فاغتسلتُ ثم جئت وهو قاعد، فقال: ((أين كنت يا أبا هر؟))، فقلت له، فقال: ((سبحان الله يا أبا هر، إن المؤمن لا ينجس)).

[17] مسلم 300، أتعرَّق العَرْق هو العظم الذي عليه بقية من لحم، هذا هو الأشهر في معناه،
وقال أبو عبيد: هو القدر من اللحم، وقال الخليل: هو العظم بلا لحم، وجمعه عُراق بضم العين،
ويقال: عرقت العظم وتعرَّقته واعترقته: إذا أخذتَ عنه اللحم بأسنانك.

[18] معنى حديث عند البخاري 344، ومسلم 682، من حديث عمران بن حصين، وليس لفظًا.

[19] البخاري 469، ومسلم 1764، من حديث أبي هريرة يقول: بعث النبي – صلى الله عليه وسلم –
خيلاً قِبَل نجدٍ، فجاءت برجلٍ من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد.

[20] الإجماع 31، وكذا قال ابن القطان في مسألة 299، وكذلك في المغني 1/70،
انظر: الإجماع لابن المنذر بتعليق شيخنا مصطفى بن سعد – حفظه الله.

[21] أبو داود 75، والترمذي 92، وقال: حسن صحيح، والنسائي 68، وابن ماجه 367، وصححه الألباني.

[22] المغني 1/70، والنعمان هو أبو حنيفة.

[23] المغني 1/ 68.

[24] مسلم 279، وأبو داود 71، والترمذي 91، من حديث أبي هريرة.

[25] مسلم 279، من طريق الأعمش عن أبي رزين عن أبي صالح عن أبي هريرة به،
واختلف على الأعمش؛ فروى الزيادة علي بن مسهر، ولم يذكرها إسماعيل بن زكريا،
قال النسائي: لم يذكر ((فليُرِقْه)) غير علي بن مسهر، وقال ابن منده: تفرد بذكر الإراقة فيه علي بن مسهر،
ولا يعرف عن النبي بوجه من الوجوه، وحسَّن الدارقطني الإراقة.

[26] المقدمات الممهدات 1/89 – 91.

[27] شرح أبي داود للعيني 1/213.

[28] عون المعبود شرح سنن أبي داود 1/54.

[29] البخاري 5478 5488، ومسلم 1930، دون ذكر الخنزير والخمر، وأبو داود 3839،
اللفظ له، والترمذي 1464، واسم أبي ثعلبة الخُشني: جُرْثُوم، ويقال: جُرْثُم بن ناشم، ويقال: ابن قيس.

[30] ضعيف: ابن ماجه 519، والبيهقي في السنن 1220، فيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم،
قال البيهقي: ضعيف لا يُحتَج بأمثاله، وروي موقوفًا عن أبي هريرة عند ابن أبي شيبة في مصنفه 1511،
وكذا روي عن عمر بن الخطاب موقوفًا أيضًا عند البيهقي.

[31] ضعيف: أخرجه مالك في الموطأ 14، وعبدالرزاق في المصنف 250، والدارقطني في السنن 62،
والبيهقي في السنن الكبرى 1181، قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق 1/75: في إسناده انقطاع،
قلت: فإن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب لم يُدرِك عمر.

[32] ضعيف: الشافعي في مسنده 1/8، البيهقي في السنن 180، والدارقطني في السنن 176،
قال البيهقي: وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي مختلف في ثقته، وضعفه أكثر أهل العلم بالحديث وطعنوا فيه،
وكان الشافعي يبعده عن الكذب، وقال ابن الجوزي: قال ابن حبان: داود بن الحصين حدَّث عن الثقات
بما لا يشبه حديث الأثبات؛ تجب مجانبة روايته، وقد روى هذا الحديث عنه رجلان:
إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، قال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ضعيف، وقال يحيى: ليس بشيء.
والثاني: إبراهيم بن أبي يحيى، وقد كذبه مالك ويحيى بن معين، وقال الدارقطني: هو متروك؛
انظر: التحقيق في مسائل الخلاف 1/76، وتنقيح التحقيق لابن عبدالهادي 1/76 – 77.

[33] ضعيف: الدارقطني في السنن 34، فيه أيوب بن خالد، قال ابن عدي: أيُوب بن خالد حدَث عن الأَوْزَاعي بالمناكير الكامل 1/358،
وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في أكثر حديثه، تهذيب الكمال 3/471، وفيه أيضًا: محمد بن عُلْوان: ضعيفٌ؛
انظر: تنقيح التحقيق لابن عبدالهادي 1/74 – 75.

[34] صحيح: الترمذي 851، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه 3236، وصححه الألباني في الإرواء 1050.

[35] معالم السنن للخطابي 1/25.

 

=========================

نشأة أصول الفقه

الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (2)

أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

أصول الفقه له أصل من الكتاب والسنَّة، وله أصل من كلام الصحابة – رضي الله عنهم –
لكن لم يُصنَّف فيه بهذه الطريقة المنظمة المفردة، إلا على يد الإمام الجليل الشافعي – رحمه الله –
في كتابه “الرسالة“، ثم تطوَّر التصنيف في أصول الفقه، بأن دخل عليه المنهج الحديثي على يد الإمامَين الجليلَين:
الخطيب البغدادي، وابن عبدالبر، ثم برز جانب الإصلاح وتقويم العِوَج الطارئ على علم الأصول،
وذلك على يد الإمامَين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله.

وعند النظر إلى مؤلَّفات أصول الفقه الخاصة تبرز لنا أربعة مؤلفات،
امتاز كل واحد منها بميزات عديدة، وهذه المؤلفات هي:

كتاب “الرسالة“؛ للشافعي، وكتاب “الفقيه والمتفقه“؛ للخطيب البغدادي،
وكتاب “روضة الناظر”؛ لابن قدامة، وكتاب “شرح الكوكب المنير”؛ لابن النجار الفتوحي.

1- كتاب الرسالة:
عاش الشافعي في وقت ظهَر فيه مَدرستان في الفقه:
المدرسة الأولى: مدرسة الحديث والرواية،
وكانت بالمدينة، وشيخُها الإمام مالك بن أنس، لكون المدينة موطنَ الصحابة ومكان الوحي.

المدرسة الثانية: مدرسة الرأي،
وكانت بالعراق، وشيوخُها أصحاب أبي حنيفة؛ وذلك لعدم توافُر أسباب الرواية لدَيهم، لكثرة الفتن.

فاستطاع الشافعي الجمع بين المدرستَين والفوز بمحاسنهما؛ حيث تلقى العلم على الإمام مالك،
وكذا على محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، يُضاف إلى ذلك جمعُه فقه أهل الشام ومصر؛ حيث أخذ عن فُقهائهما.

قال الإمام أحمد بن حنبَل: “كان الفقه قُفلاً على أهله حتى فتَحه الله بالشافعي“[1].

2- كتاب الفقيه والمتفقه:
صنَّف الخطيب البغدادي هذا الكتاب نصيحةً لطائفتين؛ لأهل الحديث، ولأهل الرأي؛ حيث ظهر في عصرِه ذمُّ الرأي،
والنهي عنه، والتحذير منه مُطلَقًا، فلم يُميِّزوا بين محمود الرأي ومَذمومه،
أما أهلُ الرأي فجل ما يَحتجُّون به من الأخبار واهٍ ضعيفٌ عند علماء الحديث.

لذا قال الخطيب البغدادي: “فقد ذكرتُ السبب الموجِب لتنافي هذَين الفريقَين،
وتباعُد ما بين هاتين الطائفتَين، ورسمتُ في هذا الكتاب لصاحب الحديث خاصَّة ولغيره عامَّة
ما أقوله نصيحةً مني له، وغيرةً عليه”[2].

3- كتاب روضة الناظِر وجنَّة المناظِر:
قال بعض العُلماء: إن كتاب “الروضة“، مختصر “المُستَصفى“؛ للغزالي، وهذه عُدت مَزيَّة للكِتاب؛
لأن الغزالي متأخِّر في الزمان، فاستطاع أن يجمع جُلَّ الفوائد الأصولية التي سبقته، كما أنه من آخر كتب الغزالي الأصولية،
وابن قدامة لم يقلد الغزالي في آرائه وفي سائر منهجه، بل ظهرت لمساته، وبرزت شخصيته المستقلة،
مثلاً اعتنى بآراء الإمام أحمد بن حنبل، وضم إلى الروضة أقوال الحنابلة وأثبتها،
كذا من خلال ترجيحاته واختياراته التي اعتمد فيها على الحجة والدليل.

4- كتاب شرح الكوكب المُنير:
الشيخ تقي الدين بن النجار الفتوحي (ت: 927 هجريًّا)، صاحب الكتاب، وهو شرح لمُختصَر (التحرير) له أيضًا،
الذي اختصَره من كتاب (التحرير) للمرداوي الحنبلي (ت: 885 هجريًّا).

يمتاز هذا الكتاب بأن حجمه متوسِّط، وأن الفتوحي أثبت فيه أقوال العلماء،
وأرجع الأقوال إلى مصدرها بعبارة سلسة وأسلوب سهل واضح[3].

قال ابن عُثَيمين:
(وأول من جمَعه كفنٍّ مُستقلٍّ الإمام الشافعي محمد بن إدريس – رحمه الله – ثم تابعَه العلماء في ذلك،
فألَّفوا فيه التآليف المتنوعة، ما بين منثور ومنظوم، ومختصر ومبسوط، حتى صارَ فنًّا مُستقلاًّ له كيانه ومميزاته،
ومن أحسن ما ألِّف فيه، بل من أجمعِ ما ألِّف فيه: “مختصر التحرير“؛ للفتوحي، وهذا المختصر كتاب صغير؛
لكنه في الحقيقة خُلاصة ما قاله الأصوليُّون في أصول الفقه، وهو مُختصَر، ويُمكِن للإنسان أن يحفظه عن ظهر قلب،
إلا أنه يَحتاج إلى عالم يبين معناه للطالب، وكذلك شرحه: “الكوكب المنير في شرح التحرير“،
فهذا من أجمع ما رأيتُ على اختصاره، وهو يُمكِن أن يكون نِصف “زاد المستقنع“.

أما أحسن ما يكون فيه من العبارات والسلاسة فهو: “المُسْتَصْفَى“؛ للغزالي، وهو في مجلدين كبيرين،
لكنه في الحقيقة يرتاح الإنسان لقراءته؛ لأنه سهل الأسلوب، وجيِّد في عرض الآراء ومناقشتها،
وهو من أحسن ما قرأت من جهة التبيين والتوضيح.

و”الروضة“، مأخوذ من “المُسْتَصْفَى“، في الواقع، على أن مصنِّف الروضة، الموفَّق – رحمه الله –
صار أحيانًا يَحذف بعض الكلمات التي توجب الإشكال والتعقيد في العبارة، وإلا لو رجعت وقارنتَ بين الروضة
والمستصفى للغزالي لوجدت أن الكلام هو نفس الكلام، لكن الموفَّق – رحمه الله – يتصرَّف فيه بعض التصرُّف أحيانًا.

و”مختصر التحرير“؛ للفتوحي من الحنابلة، و”التحرير“؛ للمرداوي علي بن سليمان صاحب كتاب “الإنصاف“،
وهو أكبر، والورقات على اسمه ورقات”[4].

[1] انظر: تهذيب الأسماء واللغات (1: 61).

[2] الفقيه والمتفقه (2: 77 – 87).

[3] مستفاد هذا المبحث من كتاب معالم الفقه (24 – 62)؛ للجيزاني – حفظه الله – باختصار وتصرف.

[4] شرح الأصول من علم الأصول؛ للعثيمين (23).

===============================

فوائد أصول الفقه والأدلة الشرعية ~ الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (3) ~

فوائد أصول الفقه والأدلة الشرعية

 

الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (3)

أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

فوائد أصول الفقه:

1- ضبط أصول الاستِدلال، وذلك ببيان الأدلة الصحيحة من الزائفة.

2- إيضاح الوجه الصحيح للاستدلال؛ فليس كل دليل صَحيح يكون الاستِدلال به صحيحًا.

3- تيسير عملية الاجتهاد، وإعطاء الحوادِث الجَديدة ما يُناسِبها من الأحكام.

4- بيان ضوابط الفَتوى، وشروط المُفتي وآدابه.

5- معرفة الأسباب التي أدَّت إلى وقوع الخلاف بين العلماء، والتِماس الأعذار لهم في ذلك.

6- الدعوة إلى اتِّباع الدليل حيثما كان، وترك التعصُّب والتقليد الأعمى.

7- حفظ العقيدة الإسلامية بحماية أصول الاستِدلال، والردُّ على شُبَه المُنحرِفين.

8- صيانة الفقه الإسلامي من الانفِتاح المترتِّب على وضع مصادِر جديدة للتشريع،

ومن الجمود المترتِّب على دعوى إغلاق باب الاجتهاد.

9- ضبط قواعد الحوار والمناظَرة، وذلك بالرجوع إلى الأدلة الصحيحة المُعتبَرة.

10- الوقوف على سماحة الشريعة الإسلامية ويُسرِها، والاطِّلاع على محاسِن هذا الدِّين[1].

الأدلة الشرعية:
تنقسم الأدلة الشرعية إلى قسمَين:
الأول: المتَّفق عليها:
وهي الكِتاب والسنَّة والإجماع والقياس؛ قال الشافعي: “وجهة العلم: الخبرُ في الكتاب أو السنَّة أو الإجماع أو القياس”[2].

واتَّفقوا على أن هذه الأدلة الأربعة تَرجِع إلى أصل واحد، وهو الكتاب والسنَّة؛ إذ هما مِلاكُ الدِّين، وقِوَامُ الإسلام[3].

المقصود بالكتاب:
القرآن الكريم، وهو: “كلام الله المنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – المتعبَّد بتلاوته”.

المقصود بالسنَّة:
“ما صدر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – غير القرآن”، وهذا يشمَل: “قوله، وفعله، وتقريره،

وكتابته، وإشارته، وهَمَّه، وتركَه- صلى الله عليه وسلم”[4].

المقصود بالإجماع:
“اتِّفاق مُجتهدي عصر من العصور من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – بعد وفاته على أمر ديني”[5].

المقصود بالقياس:
“حَمل فرع على أصل في حُكمٍ بجامعٍ بينهما”[6].

الثاني: المختلف فيها:
وهي: “الاستِصحاب، وقول الصحابي، وشَرع مَن قبلَنا، والاستِحسان، والمصالِح المُرسَلة“.

الاستصحاب:

لغةً: طلَب الصُّحبَة، وهي المُلازَمة.

اصطلاحًا هو: “استِدامة إثبات ما كان ثابتًا، أو نفْي ما كان منفيًّا”[7].

قول الصحابي هو: “أن يكون في المسائل الاجتهادية، وألا يُخالِفه غيره من الصحابة،

وألا يشتهر هذا القول، وألا يخالف نصًّا، وألا يكون مُعارَضًا بالقياس”[8].

شَرعُ مَن قبلنا: هو شَرع لنا ما لم يُخالِف شرعَنا[9].

الاستِحسان هو:
“ترجيح دليل على دليل، أو هو العمل بالدليل الأقوى، أو الأحسن”[10].

المصالح المُرسَلة هو:
“ما لم يَشهد الشرع لاعتباره، ولا لإلغائه بدليل خاص”[11].


[1] معالم الفقه (23)، للجيزاني.

[2] الرسالة (39).

[3] انظر: جامع بيان العلم وفضله (2: 110)، والصواعق المرسلة (2: 520).

[4] انظر: الفقيه والمتفقه (1: 86)، وشرح الكوكب المنير (2: 160).

[5] انظر: مختصر ابن اللحام (74).

[6] انظر: روضة الناظر (2: 227).

[7] انظر: إعلام الموقِّعين (1: 339).

[8] انظر: معالم الفقه (217 – 218)؛ للجيزاني.

[9] انظر: شرح الكوكب المنير (4: 413).

[10] انظر: روضة الناظر (1: 407).

[11] انظر: معالم الفقه (236) للجيزاني.

======================
الأحكام الشرعية ( الوضعية ) ~ الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (5) ~

الأحكام الشرعية ( الوضعية )

الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (5)

أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

الأحكام:
جمع حُكْم، معناها لغةً: القضاء؛ لذا يُسمى الحاكمُ بين الناس قاضيًا.

اصطلاحًا هو: “ما اقتَضاه خطاب الشرع المتعلِّق بأفعال المكلَّفين من طلب أو تخيير أو وضع”[1].

يَنقسِم الحكم الشرعيُّ إلى قسمَين:
الأول: الحكم التكليفي،
الثاني: الحكم الوضعي.

الأحكام الوضعية:
تعريف الحكم الوضعي:
هو: خِطاب الله المتعلِّق بأفعال المُكلَّفين بالوضع.

أي ما وضعه الشارع من أمارات لثُبوت أو انتِفاء أو نفوذ أو إلغاء.

الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي:
يتَّضح الفرق بينهم من وجهين:
1- أن الحكم التكليفي فيه التكليف، وقدرته على الفعل؛ كالصلاة والصوم، أما الحكم الوضعي: فلا يُشترَط فيه شروط التكليف،
مثاله: الصبي يضمن ما أتلفه، وإن لم يكن مكلَّفًا؛ لأن الضمان حكم وضع لسببِه، وهو الإتلاف.

2- أن الحكم التكليفي أمر وطلَب؛ كالأمر بالصلاة، بخلاف الحكم الوضعي، فإنه إخبار.

أقسام الحكم الوضعي:
خمسة، وهي: “الصحيح، والفساد، والسبب، والشرط، والمانع“.

أولاً: الصحيح:
لغة: السليم من المرض.

اصطِلاحًا: ما ترتَّب آثار فعله عليه؛ عبادةً كان أم مُعامَلةً.

فالصحيح من المعاملات ما ترتَّبت آثارها على وجودها، كترتُّب الملكِ على عقد البيع، فكل بيع أباح التصرُّف في المبيع وحقَّق كمال الانتفاع به، فهو صحيح.

والصحيح من العبادات ما بَرأت به الذمة، وسقَط به الطلب؛ أي لا يحتاج إلى فعل العبادة مرة ثانية.

ثانيًا: الفاسد:
لغة: الذاهب ضياعًا وخسرًا.

اصطلاحًا: ما لا تترتَّب آثار فعله عليه؛ عبادةً كان أم مُعاملةً.

فالفاسد من العبادات ما لا تَبرأ به الذمة، ولا يَسقُط به الطلب؛ كالصلاة قبل وقتها.

أما الفاسد من المعاملات فما لا تترتَّب آثاره عليه، كبَيع المجهول.

ثالثًا: السبب:
لغة: هو الذي يُتوصَّل به إلى غيره؛ كقوله – تعالى -:

﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ [الحج: 15].

واصطِلاحًا: ما جعله الشارع علامةً على وجود الحكم عنده، سواء كان مُناسبًا للحكم أو لا، مثل هلال رمضان علامة على وجود صيام رمضان.

وعرفه بعض العلماء بأنه: “ما يلزم من وجوده الوجود، ومِن عدمِه العدم”.

رابعًا: الشرط:
لغة: العلامة، ومنها قوله – تعالى -: ﴿ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ [محمد: 18].

واصطلاحًا: “ما ينتفي بعدمه، ولا يوجد بوجوده”.

وعرَّفه بعض العلماء:
“ما يلزم من وجوده الوجود، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم”؛ كالطَّهارة للصلاة، فيلزم وجود الطهارة لصحة الصلاة،

ومع ذلك لا يَلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة، ولا عدمها.

الشرط يَنقسِم إلى قسمَين:
1- شرط صحَّة: أي يتوقَّف صحة العمل عليه؛ كالوضوء للصلاة.

2- شرط وجوب: أي يتوقَّف وجوب العمل عليه؛ كالزوال لصلاة الظهر.

الفرق بينهما أن شرط الصحة من خطاب التكليف، أما شرط الوجوب من خطاب الوضع.

خامسًا: المانع:
لغة: الحاجز والحائل، ومنه قوله – تعالى -: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 7].

اصطلاحًا: “ما ينتفي بوجوده، ولا يوجد بعدمه”.

وعرَّفه بعض العلماء:
“ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجودٌ ولا عدَم”.

مثاله:
وجود دم الحيض مانع لصحة الصلاة، ومع ذلك لو لم يوجد دم الحيض لا يلزم وجود الصلاة أو عدمها.

فائدة:
لا بد في وجود الحكم الشرعي من توافر الأسباب والشروط وانتفاء الموانع؛ فمثلاً الزكاة، لا بد لوجوبها من توفُّر سببها؛

وهو النصاب، ومن توفُّر شرطِها؛ وهو حوَلان الحول، ومن انتِفاء المانع، وهو الدَّين.

فإذا وجد النصاب والحول وانتفى الدَّين، وجب أداء الزكاة، ولا تجب الزكاة إذا لم يوجد النِّصاب، أو لم يَحُل الحول، أو وجد الدَّين.


[1] انظر: الأصول من علم الأصول (24).
========================

 

قواعد وأصول في فهم النصوص الشرعية ~ الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (6) ~

 

قواعد وأصول في فهم النصوص الشرعية

الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (6)

أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

اعتنى العلماء – عليهم رحمة الله – بوضع القواعد والأصول لصحَّة فهم الأدلة، وترتيبها عند التعارُض؛

وذلك كله لحرصِهم على الوصول لمُراد الله – عز وجل.

قواعد في التوفيق بين الأدلة الشرعية:
حمل المُجمَل على المبيَّن:

المجمل لغة: المُبهَم والمَجموع.

اصطلاحًا:
“هو ما احتمل أكثر من معنى دون رُجحان أحدهما على الآخر”.

مثال: قول الله – تعالى -: ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) [البقرة: 43]،

فالصلاة لها أكثر مِن معنى كما هو معلوم.

المُبيَّن لغةً: المُظهَر والموضَّح.

اصطلاحًا:
“هو ما دلَّ على المعنى المُراد”.

مثال: ما ورَد من صفة صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم.

فالصحيح حمل المُجمَل (الصلاة)، على المبيَّن (فعله – صلى الله عليه وسلم – للصَّلاة).

حَمل العام على الخاصِّ:

العام لغةً: الشامل.

اصطلاحًا: “هو اللفظ المُستغرِق لكل ما يصحُّ له دفعة واحدة”.

مثال قوله – تعالى -: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ) [البقرة: 228].


فدلَّت هذه الآية على أن كل مُطلَّقة عدَّتُها ثلاث حِيَض.


الخاص لغة: ضدُّ العام.

اصطلاحًا: “هو قصر حكم العام على بعض أفراده”.

مثال: قوله – تعالى -: ( وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) [الطلاق: 4].

فهذه الآية خاصَّة، خصَّصت وأخرجَت الحوامل من عموم الآية السابقة، وأفادَت بأنَّ عدتهنَّ بوضع الحَمل.

ومثل قوله – تعالى -:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا
)
[الأحزاب: 49].

فهذه الآية أخرجت غير المدخول بها من العموم أيضًا، وأفادت أن ليس عليها عِدَّة.

فالصحيحُ حَملُ الخاصِّ “الحوامل وغير المدخول بها”، على العام “العِدة ثلاث حِيَض”.

ترك الاستِفصال في مقام الاحتِمال ينزل منزلة العموم في المقال، ويَحسُن به الاستدلال:

إذا ترَك النبي – صلى الله عليه وسلم – تفاصيل واقعة، دلَّ عدم السؤال على عُموم حكمها؛ كتركِه – صلى الله عليه وسلم –

سؤال غَيلان لما أسلم وكان تحته عشرة نسوة[1]،

هل عقد عليهنَّ معًا أم مُرتبًا؟ فدل ذلك على عدم الفرق.

حَمل المُطلَق على المقيَّد:
المُطلَق لغةً: ضدُّ المقيَّد.

اصطلاحًا: “هو ما دلَّ على الحقيقة بلا قَيد”.

مثال: قوله – تعالى -: ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) [النساء: 92].

المقيَّد لغةً: ما جُعلَ فيه قيد.

اصطلاحًا: “هو ما دلَّ على الحقيقة بقَيد”.

مثال: قوله – تعالى -: ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) [النساء: 92].


والمَقصود بحمل المُطلَق على المقيَّد أن يأتي المطلَق في كلام مستقل، ويأتي المقيد في كلام مستقل آخر،

ففي الأمثلة السابقة تعيَّن عند تحرير الرقبة أن تكون مؤمنة، كما قيَّدتها الآية الثانية.

الأمر يُفيد الوجوب، إلا بقرينة صارفة إلى غَيره:
الأمر: “هو قولٌ يتضمَّن طلب الفعل على وجه الاستعلاء”، مثال: قوله – تعالى -:

( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) [البقرة: 43].

وقد يَخرُج الأمر من الوجوب إلى غيره بقَرينة.

مثال قوله – تعالى -: ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) [البقرة: 282]،

فظاهِر الآية يدلُّ على وجوب الإشهاد، وفي الحقيقة الأمر ليس كذلك؛ لوجود قرينة تَصرِف هذا الوجوب،

وهي: أن النبي – صلى الله عليه وسلم -: اشترى فرَسًا من أعرابيٍّ ولم يُشهِد.

النهي يُفيد التحريم، إلا بقرينة صارِفة إلى غيره:

النهي: “هو استِدعاء التَّرك بالقول على وجه الاستعلاء”.

مثال قوله – تعالى -:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )
[الجمعة: 9].

قوله في الآية: ( وَذَرُوا )؛ أي: اترُكوا، فالنهي عن البيع وقت صلاة الجمُعة للتحريم.

قد يَخرُج النهي من التحريم إلى غيره بقرينة:

مثال: “نهيه – صلى الله عليه وسلم -: عن الشرب من في السقاء”[2]،

فظاهر نهيه – صلى الله عليه وسلم – يُفيد التحريم، والأمر ليس كذلك؛

لوجود قرينة صارفة من التحريم، وهي: أن النبي – صلى الله عليه وسلم –

شرب من في قربةٍ مُعلَّقة[3].

يتبع

==========================
قواعد وأصول في فهم النصوص الشرعية ~ الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (6) ~

قواعد وأصول في فهم النصوص الشرعية


الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (6)

أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة

التعارُض:
فإذا اجتهَد العالم في التوفيق بين الأدلة التي ظاهِرُها التعارُض – لأن التعارض يكون في نظر المُجتهِد لا في حقيقة الأمر –
ولأن النصوص الشرعية تنزيل من حكيم حميم، فهو حق من حق؛ قال – تعالى -:
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء: 82]،
والمراد بتعارُض الأدلة: “هو تقابُل دليلَين على سبيل المُمانَعة، وذلك إذا كان دليلاً على الجواز، والآخَر يدلُّ على المَنعِ،
فكل منهما مقابَل ومُعارَض ومُمانَع بالآخَر”، ففي هذه الحالة يكون المصير إلى الترجيح.

الترجيح:
المقصود بالترجيح: “هو العمل وتقوية أحد الدليلَين على الآخَر”.

قال ابن عثيمين: “إذا اتَّفقت الأدلة السابقة – الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس –
على حكمٍ أو انفرد أحدها من غير مُعارِض، وجب إثباته، وإن تعارَضت وأمكن الجمع، وجب الجمعُ،
وإن لم يُمكِن الجمع عُمِل بالنسخ إن تمَّت شُروطه، وإن لم يُمكِن النسخ، وجب الترجيح”[4].



وللعلماء أوجه عِدَّة في الترجيح، منها:
ترجيح رواية الصحابي صاحب الواقِعة على غيره؛ لأنه أدرى بها من غيره؛ مثال: ما رُوي أن النبي – صلى الله عليه وسلم
– تزوَّج وهو مُحرِم، ففي حديث ميمونة قالت: “تزوَّجني النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو حلال”[5]،
وفي حديث ابن عباس: “تزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – ميمونة وهو مُحرِم”[6]،
فنُقدِّم رواية ميمونة، على رواية ابن عباس؛ لأنها صاحبة القصة، وإن كان بعض العلماء مال لرواية ابن عباس؛
لأنها في الصحيحَين، وقالوا بأن زَواج المحرم لا يجوز، وأنه من خصوصيات النبي – صلى الله عليه وسلم.

ترجيح رواية الراوي على رأيه؛ لأنه قد يُفتي برأيه فيُخطئ أو ينسى؛ مثال: حديث أبي هريرة أن النبي
– صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدِكم فليُرِقْه، ثم ليَغسله سبع مِرار))[7]،
ورُوي عنه أنه أمر بغسله ثلاث مرات[8]، فنُقدِّم ما رواه أبو هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – على رأيه إن صحَّ عنه.

ترجيح رواية المُثبِت على النافي؛ لأن مع المُثبِت زيادة عِلم؛ مثال: حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت:
“من حدَّثكم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يَبول قائمًا فلا تُصدِّقوه؛ ما كان يَبول إلا قاعدًا”[9]،
وحديث حُذَيفة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتى سُباطة قوم فبال قائمًا[10]،
فنُقدِّم حديث حذيفة (المُثبِت)، على حديث عائشة (النافي)؛ لأن مع حذيفة – رضي الله عنه –
زيادةَ عِلم لم تطَّلع عليه عائشة – رضي الله عنها.

ترجيح المنطوق على المفهوم:
المنطوق: “هو ما دلَّ على اللفظ في محل النُّطق”.

المفهوم: “هو ما دل عليه اللفظ لا في محلِّ النُّطق”.

مثال: حديث أبي سعيد الخدري: ((الماء طَهورٌ لا يُنجِّسه شيء))[11]،
منطوقه يدلُّ على عدم نجاسة الماء إلا بالتغيُّر، وحديث ابن عمر: ((إذا كان الماء قُلَّتَين لم يَحمِل الخبَث))[12] مفهومه يدلُّ على أن الماء إذا كان أقلَّ مِن القُلتين يحمل الخبث، فنُقدِّم حديث أبي سعيد (المنطوق
على حديث ابن عمر (المفهوم)؛ لأن المفهوم يَصدق بصورة واحدة، وهي ما يتَّفق فيه المنطوق والمفهوم.

ترجيح النص على الظاهر:
النص: “هو ما يدلُّ على معنى واحد لا يُحتمَل غيرُه”.

الظاهِر: “هو ما يَحتمِل أحد معنيَين أو أكثر، هو في أحدهما أو أحدها أرجح”.

مثال: حديث عائشة أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – صلى صلاة الكُسوف وجهَر بالقِراءة فيها[13]،
وحديث ابن عباس أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -: قام قيامًا طويلاً نحوًا من سورة البقرة[14]،
فنُقدِّم حديث عائشة (النص)، على حديث ابن عباس (الظاهِر)؛ لأنه نصٌّ على القراءة،
أما حديث ابن عباس فظاهِرُه أنه لم يجهَر بالقراءة؛ ولأن النصَّ أقوى في الدلالة من الظاهِر؛
من حيث إنه لا يَحتمِل إلا معنى واحدًا، بخلاف الظاهر الذي يَحتمِل أكثر من معنى.

ترجيح الظاهر على المؤول:
المُؤول هو: “صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يدلُّ على ذلك”؛
مثال: حديث أبي موسى الأشعري: ((لا نِكاحَ إلا بِوليٍّ))[15]، ظاهر الحديث أن الوالي شَرط في صحَّة النِّكاح،
ولا يصحُّ إلا به، أما تأويله أن هذا النفي للتَّمام والكَمال، فنُقدِّم الظاهر على التأويل؛ لأن دلالة الظاهر أقوى من دلالة التأويل.

ترجيح القول على الفعل[16]، يقدَّم قول النبي – صلى الله عليه وسلم – على فعله؛ لأن الفعل قد يكون لبَيان الجواز،
أو لعلة أخرى؛ حديث عائشة أمِّ المؤمنين أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان جالسًا كاشفًا عن فَخذِه[17]،
وحديث محمد بن جَحش قال: مرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنا معه على معمر وفَخِذاه مَكشوفتان، فقال:
((يا مَعمَر، غطِّ فخذَيكَ؛ فإنَّ الفَخِذَين عورة))[18]،
فنقدِّم حديث محمد بن جَحش (القول)، على حديث عائشة (الفعل).

ترجيح الحَظر على الإباحة؛ لأن ترك المباح أهون من ارتكاب الحَرام؛ مثال:
قوله – تعالى -: ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ) [النساء: 23]
الآية تمنَع وتَحظر الجمع بين الأختَين مُطلقًا، وقوله – تعالى -:
( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) [النساء: 24]
.

الآية تُبيح بعمومها الجمع بين الأختين من ملك اليَمين، فنُقدِّم الحظر (آية المَنع
على الإباحة (آية الجواز).

ترجيح الخاص على العام؛ مثال: حديث جابر بن عبدالله مرفوعًا: ((وجُعلت لي الأرض مَسجدًا وطَهورًا))[19] يدلُّ بعمومه على جواز الصلاة في كل مكان، وحديث أبي سعيد الخدري أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال:
((الأرض كلُّها مَسجِد إلا الحَمام والمَقبرَة))[20] يدلُّ على عدم جواز الصلاة في المقبَرة والحَمام،
فنُقدِّم حديث أبي سعيد الخدري (الخاص)، على حديث جابر بن عبدالله (العام).

ترجيح العام المَحفوظ على غير المَحفوظ:
العام المحفوظ: هو الذي لم يَدخله تَخصيص.
العام غير المحفوظ: هو الذي دخَله التخصيص.

مثال:
حديث عن أبي قتادة الأنصاري، أن رسول الله قال: ((إذا دخل أحدكم المسجد، فليركَع ركعتَين قبل أن يَجلِس))[21]،
هذا عام يشمَل كل وقت يدخل فيه المرء المسجد أن يصلي ركعتَين، فهو عام محفوظ، وليس فيه استِثناء،
وحديث ابن عباس أن نبيَّ الله – صلى الله عليه وسلم – قال:
((لا صلاة بعد صلاة الصُّبحِ حتى تَطلُع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تَغرُب الشمس))[22]،
وهذا عام يَشمل أي صلاة، إذا دخل المرء بعد صلاة الصُّبح والعصر، لكنه عام غير مَحفوظ؛
حيث دخله الاستثناء، مثل من فاتته صلاة فيُصليها متى ذكرها، وإن كان وقتَ نهي، كذا من جمع بين الظهر والعصر،
فإن سنَّة الظهر البعديَّة له أن يُصليها حتى ولو في وقت النهي، وغيرها من الحالات التي ذكَرها أهل العلم.

فنُقدِّم العام المحفوظ (صلاة تحية المسجد)، على العام غير المَحفوظ (النهي عن الصلاة بعدالصبح والعصر).

ترجيح المقيَّد على المُطلَق؛ مثال: قوله – تعالى -: ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) [البقرة: 173]،
هذا مُطلَق يَشمل كل دم، وقوله – تعالى -: ( إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ) [الأنعام: 145].



وهذا الآية تُقيِّده بالدم المسفوح، فنُقدِّم المقيَّد (الدم المسفوح)، على المطلَق (كل الدماء).
يتبع

====================

تابع .. قواعد وأصول في فهم النصوص الشرعية ~ الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (6) ~

قواعد وأصول في فهم النصوص الشرعية


الفوائد الثرية في مختصر الأصول الفقهية (6)

أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة


ترجيح المبيَّن على المُجمَل.
المجمَل: “ما احتمل معنيَين أو أكثر من غير ترجيح لواحد منهما أو منها على غيره، وهو ما لا يَكفي وحده في العمل”.

المبيَّن: “هو ما دلَّ على معنى دون احتِمال”.

فيُقدم المبيَّن على المجمَل؛ لأن المبيَّن يدلُّ على المعنى المراد.

مثال: حديث عن ابن عُمر قال: “إنما كان الأذان على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
مرتَين مرَّتين، والإقامة مرةً مرةً، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة”
[23]،
هذا الحديث يُبيِّن أن لفظَ الإقامة وهو: “قد قامت الصلاة”، تكون شَفعًا،
وحديث عن أنس قال: “أُمر بلالٌ أن يشفع الأذان ويوتِر الإقامة”[24]،
فهذا الحديث مُجمَل يدلُّ على أن جميع ألفاظ الإقامة تكون وترًا،
فنُقدِّم حديث ابن عمر (المبين)، على حديث أنس (المُجمَل).

ترجيح الحقيقي على المجاز:
الحقيقي هو: “اللفظ المُستعمَل فيما وُضِع له”؛ مثل: (أسد)، للحيوان المُفترِس.
المَجاز: “هو اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له”؛ مثل: (أسد)، للرجل الشجاع.

مثال: قوله – تعالى -: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) [المائدة: 64]،
اللفظ الحقيقي في الآية يعني: يدَي الله – سبحانه وتعالى.

اللفظ المجازي في الآية يعني: النِّعمة.

فنُقدِّم اللفظ الحقيقي “إثبات اليد لله”، على اللفظ المجازي “النعمة”؛ لعدم وجود دليل صحيح يَمنع إرادة الحقيقة.

اعلم أن العلماء مختلفون في مسألة: هل في اللغة مجاز أم لا؟ ومِن ثمَّ هل في القرآن مجاز أم لا؟

فقد منَع ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وقوع المجاز في اللغة[25]،
وهذا ما رجع إليه ابن عُثَيمين بعد قوله بجواز المجاز.

أما المجاز في القرآن فمَن منَع المَجاز في اللغة فمِن باب أولى منعه في القرآن، ومن مال إلى جواز وقوع المجاز في القرآن،
قال بشرط منعِه في آيات الصفات، وممَّن قال بهذا الشافعي والخطيب البغدادي.

ومَن منَع المَجاز في القرآن من أهل السنَّة منَعه سدًّا للذريعة؛ حتى لا يكون مدخلاً لتأويل الصفات[26] [27].

ترجيح ما ذُكرت عِلَّته على ما لم تُذكَر عِلته:
لأن الخبر الذي ذُكر فيه الحُكم والعِلة، يكون أقوى من الخبر الدالِّ على الحُكم دون العِلة؛
مثال: حديث ابن عباس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:
((مَن بدَّل دينه فاقتلوه))[28]، ذُكر في الحديث الحكم وهو (القتل)،
والعِلة وهي (تبديل الدين، أو الردَّة)، وحديث عن ابن عمر أن رسول الله:
“رأى في بعض مغازيه امرأةً مَقتولةً، فأنكر ذلك، ونَهى عن قَتلِ النِّساء والصِّبيان”[29]،
ذكر في الحديث الحكم وهو (النهي عن قتل النساء والصِّبيان في الحرب)، ولم يَذكُر العلة،
فنُقدِّم حديث ابن عباس؛ لأنه ذكر فيه العِلة على حديث ابن عمر لأنه لم يذكر فيه العلة.

ترجيح الإجماع القطعي على الظني:
لأن الإجماع الظني فيه دليل شكٍّ، فيُقيد الإجماع القطعي؛ لأنه أقوى منه.

ترجيح القياس الجَلي على الخفي:
القياس الجلي: “هو ما ثبتَت عِلته بنص أو إجماع، أو قُطع فيه بنفي الفارق”.
القياس الخفي: “هو ما ثبتَت عِلته بالاستنباط”.

فيُقدَّم القياس الجلي على القياس الخفي؛ لأن القياس الجلي تيقنَّا عِلته وألحقنا به الفرع، أما القياس الخفي لم نتيقَّن عِلته؛ لأنها مُستنبَطة.

[1] صحيح: الترمذي (1128)، وابن ماجه (1953)، وصحَّحه الألباني في المشكاة (3176).

[2] البخاري (5281).

[3] صحيح: الترمذي (1892)، من حديث كبشة بنت ثابت، وصحَّحه الألباني في المشكاة (4281).

[4] انظر: الأصول من علم الأصول (391).

[5] مسلم (1411).

[6] البخاري (5114)، ومسلم (1410).

[7] البخاري (172)، ومسلم (279).

[8] الطحاوي (1: 13)، والدارقطني (24 – 25).

[9] الترمذي (12)، وابن ماجه (307)، وصحَّحه الألباني في الصحيحة (201).

[10] البخاري (224)، ومسلم (273).

[11] أبو داود (66)، والترمذي (66)، وصحَّحه الألباني في الإرواء (4).

[12] أبو داود (63)، والترمذي (67)، وقال الألباني: حسن صحيح.

[13] البخاري (1065)، ومسلم (901).

[14] البخاري (1052)، ومسلم (905).

[15] أبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وصحَّحه الألباني في المشكاة (3031).

[16] قال فضيلة الشيخ رمضان بن قرني معلقًا: “قال بعض العلماء: إذا تعارَض القول والفعل، قُدِّم القول مطلقًا، وقال بعض العلماء: بالجمع بين القول والفعل، فإذا كان القول تحريمًا، يُحمل الفعل على الكراهة؛ كنهيه – صلى الله عليه وسلم – عن الشرب قائمًا، وشَرِبَ – عليه الصلاة والسلام – قائمًا، قالوا: يُصرف إلى الكراهة، وكذلك الجمع بينهما بالحمل على الندب والاستِحباب.
فمُعارَضة القول للفعل تأتي على صور: فتارة يَقوى تقديم الفعل، وتارة يَقوى الجمع بين القول والفعل، وهذا في الحقيقة يحتاج إلى نظر ومعرفة بنصوص ومقاصِد الشريعة.

[17] مسلم (2401).

[18] حسن لغيره؛ رواه الترمذي (2797)، واللفظ له، وأبو داود (4014)، من حديث جَرهَد، وصحَّحه الألباني في الإرواء (1: 297).

[19] البخاري (335)، ومسلم (521).

[20] أبو داود (492)، والترمذي (317)، وابن ماجه (745)، وصحَّحه الألباني في الإرواء (1: 320).

[21] البخاري (449).

[22] أبو داود (1276)، وصحَّحه الألباني.

[23] أبو داود (510)، والنسائي (628)، وحسَّنه الألباني.

[24] البخاري (605)، ومسلم (378).

[25] قد نازع صاحب كتاب: “المجاز في اللغة والقرآن”، وهو الأستاذ الدكتور عبدالعظيم المَطعني،
نسبة القول بعدم وقوع المجاز في اللغة لابن تيمية وابن القيم، وخلص إلى أن ابن تيمية وكذا تلميذه ابن القيم يقولان
بوقوع المجاز في اللغة والقرآن، دون وقوعه – أي المجاز – في آيات الصفات، ووافَقَه صاحب كتاب:
“موقف السلف من المجاز في الصفات” (169 – 173)، الدكتور محمد محمد عبدالعليم دسوقي.

[26] انظر: الرسالة؛ للشافعي (62 – 63)، والفقيه والمتفقه؛ للخطيب البغدادي (1: 65)،
وشرح الأصول من علم الأصول؛ لابن عُثَيمين (74 – 86)، ومعالم الفقه؛ للجيزاني (110 – 115).

[27] بعد أن سطرت هذا الكلام وقع في يدي كتاب ماتع وشافٍ في هذه المسألة، وهو “موقف السلف من المجاز في الصفات”،
الرد العلمي على آراء البلاغيين من خلال كتابات سعد الدين التفتازاني (23 – 25)؛ للأستاذ الدكتور محمد محمد عبدالعليم دسوقي،
أستاذ البلاغة والنقد المساعد بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالقاهرة؛ حيث قال:
“لاقَت قضية وقوع المجاز في محكم التنزيل بصفة عامة ووقوعه في صفات الله – تعالى – خاصة،
لغطًا كثيرًا طوال الحِقَب الماضية حتى ما خلا مَكان من دولة الإسلام على مدى العصور والأزمان من الحديث عنها وإثارتها.

وعلى الرغم من بيان وجه الصواب في هذه القضية التي حَسبوها شائكة كلما أثيرت،
وأنه يَنحصِر في وجوب إثباتها على النحو اللائق بربِّ العزة – سبحانه – على الحقيقة لا المجاز على ما قضَت به أدلة العقل والنقل
وانعقد عليه إجماع الأمة، فإنها – و إلى يوم الناس هذا – لا تزال تستحوذ على فكر الكثير من البلاغيين،
ويَنشغِل بالحديث عنها العديد من الباحثين والمعنيين بتلقي العلوم الشرعية، وما تفتأ كذلك تُثار بشكل أو بآخَر ويدور حولها
ذات اللغَط ونفس الشغب الذي أحدثته من قبل.

وقد كتب الدكتور علي العماري رسالة موجزة سماها “الحقيقة والمجاز في القرآن”، ناقش فيها حجج المنكرين للمَجاز،
وأفرغها مما تنهض به، وأكَّد أنه من الممكن أن نَعتقِد مذهب السلف في الأسماء والصفات – وهو مذهب قويم سليم –
دون أن ننكر المجاز، وأن كثيرًا من المُثبِتين للمجاز يَدينون بمذهب السلف في إثبات الأسماء والصفات، ولم يؤثِّر
– والكلام هنا للدكتور أبي موسى – إثبات المجاز شيئًا من عقيدتهم، وهذه الرسالة الموجزة – والكلام لا يزال للدكتور أبي موسى –
جديرة بأن تكون جزءًا مهمًّا في تراث هذه القضية”.

وكان الأستاذ الدكتور عبدالعظيم المطعني – تغمَّده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته – قد تتبَّع آراء اللغويين والنحاة والأدباء
والنقاد والإعجازيين والبلاغيين والمُفسرين والمُحدِّثين، وأفاض في كل ما دبَّجه جميع أولئك من آراء واستدلالات حول
هذه القضية الشديدة الحساسية، وأشار إلى أن منشأ الخلاف هو: “البحث في أسماء الله وصفاته؛ فقد وردت في القرآن الكريم
نصوص يوهم ظاهرها المُشابَهة بالحوادث؛ مثل إثبات اليد لله – سبحانه – والوجه والعين والمعية والقُرب، والمجيء والاستواء،
وفي الحديث الشريف وردَت نسبة القدم والإصبع والصورة والنزول والضحك والكف لله – تعالى –
مع أن في القرآن نصًّا عاصمًا من اعتقاد التشبيه والتجسيم وأية مماثلة، وهو قوله – تعالى -: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى: 11]،
في إشارة منه إلى وجوب إثبات ما أثبته الله لنفسه، وصحَّ عن الرسول الكريم إثباته له سبحانه؛ لكون الكلام عن الصفات فرعًا عن الكلام عن الذات،
فكما لا مثل له في ذاته، لا مثل له في صفاته، وانتهى إلى القول بأن المجاز في القرآن موجود، ولكن يحظر إعماله إذا أدى إلى محظور،
وهو التعطيل الذي يلهَج به مُنكرو المجاز كثيرًا، وهذا تقييد للمجاز، وليس إبطالاً له جملة وتفصيلاً”.

كما أنصف صاحب كتاب: “البيان عند الشهاب الخفاجي”، وأعجبني كلامه كثيرًا حين جمع شتات هذه القضية الخطيرة ولخَّصها في قوله:
“من العلماء مَن يولَع في ذلك بالمجاز ويُغالي في ذلك لدرجة تجعله يقول: “إن اللغة كلها مجاز” كابن جني، ومنهم من يتشدَّد حتى يصل إلى القول
بنفي المجاز كلية من اللغة فضلاً عن وقوعه في كتاب الله – عز وجل – كابن تيمية، ومنهم من يرى أن اللغة مشتملة على المجاز بكل صوره،
لكنه يرى أن المجاز غير واقع في كتاب الله – تعالى – تنزيهًا له عن الطعن فيه بوقوع الكذب أولاً، وبنسبة العَجز لله – سبحانه وتعالى –
عن التعبير بالحقيقة ثانيًا”.

ثم خلص فضيلته أيضًا من ذلك إلى القول بأن: “من العلماء المُعتدلين من يذهب إلى أن المجاز واقع في القرآن،
إلا أنه يجب تنزيه صفات الله – سبحانه وتعالى – وكل ما أخبر به عن نفسه، عن القول بوقوع المجاز فيه؛ لأن الله – تعالى – ليس كمثله شيء”.

[28] البخاري (3017).

[29] البخاري (3014)، ومسلم (1744).

================

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى